كثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون، هؤلاء إلى الحياة الأبدية وهؤلاء إلى العار، للازدراء الأبدي. (دانيال، 12: 2)
وهكذا وجد الحل الأمثل لتبرئة يهوه الذي سيعطي كل ذي حق حقه عند حلول ذلك اليوم لكن يجب ألا نتصور أن دانيال فعل فعل المصريين بتمامه فتصور مملكة القديسين الخالدة خارج الأرض؛ لأنها عند دانيال يجب أن تحدث على الأرض وبشكل واقعي في قيامة جسدية، وأن كل هذا سيحدث لقيام مملكة شعب الرب في أرض فلسطين لا في جنة سماوية أو تحت أرضية. ولم تبلغ هذه الفكرة تطورها الآتي إلا مع أسفار الأبوكريفا غير المعتمدة في الكنيسة الأرثوذكسية، ثم بعد ذلك مع مجيء الدعوة المسيحية، ليستقيم عودها وتكتمل صورتها بعد المسيحية بستة قرون في بلاد العرب مع ظهور العقيدة الإسلامية؛ حيث أمكن تبرئة الإله نهائيا مما يحدث من كوارث لعباده المخلصين.
التضليل الصهيوني (فليكوفسكي نموذجا)
(1) التأسيس
تأسيس (1)
ربما سمحت لي علاقة امتدت زمنا بالتراث القديم للمنطقة أن أجازف بالزعم: أنه إذا كان النبي «موسى» - حسب المأثور التوراتي - هو المؤسس الحقيقي للديانة اليهودية، والعقدة الرابطة للقبائل التي ائتلفت في كيان كونفودرالي عرف بعد ذلك بشعب إسرائيل، وأنه إذا كان «شاول» و«داود» و«وسليمان» هم أصحاب الفضل في إقامة أول كيان سياسي مركزي لذلك الشعب، فإن «إيمانويل سيمون فليكوفسكي» أو «عمانوئيل شمعون» هو صاحب أهم وأخطر وأثرى تنظير تاريخي لما يسميه هو «القومية الإسرائيلية»، في كتابه الذي اكتسب شهرة عالمية في الأوساط العلمية كافة، والموسوم بعنوان «عصور في فوضى»، والذي انتهى من كتابته في شهر فبراير من عام 1952م.
1
وقبل قراءتي لذلك الكتاب، والتي جاءت متأخرة بل ومتأخرة جدا فيما يبدو، قضيت وقتا أحاول فيه البحث لفهم سر الادعاء الإسرائيلي، بأن أسلافهم الغوابر هم بناة أهرام مصر، ومعظم أعلامها الآثارية، وأنهم أصحاب الأصل الرفيع لثقافات المنطقة الشامية منذ فجر التاريخ. ولما لم يهدني البحث إلى تفسير أي من تلك المعاني، لم أجد سوى أن القوم قد استمرءوا زهوا تاريخيا زائفا، وأن الأمر لا يزيد عن كونه مثل كثير من السذاجات والأساطير والمبالغات المسطورة بكتابهم المقدس، الذي هو كتاب لتاريخهم في المقام الأول؛ حيث اكتسبت فيه أحداث التاريخ وتلبست بألوان عديدة من المبالغات المغرقة في الأسطرة، واكتسبت ذلك الادعاء كلون من مغامرات يشوع وشمشون وداود وسليمان. لكني عندما طالعت «عصور في فوضى»، اكتشفت أن الأمر جد خطير ، وأخطر بكثير من كتابات أسطورية قديمة كانت تلائم بنية التفكير في عصرها، وأن احتساب دعواهم كبناة وكعمادة أساسية لحضارة المنطقة في عصرها القديم مجرد سذاجة لهو موقف في منتهى السذاجة؛ لأن في الأمر أمرا وللادعاء حيثيات وقرائن وشواهد ودلائل وبراهين، قام على جمعها وتصنيفها بأسلوب عصرنا، وصياغتها بالمنهج العلمي الصارم، رجل من نوع نادر، وباحث من طراز فذ، هو «فليكوفسكي».
ورغم الواضح للوهلة الأولى، أن «عصور في فوضى» كتاب يخدم غرضا سياسيا وعنصريا من ألفه إلى يائه، فإن الأوضح كان قدرة المؤلف على البحث الدءوب الذي لا يكل، وامتلاكه جلدا على التقصي المضني لا يبارى، وسعيا لا يفتر - من أول كلمة خطها إلى الختام - وراء القرائن والبراهين التي تدعم فروضه وطروحاته لتحويلها إلى بناء راسخ القواعد؛ مع لهاثه خلال حقبة زمنية طويلة مكتظة بالأحداث والمتغيرات، وفي مساحة شاسعة من أثرى مساحات العالم القديم بالراسب الثقافي الذي لم يزل فاعلا إلى اليوم. وبين متغيرات اجتماعية واقتصادية وسياسية تلاحقت في كافة الاتجاهات، وتركت بصماتها على نقوش ورسوم ودلالات حفرية، وكتابات ذات طرائق مختلفة باختلاف الأصول اللغوية لمواطن متباينة؛ مما كان كفيلا بجعل أي باحث يقبع وسط شرك من خيوط عنكبوتية متشابكة وكثيفة، يحتاج فكها وفحصها - وإعادة نظمها مرتبة - إلى صبر قدرة ووعي نفاذ، وربما كان البحث مع البدء عن طرف الخيط فيها، لا يزيدها إلا تشابكا واضطرابا. وهنا سر عظمة الرجل، الكامن في هذا القدر العجيب من الصبر، الذي لازمه طوال رحلته مع ذلك الرتل المختل وتقديمه، في سياق قصصي لين سهل، صيغ بلون روايات التحري المباحثية؛ مما جعله - في رأينا - بحق، صاحب أخطر تنظير معاصر لما يسمى القومية الإسرائيلية؛ بحيث لا يتخلف درجة عن موسى أو سليمان، وذلك بعينه ما جعله «النوتة» الأصلية لكل المعزوفات الصهيونية، التي لم تفعل أكثر من إعادة توزيع المعزوفة حسب المقامات المطلوبة. وهذا أيضا ما جعله صاحب أخطر فكر يشكل قدرا هائلا من الإقناع، حتى لدى الخصوم السياسيين، بل ولدى الخصوم المصيريين، وهذا أيضا ما جعله - بعقد المقارنات - يزيد في تقزيم مؤسساتنا الفكرية، التي لم تقدم على عراقتها وممكناتها عملا على ذات المستوى، وربما جاز لتلك المؤسسات مراجعة مناهجها وطرائقها وأدواتها، التي أثبت هذا العمل مدى هشاشتها وهزالها رغم منتجها الكمي الضخم.
ولا يجوز أن يفهم من كلامنا هنا، دعوة إلى رد من النوع ذاته، رد عنصري أو قومي، فهذا أبعد ما يكون عما نريد، لكن ربما طلبنا عملا على ذات الدرجة من الأصولية العلمية، وعلى ذات القدر من التمكن من أدوات العلم، والتي تمكن بها «فليكوفسكي» من تطويع مادته التاريخية، لخدمة أغراض أبعد ما تكون عن العلمية؛ مع رغبتنا في تسجيل ملحوظة لا بد منها في حالة المقارنة بين عمل مثل «عصور في فوضى» وبين أعمال أخرى تزحم أرفف مكتباتنا، ولا حول لها ولا قوة إلا بالله طبعا. وتكاد تأخذنا الريب والظنون بشأن ذلك الرتل من الزحام في المكتبة العربية، والذي يفصح - بتناوله - عن عمد للطرق السهلة، والابتعاد عن مكامن الإشكاليات الحقيقية في التاريخ القديم؛ لما يحتاجه تناولها من جلد وصبر ودأب. ذلك في الوقت الذي نؤكد فيه أن «عصور في فوضى» لا يمكن احتسابه نتاج باحث فرد هو «فليكوفسكي»؛ فلا ريب يراودنا أنه كان «المايسترو» الذي خطط وقاد ووجه فريقا من المتخصصين بالمراكز الأكاديمية العالمية، والتي بدون معونتها ودعمها ما كان ممكنا إخراج مثل ذلك العمل.
अज्ञात पृष्ठ