يا سادة يا كرام، إن حائط المبكى كان - أو حائط البراق إن شئتم أو الأقصى أو بقايا الهيكل كما تقول يهود - وسواء كان هيكل سليمان خيالا أو حقيقة موجودة في التوراة وكتبنا التراثية جميعا، وسواء كان هذا الخيال أو الحقيقة تحت المسجد الأقصى أو تحت مسجد القبة أو في موضع خال بساحة الحرم أو خارج الأسوار، فهو ما دام يقع في فلسطين فهو أرض فلسطينية، كما أن مكة أرض سعودية، وكما أن قم أرض إيرانية، وكما أن النجف أرض عراقية. هي أرض فلسطينية تم احتلالها بالقوة المسلحة قوة واقتدارا، ولا حق ليهود فيها إلا قلبيا، كما لا حق لمسلم غير فلسطيني فيها إلا قلبيا، واختصار القضية جميعا في القدس وتحويلها إلى فضاء الدين ضياع لكل الحقوق؛ لأن حقوق اليهود بمنطق الدين أوضح في نظر العالم المسيحي من أي حقوق ندعيها، والأطرف أنها أكثر وضوحا في خطابنا الديني وفي مأثورنا الإسلامي بالجملة.
إذن ... ولا زلنا نتساءل ...
هل قصد فضيلته ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا» مدارس نقد الكتاب المقدس المنتشرة في العالم، بحسبان محققيها من أهل العلم، هم أشهر وأعلم من سلك هذا الدرب؟ وأصبح لها كراسي أستاذية في جامعات العالم المتقدم، دون غضاضة، ولا محاكمات تكفير وخروج عن المعلوم من الدين بالضرورة، وليس عندهم مجمع كمجمعنا الأزهري ليصادر الفكر ويجرم الرأي ويحرم الكلمة، رغم أن هذه المدارس تستخدم المنهج العلمي بمنتهى الصرامة مع الكتاب المقدس دون أن تجامل أو تحذر. وقد أحال معظمها حكايا الكتاب المقدس إلى فضاء الخرافة.
هنا لن نجد بالطبع مقصد مولانا ب «المحققين من أهل العلم الذين أجمعوا»؛ لأنهم إن أجمعوا أو لم يجمعوا فهو فكر مستنكر من أصحاب خطاب الحق الديني المسلمين قبل اليهود، بل إن بين هؤلاء الأساتذة المحققين نقاد المقدس في الجامعات العالمية عددا لا يستهان به من اليهود أنفسهم؛ فقد تحرك التاريخ بالإنسان في العالم المتقدم في الشمال، وتركنا في زمن غير زمانهم رغم أننا نعيش على كوكب واحد. وبينما نردد مقولات العزلة والخوف على الهوية من الغزو الثقافي، تحولنا إلى «جيتو» مغلق يتحدث إلى نفسه، وبينما انفتح الجيتو اليهودي على العلم والحداثة والعالم، وبينما نحكم نحن الأقفال على الأدمغة خشية الفيروسات القادمة من البلاد المتقدمة، تحركت الدنيا إلى فضاء معرفي ومنهجي جعل الهوة بين زماننا وزمانهم سحيقة.
إذن فهل قصد مولانا المؤرخين بالمعنى العلمي والدقيق للكلمة؟ لكن في علم التاريخ كعلم لن نجد مبتغانا بالمرة؛ لأنه حسب قواعده الدقيقة وما بيده من معرفة هائلة أكثرها مدته به منطقة الشرق الأوسط، لن نجد لديه وثيقة تاريخية واحدة ولا مدونا على حجر أو على خشب، ولا في حفائره الأركيولوجية (رغم الهوس الحفري الأركيولوجي الإسرائيلي بهذا الشأن)، لا شيء عن قصة يعقوب، ولا داود ولا سليمان ولا أبيهم الأبعد إبراهيم. ورغم الإسهاب الشديد الذي لحق بملك سليمان وحديث مأثورنا الإسلامي عن خضوع الأرض كلها لحكمه من الطيور إلى الوحوش إلى الإنس والجن والعفاريت والحشرات، فإن التاريخ المدون بوثائقه لا يعرف عن هذه الأمور شيئا البتة بينما تجد لأجدادنا الملعونين بالمقدس بدل الصرح الشاهد آلافا، هذه لغة العلم لكنك لو صرحت بها في مواجهة الإسرائيليين «سيواجهك المسلمون نيابة عنهم» وتصبح من المارقين، وسيحاكمك الأزاهرة كما سبق وحاكموا صاحب هذا القلم أمام محاكم الدولة؛ لأنه قام يرد على الصهاينة بمنطق العلم وحده.
أترون إلى أين وصل الالتباس؟ يبدو أننا بداية نحتاج إلى فض اشتباك بين المقدسين اليهودي والإسلامي، وحتى نفعل ذلك، أو لا نفعل، فإن علماء إسرائيل يدركون حقيقة علم التاريخ وأنهم لا يملكون دليلا ماديا واحدا على مزاعمهم؛ لذلك يسحبوننا إلى المنطقة التي يكسبون فيها بالنقاط وبالقاضية، منطقة الحقوق الدينية والتاريخية التي هي أوضح عند العالم من حقوقنا. وحتى يتم إفراغ القضية من محتواها الحقيقي؛ الناس، والإنسان، صاحب الأرض المطرود من بيته وأرضه وناسه، ينفخ يديه في هذا البرد القارص، برد انصراف الدفء الإنساني من حوله، حتى ممن يتصورهم أهله وأصحاب قضيته، إلى الدفاع عما يقولون إنه من أملاك الله، والله غالب.
مصادر استشهادات البحث
الكتاب المقدس.
القرآن الكريم. (1)
سوسة (د. أحمد): «العرب واليهود في التاريخ»، دار العربي للإعلان والطباعة والنشر، دمشق، د.ت. (2)
अज्ञात पृष्ठ