ولا ريب لدينا أن تلك المؤسسات قد عملت لحساب ذلك العمل، وجمعت له المادة العلمية النادرة من الوثائق القديمة، وبحثت له بين قوالب الآجر وقطع الفخار ونقوش المعابد، وباللغات المسمارية سومرية أو سامية، أكادية أو كنعانية أو حثية أو آرامية أو عبرية، أو خطوط هيروغليفية متناثرة، تجد نصف البردية منها في نيويورك، والنصف الآخر في ليننجراد، وقامت على ترجمة كل تلك الوثائق للباحث الفذ؛ مع إيضاح إمكانات الاحتمال فيها، ما بين صدق نسبتها لعصرها أو لغيره، عبر مقارنات للنص بالعصور من حيث شكل الأسلوب والكتابة والبلاغيات وما يحكيه من أحداث، وهل يوافق ذلك العصر الفلاني أم ذلك؛ مع بيان مواضع الثغرات التي يمكن للرجل أن يتسلل من خلالها لدعم توجهاته، وباختصار قدمت له جهدا كان يحتاج أي باحث آخر لإتمامه، أن يعيش قرنين من الزمان على أدنى تقدير؛ مما أهله في النهاية للخروج بسفره هذا، الذي يصح لأصحابه أن يضعوه بفخر في مقدمة أسفارهم، ليقف منتصبا بين التوراة والتلمود والهجادا والمشناه والمدراش. وحكمنا هذا، الذي نزعم فيه دعم مؤسسات أكاديمية عالمية لصاحب هذا العمل، يتأسس على معرفتنا، وبحكم درايتنا، بتلك المادة الوثائقية القديمة، وعلمنا اليقيني بالحدود القصوى التي يمكن أن تصل إليها قدرات باحث فرد، لإنتاج مثل ذلك العمل.
تأسيس (2)
من المستحسن هنا أن نبدأ بالإهداء الذي صدر به «فليكوفسكي» كتابه، والذي يستحق التسجيل كاملا دون تدخل؛ لأنه يفصح بجلاء عن الرجل وهويته وأهدافه، والروح التي كتب بها كتابه. يقول:
هذا العمل مهدى إلى أبي، وأحب أن أوضح في بضعة أسطر، من هو سيمون إيمانويل فليكوفسكي؟ منذ ذلك اليوم، وهو في الثالثة عشرة من عمره، حين غادر منزل والديه، وذهب سيرا على الأقدام، إلى واحد من تلك المراكز المتخصصة في تدريس التلمود بروسيا، وحتى يوم وافته المنية في ديسمبر 1937م على أرض إسرائيل. كل ذلك العمر، مع ثروته وراحة باله وكل ما يملك، كرسه لتحقيق ما كان يوما مجرد فكرة، ألا وهي إعادة بناء نهضة الشعب اليهودي على أرضه القديمة. لقد أنجز الكثير لإحياء لغة الكتاب المقدس، وتطوير العبرية الحديثة بإنجازه مع الدكتور ج كلوشنر كمحرر للأعمال العبرية القديمة المجمعة، كما ساهم في إحياء الفكر العلمي اليهودي، بنشر كتابه المخطوطة العالمية، من خلال المؤسسة التي سبق له انشاؤها، وكانت تلك الأعمال بمثابة البنية التحتية، التي قامت عليها أعمدة الجامعة العبرية بالقدس بعد ذلك. كما كان «من أوائل من استعادوا الأرض في النقب»، أرض الأحبار، وأنشأ هناك أول مستعمرة تعاونية أطلق عليها اسم: ردحاما، وتعد اليوم من أكبر المنشآت الزراعية المتطورة شمالي النقب. ولا أعرف لمن أتوجه بالعرفان في إنجاز هذا العمل الفكري، في إعادة بناء التاريخ القديم، إن لم أتوجه به إلى أبي سيمون.
الأمر واضح من البداية، لكنه رغم وضوحه، وإمكان اتخاذ مواقف مناسبة من جانب القارئ إزاء ما سيطالع بعد الصدمة النفسية لذلك الإهداء فإن الرجل غامر وصدر به الكتاب وهو واثق تماما من قدراته، ويعلم سلفا إلى أي حد يمكن أن يؤثر في قارئه ويزحزحه عن موقفه، إن لم يجعله يتبنى في النهاية كل أطروحات الكتاب عن قناعة، وهنا قمة خطورة الرجل والكتاب.
ولعل الغرض الأساسي للكتاب قد وضح في الإهداء، في قوله «هذا العمل الفكري في إعادة بناء التاريخ القديم» وفي الفصل الأول يشرح دوافع ذلك الغرض بقوله: «لقد تبنى الكثير من الدارسين رأيا خلاصته، أن إقامة الإسرائيليين بمصر واستعبادهم وخروجهم ورحيلهم، مجرد تصورات دينية بحتة، وقد لقي هذا الرأي تعضيدا قويا، في غياب أي دليل مباشر على وقوع تلك الأحداث في الآثار المصرية القديمة، أو في المدونات البردية. وعلى العكس من ذلك تبنى آخرون وجهة نظر مضادة، فحواها أنه من العسير أن يخترع شعب أساطير عن العبودية، والتي لم يكن في الحسبان وقتها، أنها ستحفز وتخلق كرامة قومية؛ وعليه فلا بد من وجود أسس تاريخية للقصة.» ولأن «فليكوفسكي» من أصحاب وجهة النظر الثانية، فقد كرر الحديث عن دوافع الكرامة القومية لشعب إسرائيل، كما في قوله: «إن الرجوع الدائم بالذكرى اليهودية لتجربة البحر، يوحي بأن القصة كلها لم تكن من نسج الخيال ... والغريب حقا هو مثابرة الشعب اليهودي على التعلق بهذه القصة، جاعلا منها بدايته الحقيقية، وجاعلا منها في الوقت ذاته، الحدث الأكبر في حياته وتاريخه كأمة.»
ومن ثم تصبح الكارثة التي صحبت الخروج، وانشقاق البحر، الركن الأساسي في عمل «فليكوفسكي»، حتى إنه يذهب إلى أن «الخروج اليهودي من مصر - لا بد - قد حدث في قمة فوران الأحداث، وأن الكارثة بالذات، ربما يمكنها البرهنة كونها كانت الحلقة الرابطة للتاريخ الإسرائيلي بالتاريخ المصري، القديم.» ومن هنا يبدأ بتأسيس موطئ قدم لقبائل بني إسرائيل في التاريخ، ذلك التاريخ الذي لا يعرف شيئا عنهم في وثائقه، وذلك بدءا من أحداث الخروج، تلك الأحداث الأكثر أسطورية في الميثولوجيات القديمة، والتي ينجو فيها شعب إسرائيل ويغرق المصريون وفرعونهم. لكن ليجعل تلك الأحداث بعد عدة فصول - وسط إثارة رائعة حقا وأسلوب متميز وقرائن منتقاة - من أشد الأمور قبولا واعتيادية؛ بحيث لا يجد القارئ بعدها مانعا في قبول أساطير أقل إدهاشا بالكتاب المقدس، والتي سيعالجها في بقية أقسام الكتاب، والتي لا ترقي إلى مستوى شق البحر إغراقا في الأسطرة، معتمدا على إثارة الدهشة وبأسلوب المباغتة، التي يتحول فيها الواقع إلى منظومة أسطورية. بينما تتحول أحداث الأسطورة إلى وقائع حية وفاعلة.
من تلك الحادثة «حادثة البحر» ينطلق «فليكوفسكي» ليؤسس فروضه؛ تلك الفروض التي تقف بدورها كأمر نافر عسير القبول، لكنه مدهش ومثير وجديد، مع مخالفته لكل ما تم التعارف عليه حتى الآن. والفرضية الأساس عنده تبدأ من كون مدونات التاريخ القديم سواء في مصر أو الشام أو الرافدين أو حتى فلسطين ذاتها، لا تعرف شخصا باسم «موسى» رغم أهميته القصوى في التاريخ اليهودي وفي تاريخ الأديان الكبرى في الشرق الأوسط عموما ولا تعرف ملكا أسس مملكة لشعب إسرائيل باسم «شاول»، ولا عظيما باسم «داود»، ولا حكيما حاز شهرة فلكية في التاريخ الديني باسم «سليمان». كما لا يعلم علم التاريخ شيئا البتة عن دخول قبائل بني إسرائيل إلى مصر، ولا عن خروجها ولا عن بحر ينشق ويبتلع جيوش دولة عظمى آنذاك، وهو الحدث الذي كان جديرا بالتسجيل في مدونات مصر والشام والرافدين وتركيا لأهميته وخطورته. بينما على الجانب الآخر نجد الكتاب المقدس في الأسفار من سفر الخروج إلى سفر القضاة لا يذكر مصر إطلاقا، ولا يحكي أحداثا عنها كعادته، وهو زمن امتد زهاء أربعة قرون، رغم المفترض تاريخيا أن الخروج قد حدث زمن الأسرة الثامنة عشرة الفرعونية، أولى أسرات الدولة الحديثة المعروفة بدولة الإمبراطورية، وهو زمن كانت مصر تسيطر فيه على بلدان المتوسط الشرقية، وبضمنها فلسطين.
ومن هنا يتأسس العمل كله على فرضية تذهب إلى أن ثمة خطأ وقع في تأريخ التاريخ المصري القديم - وهذا رأي «فليكوفسكي» - توقف معه تاريخ مصر عند لحظة محددة مع نهاية الأسرة الثانية عشرة في الدولة الوسطى؛ مع دخول الهكسوس إلى مصر. ولأن هؤلاء الغزاة كانوا بدوا برابرة لا يحترمون الحضارة، ولا يعرفون حتى الكتابة، فقد حطموا حضارة مصر، ولم يحاولوا أن يتعلموا شيئا من المصريين، لذلك لم يتم تدوين شيء ذي بال طوال فترة الاحتلال. هذا بينما كان بنو إسرائيل وقت دخول الهكسوس إلى مصر، في طريق الخروج لشبه جزيرة سيناء، ووقت فوران أحداث جسام لم تسمح بتدوين واضح كامل لتلك الأحداث. أما كون بني إسرائيل كانوا في مصر قبل دخول الهكسوس، وفي زمن أسبق سمح لهم بالتكاثر مدة طويلة في أرض النيل ، فإن ذلك سيعود بنا إلى عهد بناة الأهرام في الدول القديمة. ومكمن الخطأ عند فليكوفسكي يكمن في أن المؤرخين قد قاموا بوصل نهاية الأسرة الثانية عشرة آخر أسر الدولة الوسطى (1788ق.م) ببداية الأسرة الثامنة عشرة أولى أسر الدولة الحديثة بعد التحرر من الهكسوس (1580ق.م)، ولم يتركوا للأسر من الثالثة عشرة إلى السابعة عشرة سوى مائتي عام تزيد قليلا، يتم تقسيمها على مجموعة الأسر المصرية والهكسوسية خلال خمس أسر كاملة. بينما يرى «فليكوفسكي» أنه قد سقط من ذلك التاريخ - بالإضافة إلى المائتي عام المفترضة - ما لا يقل عن أربعمائة عام كاملة - هي زمن قضاة إسرائيل، وهي بالضبط زمن احتلال الهكسوس لمصر؛ وعليه فيجب أن تكون بداية الأسرة الثامنة عشرة التي أسسها «أحمس» الذي قضى على الهكسوس، واقعة في تاريخ يبعد عما حدده المؤرخون بأربعة قرون إضافية؛ أي يجب أن تكون بدايتها بين 1180 و1100ق.م على وجه التحديد.
والخطورة عند «فليكوفسكي» في ذلك الخطأ، لا تكمن في اختلال تاريخ مصر، أو في سقوط ذكر بني إسرائيل من التاريخ، إنما ينسحب الخطأ على عمليات التأريخ لحضارات المنطقة بكاملها؛ حيث كان التاريخ المصري هو المعيار الذي قيست بالنسبة إليه عهود الحضارات الأخرى وتم تزمينها وفقه. ومن هنا جاز له القول: «إن تاريخ الآشوريين البابليين والفرس قد تم تشويهه وتخريبه، وتاريخ الإمبراطورية الحثية (تركيا القديمة) قد اخترع بأكمله، وكذلك التاريخ اليوناني في عصره البرونزي لم يوضع في موضعه الحقيقي من السياق الزمني، كما تم تشويه التاريخ السابق للإسكندر الأكبر ... ومن ثم يتضح أن هناك ملوكا قد وضعوا في مواضع أحفاد أحفادهم، ووصفت إمبراطوريات وهمية، بينما كانت قطع الآثار نتاج قرون أخرى، وعصور تخالف ما ينسب إليه، وكان هذا هو الحال بالنسبة للإمبراطورية الحثية وفنونها، وكانت كذلك أيضا، بالنسبة للشعوب الحورية ولغاتها لأنها ببساطة لم توجد أصلا.» ومن هنا كانت فوضى العصور في حاجة إلى «فليكوفسكي».
अज्ञात पृष्ठ