وهكذا نعلم أن فرعون يوسف قد مات، أو انتهى أمره بشكل ما، ليخلفه على العرش فرعون آخر، تحول بنو إسرائيل في عهده من التكريم والسيادة، وأكل دسم الأرض، إلى التسخير في طين الأرض؛ لأن الفرعون الجديد لم يكن يعرف يوسف! واستعبدهم في بناء مدينتين للمخازن هما «فيثوم» و«رعمسيس». وكان واضحا أنه يحمل روحا عدائية شديدة، وشكا في علاقات الإسرائيليين بأعداء البلاد، مع رغبة واضحة في الانتقام منهم، لأمر غير واضح بالكتاب المقدس، حتى إنه أمر بقتل كل ذكر يولد من بينهم «إن كان ابنا فاقتلاه، وإن كان بنتا فتحيا ... كل ابن يولد تطرحونه في النهر، لكن كل بنت تستحيونها» (خروج، 1: 16-22).
وفي ظل هذه الأزمة ولد «موسى» أشهر رجل في تاريخ بني إسرائيل، وهو «موسى بن عمران بن قهات بن لاوي»، ولاوي هو أحد الأسباط أبناء يعقوب (إسرائيل)، وذلك يعني أن موسى هو النسل الرابع ليعقوب. وقد أنجبه عمران بزواجه من عمته «يوكابد»، وأنجب منها أيضا هارون أخاه الأكبر، وشقيقتها مريم (خروج، 6: 14-20). ورغم أن التوراة تؤكد لنا مسألة قتل ذكور الإسرائيليين من أطفال، فإنها لم توضح لنا كيف نجا هارون من هذا المصير، وإن فصلت أمر نجاة موسى؛ حيث وضعته أمه في سفط من البردي على حافة النهر، خوفا عليه من القتل، وعثرت عليه ابنة فرعون، فرقت له رغم علمها أنه طفل إسرائيلي وتبنته ، وأرسلته مع أمه كمرضعة له بالأجر، «ولما كبر الولد جاءت به إلى ابنة فرعون، فصار لها ابنا، ودعت اسمه موسى، وقالت إني انتشلته الماء» (خروج، 2: 10).
وقد تعامل «سيجموند فرويد» مع اسم «موسى» كما تعامل «جيمس هنري برستد»، وأكد أنه اسم مصري، وأنه بالترجمة الدقيقة يجب نطقه صحيحا «مس»؛ ومن ثم افترضوا أنه كان يسبقه اسم إله مصري، باعتبار «مس» في المصرية القديمة تعني «يلد» أو «أنجب» غرارا على أسماء مثل «تحوت مس» أي الإله تحوت أنجب ولدا، و«رع مس» أي إله الشمس أنجب ولدا، و«أح مس» أي إله القمر أنجب ولدا. لكن من جانبنا نرى ترجمة «موسى» بهذا الشكل متسرعة وغير دقيقة، ولو دققنا النظر في رواية التوراة، سنجد القول، «ودعت اسمه موسى قائلة: إني انتشلته من الماء» لا يحتاج إلى تخريجات؛ لأن «الماء» باللسان المصري القديم «مو»،
22
وبذات اللسان نجد «سا» تعني «ابن»،
23
والاسم هنا ملصق من مقطعين ويفيد معناه «ابن الماء»، وهو اسم يتناسب مع الموقف حيث وجدته ابنة الفرعون في سفطة على سطح الماء، ولم تجد اسما يناسبه - وهي لا تعلم له نسبا - سوى تلك التسمية البليغة، وهي بدورها تسمية مصرية قحة.
ونتابع الأحداث مع رواية التوراة فتقول: «وحدث في تلك الأيام، لما كبر موسى، أنه خرج إلى إخوته لينظر في أثقالهم، فرأى رجلا مصريا يضرب رجلا عبرانيا من أخوته، فالتفت إلى هنا وهناك، ورأى أن ليس أحد، فقتل المصري وطمره في الرمل. ثم خرج في اليوم الثاني، وإذا رجلان عبرانيان يتخاصمان، فقال للمذنب: لماذا تضرب صاحبك؟ فقال: من جعلك رئيسا وقاضيا علينا؟ أمفتكر أنت بقتلي كما قتلت المصري؟ فخاف موسى وقال: حقا قد عرف الأمر. فسمع فرعون هذا الأمر فطلب أن يقتل موسى، فهرب موسى من وجه فرعون، وسكن في أرض مديان، وجلس عند البئر، وكان لكاهن مديان بنات ، فأتين واستقين وملأن الأجران ليسقين غنم أبيهن، فأتى الرعاة وطردوهن، فنهض موسى وأنجدهن وسقى غنمهن، فلما أتين إلى رعوئيل أبيهن قال: ما بالكن أسرعتن في المجيء اليوم؟ فقلن «رجل مصري أنقذنا» من أيدي الرعاة، وإنه استقى لنا أيضا، وسقى الغنم، فقال لبناته: وأين هو؟ لماذا تركتن الرجل؟ ادعونه ليأكل طعاما، فارتضى موسى أن يسكن مع الرجل، فأعطى موسى صفورة ابنته» (خروج، 2: 16-21).
وفي مديان يأتي الحدث الأهم والجديد، في شئون العقيدة الإسرائيلية؛ «حيث يظهر لبني إسرائيل إله جديد»، يلتقي بموسى في مديان وهو يرعى غنم حميه «رعوئيل» أو «يثرون»، وذلك في رواية المقدس: «وأما موسى فكان يرعى غنم يثرون حميه كاهن مديان، فساق الغنم إلى ما وراء البرية، وجاء إلى جبل الله حوريب، وظهر له ملاك الرب بلهيب نار من وسط عليقة، فنظروا وإذا العليقة تتوقد بالنار، والعليقة لم تكن تحترق ... ناداه الله من وسط العليقة وقال: ... اخلع حذاءك من رجليك؛ لأن الموضع الذي أنت واقف عليه أرض مقدسة. ثم قال: أنا إله أبيك، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب ... إني قد رأيت مذلة شعبي الذي في مصر ... فنزلت لأنقذهم من أيدي المصريين، وأصعدهم من تلك الأرض إلى أرض جيدة وواسعة، إلى أرض تفيض لبنا وعسلا، إلى مكان الكنعانيين والحيثيين والأموريين والفرزيين والحويين واليبوسيين ... فالآن هلم فأرسلك إلى فرعون وتخرج شعبي بني إسرائيل من مصر ... فقال موسى لله: ها أنا آتي إلى بني إسرائيل، وأقول لهم: إله آبائكم أرسلني إليكم، فإذا قالوا لي ما اسمه؟ فماذا أقول لهم؟ فقال الله لموسى أهيه الذي أهيه، وقال هكذا تقول لبني إسرائيل: أهيه أرسلني إليكم. وقال الله أيضا لموسى: هكذا تقول لبني إسرائيل: يهوه إله آبائكم، إله إبراهيم وإله إسحاق وإله يعقوب أرسلني إليكم، هذا اسمي إلى الأبد» (خروج، 3: 1-15). «قل لبني إسرائيل أنا الرب، وأنا أخرجكم من تحت أثقال المصريين وأنقذكم من عبوديتهم، وأخلصكم بذراع ممدودة وبأحكام عظيمة، وأتخذكم لي شعبا، وأكون لكم إلها» (خروج، 6: 6-7).
وهكذا التقى موسى الإله «أهيه» أو «يهوه»، وفي موضع آخر بالمقدس يأتي اسمه «ياه». انظر: (مزامير، 48). ويلاحظ أن كاتب هذا الجزء، يصر على أن هذا الإله كان إلها لإبراهيم وإسحاق ويعقوب، إصرارا لا يبرره إلا محاولة تثبيت أمر جديد بإلقائه في القديم، ولا يلتقي مع عدم معرفة بني إسرائيل بمصر لهذا الإله أو اسمه، مع استعدادهم بحكم تعاملهم في مصر مع آلهة عديدة لقبول الإله الجديد، فقط سيكون التساؤل عن اسمه (؟!)، ناهيك عن كونه لا يلتقي إطلاقا ولا حتى فونيطيقيا بالإله «إيل»؛ لذلك نجد موسى يتشكك في إمكان قبول بني إسرائيل لذلك الإله في قوله ليهوه: «ولكن، ها هم لا يصدقونني ولا يسمعون لقولي» (خروج، 4: 1)، فيعطيه يهوه دلائل إقناع إعجازية لم تظهر من قبل مع «إيل»، «فقال له الرب: ما هذه في يدك؟ فقال عصا، فقال اطرحها للأرض، فطرحها إلى الأرض فصارت حية، فهرب موسى منها، ثم قال الرب لموسى: مد يدك وأمسك بذنبها، فمد يده وأمسك به فصارت عصا في يده. ثم قال الرب أيضا: أدخل يدك في عبك، فأدخل يده في عبه ثم أخرجها، وإذا يده برصاء مثل الثلج، ثم قال له: رد يدك إلى عبك فرد يده إلى عبه ثم أخرجها من عبه وإذا هي عادت مثل جسده» (خروج، 4: 2-7)، أما الفاصل في شأن يهوه كإله جديد، فيأتي في عبارة ملتوية للكاتب التوراتي تفصح بجلاء في قول يهوه لموسى: «أنا ظهرت لإبراهيم وإسحاق ويعقوب بأني الإله القادر على كل شيء «وأما باسمي يهوه فلم أعرف عندهم»» (خروج، 6: 2-3).
अज्ञात पृष्ठ