Islamic Civilization: Its Foundations, Means, Applications by Muslims, and Its Impact on Other Nations
الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم
प्रकाशक
دار القلم
संस्करण संख्या
الأولى المستكملة لعناصر خطة الكتاب ١٤١٨هـ
प्रकाशन वर्ष
١٩٩٨م
प्रकाशक स्थान
دمشق
शैलियों
المقدمات:
فاتحة كتاب الحضارة الإسلامية أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم:
الحمد لله الرحمن الرحيم، ذي السلطان العظيم، والمن القديم، والوجه الكريم، والكلمات التامات، والدعوات المستجابات، والمشيئات النافذات، الذي لا يتم شيء من ذوي الإرادات إلا بإذنه وتيسيره، وإمداده بالحول والقوة، فإنه لا حول ولا قوة إلا به.
والصلاة والسلام على خاتم أنبياء الله ورسله محمد بن عبد الله الذي ختم به وبما أنزل عليه رسالاته للناس، وعلى سائر الأنبياء الطاهرين الأبرار، والمرسلين المصطفين الأخيار الذين بلغوا رسالات ربهم، فأدوا الأمانة، وجاهدوا في الله حق جهاده، وكانوا بناه مخلصين صادقين في صرح الحضارة المجيدة التي اصطفاها الله للناس أجمعين، وكان كل لاحق منهم عاملًا في إكمال بنائه النظري الفكري والتدريب على بنائه العملي، حتى ختم الله ذلك بمحمد بن عبد الله العربي الهاشمي الأمين، الذي أنزل عليه القرآن المبين، ومثله معه من وحي وتبيين.
وبعد:
فقد مضى قرابة "٢٨" سنة على إخراجي لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" الذي كنت قد وعدت فيه بأن أُتِم -إن شاء الله- الخطة العامة لكتاب "الحضارة الإسلامية" بكتاب لاحق يشتمل على البابين الثالث والرابع من الخطة
1 / 7
- صورة من تطبيقات المسلمين للحضارة الإسلامية النظرية.
- لمحات من تأثير الحضارة الإسلامية وتطبيقاتها في سائر الأمم التي لم تدن بالإسلام، ولكنها التقت بالمسلمين لقاء مودة أو لقاء خصام.
وخلال هذه المدة الطويلة قضى الله ﷻ بأن تشغلني عن إكمال الكتاب بهذين البابين اجتهادات في إخراج مؤلفات كثيرات زادت على "٢٨" مؤلفًا، في موضوعات مختلفات، وبعد طبعتين من كتاب "أسس الحضارة ووسائلها" توقفت دار القلم بدمشق التي تنشر كتبي عن تجديد طباعته؛ لانشغالها بطباعة المؤلفات الأخرى.
وقبيل أواخر سنة "١٤١٧هـ" اتصل بي صاحب دار القلم وطلب مني أن أوافق على إعادة طبعه، فألهمني الله ﷻ أن أطلب منه التريث، لعل الله جلت قدرته يقضي لي بإكمال ما سبق أن وعدت به، فوجهت العزيمة والمهمة، وسألت الله العون والتوفيق والإمداد بالحول والقوة، وشرعت في إعادة النظر في الكتاب، وفي كتابة البابين الذين كنت وعدت بأن أوافي القراء بهما إن شاء الله ﵎.
وقد شاء الله بفضله ومنه وكرمه بعد نحو "٢٨" عامًا بأن أحقق ذلك؛ إذ كان وعدي معلقًا على مشيئته ﷻ كما أمرنا في كتابه بقوله: ﴿وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا﴾ [الكهف: ٢٣، ٢٤] .
واخترت أن أجعل الأصل واللاحق في كتاب واحد بعنوان "الحضارة الإسلامية" أسسها ووسائلها وصور من تطبيقات المسلمين لها، ولمحات من تأثيرها في سائر الأمم.
فالحمد لله على ما يسر ووفق وقضى، وأسأله أن يعينني على ذكره وشكره وحسن عبادته.
والآن أدفع الكتاب للنشر، بعد أن تمت العناصر التي كانت مرسومة في خطته.
1 / 8
والله أسأل أن ينفع به علمًا للجاهلين، وتنبيهًا للغافلين، وإقناعًا للشاكين، وتبصيرًا للمتأثرين بزيوف الضالين المضلين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الطائف في صباح يوم السبت ١٣ من ربيع الآخر ١٤١٨هـ الموافق لـ"١٦" من شهر آب "أغسطس" ١٩٩٧م.
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني
1 / 9
مقدمة الطبعة الثانية لكتاب "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها":
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، وجعل دينه الذي اصطفى للناس دين حضارة سليمة وارتقاء صحيح إلى مجد الإنسان في دار الابتلاء ثم في دار الجزاء.
وبعد: فأقدم لقراء العربية الطبعة الثانية من كتابي هذا "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها" بعد أن نفدت نسخ الطبعة الأولى منه، سائلًا الله تعالى أن ينفع به شباب هذه الأمة، فيعملوا على بناء الحضارة الإسلامية بناء صحيحًا، مستهدين في ذلك بكتاب الله وسنة رسوله محمد خاتم الأنبياء والمرسلين -صلوات الله وسلامه عليه- والمتمم لرسالات من سبقه من رسل الله.
والمطلع على هذا الكتاب من ذوي الثقافة الواعية، يرى أنني في تصور الحضارة الإسلامية وتحديد مفاهيمها قد جعلت مرجعي كتاب الله وسنة رسوله وسيرته في حياته، ولم تحرفني عن ذلك مفاهيم قاصرة أو منحرفة للحضارة، أخذت بها الحضارات غير الإسلامية القديمة والحديثة. والحق الذي جاء به الإسلام بطريقة فذة كاملة لا بد أن يتفق مع عناصر الحق الموجودة لدى المفاهيم الإنسانية، ويختلف مع عناصر الباطل الموجودة لديها، فما كان من لقاء بينه وبينها فهو اتفاق في الحق، وما كان من افتراق بينه وبينها فهو اختلاف بين الحق الذي جاء هو به، والباطل الذي أخذت هي به.
1 / 11
رب أرزقنا العلم الصحيح، والعمل الصالح، والإخلاص في القول والعمل، واجعلنا هادين مهديين، ولا تجعلنا ضالين ولا مضلين، بفضلك ومنك وكرمك يا رب العالمين.
مكة المكرمة ١/ ١/ ١٣٩٨هـ
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني
1 / 12
فاتحة كتاب؛ "أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها":
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسله منشئي الحضارات الإنسانية الراقية، وفاتحي سبل التقدم والرقي الإنسانيين، وأتم الصلاة والتسليم على من كملت ببعثته الأسس الحضارية محمد النبي العربي الذي اصطفاه الله لتبليغ رسالته للناس جميعًا، فأدى الأمانة، وأخلص النصيحة، ووضع الإنسانية بتعاليمه وتربيته في طريق المجد الصاعد إلى قمم الحضارة المثلى الفكرية والروحية والنفسية والمادية، الفردية والاجتماعية، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان من الذين أسهموا في بناء حضارة المسلمين، مستهدين بهدي كتاب الله، وسنة رسوله، وبعد فقد كلفت تدريس مادة "الحضارة الإسلامية" في كلية الشريعة والدراسات الإسلامية بمكة المكرمة، بدءًا من العام الدارسي ١٣٨٩-١٣٩٠ للهجرة النبوية، فأمعنت النظر في هذه الحضارة المجيدة، فوجدت أن البحث فيها لا بد أن يتناول عدة جوانب تقع في مخطط كلي عام ذي أربع شعب:
الشعبة الأولى: البناء الفكري لهذه الحضارة، وهو يشمل الأسس الفكرية، والكليات الكبرى التي تقوم عليها هذه الحضارة.
الشعبة الثانية: وسائل بناء هذه الحضارة بناءً واقعيًّا.
الشعبة الثالثة: أثر البناء الفكري للحضارة الإسلامية، وأثر وسائلها في المسلمين، ونماذج وأمثلة مما أنجزه المسلمون من أعمال حضارية، دفعتهم إليها أسس الحضارة الإسلامية.
الشعبة الرابعة: أثر الحضارة الإسلامية في الأمم الأخرى التي احتكت بالمسلمين، غالبة أو مغلوبة.
1 / 13
ومن أجل ذلك قسمت البحث في هذه المادة العلمية إلى أربعة أبواب، فجعلت لكل شعبة من الشعب الآنفة الذكر بابًا خاصًّا بها، التزامًا بمتطلبات التقسيم المنطقي السليم، وتسلسلًا مع ما تمليه طبيعة البحث العلمي المتدرج من أسس موضوع البحث إلى فروعه، فثمراته، فكل مظاهر زينته.
وبعد البحث المقرون بشيء من الأناة والتبصر كان هذا الكتاب الذي أقدمه إلى طلاب المعرفة، عسى أن يستنير به المستبصرون، وينتبه به الغافلون، ويصحو به المفتونون، ويفرح به المؤمنون.
وكلي أمل ورجاء أن يعود المسلمون إلى رشدهم، ويأخذوا بأسباب الحضارة الإسلامية المجيدة، حتى يعود لهم مجدهم الغابر، ومجد جديد يبنونه عليه في ارتقاء وتقدم تتطلبهما حاجات التطلع الإنساني إلى الكمال.
والله أسأل أن يهيئ للمسلمين وسائل النصر والتأييد، والرجوع إلى مركز القيادة الذي كانوا يحتلونه من قبل يوم كان الإسلام فيهم عقيدة وعملًا، ولقد تصادف أيها القارئ الكريم كثرة في الاستشهادات القرآنية بالنسبة إلى بعض البحوث، والداعي إلى ذلك أن البحوث أبكار، ومما تختلف فيه وجهات الأنظار، وقد أردت أن تشاركني ما استبان لي منها بالتأمل، فرأيت أن أضع بين يديك الشواهد القرآنية، وما تتضمنه من دلالات واضحات. وعلى الله قصد السبيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل.
مكة المكرمة في ١/ ٦/ ١٣٩٠هـ
عبد الرحمن حسن حنبكة الميداني
1 / 14
الفصل الأول: تحليل معنى الحضارة وموقف الإسلام من التقدم الحضاري
المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري
...
المقولة الأولى: تحليل معنى الحضارة والسبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري
١- تحليل معنى الحضارة:
إذا كانت الحضارة تعني في أصل اللغة إقامة مجموعة من الناس في الحضر، أي في مواطن العمران، سواء كانت مدنًا أم حواضر أم قرى، فإن معناها قد توسع عند المؤرخين والباحثين الاجتماعيين حتى صار شاملًا لجميع أنواع التقدم والرقي الإنسانيين؛ لأنهما لا يزدهران إلا عند المستقرين في مواطن العمران.
وبإحصاء صور التقدم والرقي عند الإنسان نستطيع أن نرجعها إلى الأصناف الثلاثة التالية:
الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقديم العمراني والزراعي والصناعي والصحي والأدبي والفني، والتقدم في الإنتاج الحيواني، واستخراج كنوز الأرض، والاستفادة من الطاقات المنبثة فيها، وما أشبه ذلك. ويدخل ضمن هذا جميع أنواع العلوم والثقافات التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الاجتماعي الشامل للنظم الإدارية، والحقوقية، والمالية، والأحوال الشخصية، والشامل للأخلاق والتقاليد والعادات
1 / 19
الفاضلات، وسائر طرق معاملة الناس بعضهم بعضًا في علاقاتهم المختلة. وكل أنواع الثقافات والعلوم التي تخدم هذا الصنف.
الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء.
ويدخل في هذا الصنف أنواع التقدم الفكري القائم على التأملات الحكمية، التي توصل الإنسان إلى معرفة الخالق، وسر وجود الإنسان، وغايته ومصيره، وواجبه في الحياة الدنيا، وسبل سعادته الأبدية الخالدة، وهي الأمور التي تحمل اسم المعتقدات والواجبات الدينية وسائر التكاليف والآداب الشرعية الإسلامية.
٢- السبيل إلى تحقيق التقدم الحضاري:
ولتحقيق التقدم والرقي الحضاريين عدة سبل:
١- ما ينزل به الوحي، أو يفيض به الإلهام.
٢- ما يتوصل إليه العقل بالبحث العلمي.
٣- ما يكتسبه الإنسان عن طريق الاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال.
أما الصنف المادي لصور التقدم والرقي عند الناس فالسبيل الطبيعي إليه إنما هو استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجوانب الخطأ والنقص وما يستدعيه الكمال.
1 / 20
وقد يُسعف الوحي أو يفيض الإلهام بشيء من ذلك فنجده أخصر طريق إلى الكمال فيه.
وأما الصنف الذي يخدم المجتمع الإنسان فللتقدم والرقي فيه سبيلان:
السبيل الأول: التلقي التعلمي عن طريق الوحي، وذلك في كل ما تكفلت الشرائع الربانية ببيانه، ولا يعدل عن ذلك إلا متنكب سواء السبيل.
السبيل الثاني: استخدام العقل في البحث العلمي والاختبار والتجربة والممارسة التطبيقية العملية، مع الملاحظة الدقيقة لجواجب الخطأ والنقص، وما يستدعيه الكمال.
وأما الصنف الذي يأخذ بيد الناس إلى السعادة الخالدة، وهو المشتمل على المعتقدات والواجبات الدينية، وسائر التكاليف والآداب الشرعية التعبدية فالسبيل إلى تحقيق التقدم والرقي فيه إنما يكون بالتلقي التعليمي عن طريق الوحي فقط.
وبدهي أن تلقي ما يأتي به الوحي وينطق به الرسل عليهم الصلاة والسلام لا بد أن يرافقه إعمال العقل في التأمل، والتدبر، والفهم الصحيح، والتحليل والتركيب، والاستنباط، وقياس الأشباه والنظائر بعضها على بعض، ولا بد أن يرافقه أيضًا إعمال العقل في التحقق والتثبت من سلامة النصوص من التحريف والتبديل، بحثًا في الرواية، ونظرًا في صحة المعنى.
ترتيب الأصناف الثلاثة:
بالنظر إلى الثمرات التي يجنيها الإنسان من كل صنف من أصناف التقدم والرقي السابقة لا بد أن نلاحظ أن سلم الرقي مرتب الدرجات بشكل صاعد، بدءًا من الصنف الأول الذي يخدم الجسد الفانين وارتقاء إلى الصنف الثاني الذي يخدم المجتمع الإنسان، ثم إلى الصنف الثالث الذي تنضوي تحته أسباب
1 / 21
سعادة الإنسان الخالدة، بما فيه من سمو المعرفة الكبرى وبما فيه من تحقيق لرضا الله تعالى.
وبذلك يكون سلم الرقي الإنساني والحضارة المثلى ذا مراتب ثلاث، أسماها مرتبة ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة، ومن دونها تأتي مرتبة الرقي الذي يمنح المجتمع الإنساني سعادة التعاون والإخاء، والأمن والطمأنينة والرخاء، وسيادة النظام والحق والعدل، ثم تأتي من دونهما مرتبة الرقي المادي الذي يخدم الجسد الفاني ويمتعه.
ولكل من هذه المراتب درجات كثيرات يتفاضل الناس فيها بمقدار ما يرتقون منها، وفي درجات هذه المراتب يتنافس المتنافسون من الأمم في إحراز السبق الحضاري الأمثل.
وقد تحرز أمة من الأمم سبقًا حضاريًّا في إحدى هذه المراتب في حين أنها قد تكون في أقصى دركات التخلف الهمجي بالنسبة إلى غيرها من المراتب. أما الإسلام فإنه قد هيأ للملتزمين به كل أسباب التقدم والرقي الحضاريين، ودفعهم بقوة إلى قمم المجد المادية والمعنوية، الفردية والاجتماعية، أما عوامل التخلف في عصور الانحطاط، فهي من صنع الجاهلين، وتضليلات المعادين.
1 / 22
المقولة الثانية: موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري
بدراسة موقف الإسلام من أنواع التقدم الحضاري تبين لنا أن الإسلام قد تولى تحديد المرتبة العظمى، وإقامة معالمها، وإنارة سبيلها، ودعا الناس جميعًا إلى الأخذ بها، والانتفاع من ثمراتها العاجلات والآجلات.
ورسم للناس المنهاج القويم الذي يكفل لهم سبقًا عظيمًا في درجات المرتبة الوسطى، فأنزل لهم الشرائع والأحكام الكفيلة بأن تقيم لهم مجتمعًاإنسانيًّا فاضلًا، إذا التزموا بتطبيقها، وترك لهم مجالًا واسعًا للاستزادة من النظم الحضارية التي أذن لهم بأن يتابعوا تطويرها وتحسينها بحسب ما تقضي به مصالح معاشهم ورفاهيتهم، أما المرتبة الدنيا التي تحتوي على ما يخدم الجسد ويمتعه فقد أطلق الإسلام للناس مجالات الابتكار فيها والتحسين والتنافس، استجابة لدوافع غرائزهم وشهواتهم، ومختلف أنواع ميلهم النفسي إلى زينة الحياة الدنيا ما لم يتجاوزوا في شيء من ذلك بالاستعمال جانب الخير إلى جانب الشر. وحثهم في جانب كل ذلك على العمل والإتقان، والانتفاع من كل ما جعل بين أيديهم من كنوز وطاقات في الأرض وفي السماء.
وبذلك تكون الحضارة الإسلامية معنية بالبدء من القمة نظرًا إلى شرف الغاية التي توصل إليها المرتبة العليا من مراتب الحضارة الإنسانية، ثم توجه عنايتها البالغة إلى المرتبة الوسطى، ثم تنتقل بالناس إلى المرتبة الدنيا، وتأخذ بأيديهم، وتدفعهم للارتقاء في درجاتها بكل ما يستطيعون من قوة ابتكار وتحسين من التقدم الحضاري أوفى نصيب وأسماه، وذلك لأن الإسلام قد أحب للناس كل أنواع التقدم والرقي الحضاريين، إلا أنه باشر بنفسه الأهم فتولاه تداركًا لبني آدم حتى لا يطول أمدهم في الهمجية والانحراف والشتات، وتحقيقًا لحكمة الابتلاء التي يكمن فيها سر خلق الله الإنسان كائنًا ذا عقل وإرادة ومقدار من القدرة على التنفيذ، وهذه هي الشروط اللازمة للابتلاء.
أما المهم فقد تركه الإسلام للعمل الإنساني الذي يقوم على التطوير والتحسين والابتكار والتنافس، لإحراز السبق في شتى الميادين الحضارية.
وربما نلاحظ في أمم الأرض صورًا حضارية كثيرة، لكنها في معظم أحوالها لا تعدو درجات المرتبة الدنيا، وبعض درجات المرتبة الوسطى من مراتب الرقي الحضاري، وكثيرًا ما تصاب الإنسانية بويلات جسام نتيجة لسبق حضاري مادي مجرد عن حضارة خلقية ونفسية ذات سلوك فاضل، فيكون هذا
1 / 23
السبق المادي وسيلة للطغيان وخراب العمران، والإفساد في الأرض، وحلول الشر المستطير.
وبذلك تنقلب الصورة الحضارية المادية إلى وجه همجي متجهم كالح، مقعم بالخشية واللؤم والشر والفساد. وذلك لأن الغرائز النفسية في الناس إذا بقيت على حالتها الهمجية، ووجدت بين يديها الوسائل المادية المتقدمة، فإنها ستحرض الناس على استخدام هذه الوسائل المتقدمة في السطو والظلم والعدوان والتكالب على الشهوات واللذات، استخدامًا مفرطًا في الهمجية بعيدًا عن كل معنى حضاري كريم.
وحينئذ يكون التقدم الحضاري في تحسين الوسائل المادية فقط سببًا من أسباب الإمعان في البعد عن المنهج الحضاري الأمثل للإنسانية الفضلى، وسببًا من أسباب الإغراق في الهمجية المفرطة، التي لا تعرف إلا الأنانية المادية، والتكالب على الشهوات، وتناهب اللذات، والرغبة بالسطو والظلم والعدوان.
وقد كان من الخير لهذه الهمجية المفرطة المنصرفة عن كل رقي في المفاهيم الفكرية والعقائد والأخلاق والعلاقات الاجتماعية أن تظل على وسائلها البدائية، حتى لا تجد بين يديها ما توسع به دائرة الإثم والشر والإفساد والضر، والفتك بالآخرين، إرضاء للغرائز المتوحشة التي لا تحد أنانياتها ومطامعها وغضبها وكراهيتها وحقدها حدود من الغريزة.
وإن إنسانًا من هذا النوع لا بد أن يكون أضل سبيلًا من الأنعام، بل أضل سبيلًا من الوحوش المفترسة العقورة.
وذلك لأن هذه الأحياء المتوحشة ذات غرائز محدودة المطامع والآمال بحدود حاجاتها العضوية، فإذا أخذت حاجاتها كفت واستغنت، ريثما تتجدد حاجاتها مرة أخرى.
1 / 24
بيد أن الإنسان مفطور على غرائز ترافقها آمال ومطامع نفسية غير ذات حدود، فهي لا تكف عن الطلب والمتابعة، والرغبة بالحيازة والتملك، أو السطو والتسلط، مهما نالت ما يكفيها ويغنيها، ومهما جمعت ما يكفي ذرياتها ويغنيهم، ولو إلى ألوف الأجيال من وارئها، فلو أوتي ابن آدم واديًا من ذهب لابتغى إليه ثانيًا، ولو أتى لابتغى إليه ثالثًا، وهكذا تتجدد مطامعه إلى ما لا نهاية له، وكم أدى الحقد ببعض المتسلطين إلى أن يدمروا مدنًا، ويقوضوا حضارات، ويقتلوا مئات الألوف من الناس.
ولما جعل الخالق العظيم غرائز الإنسان منفتحة الحدود وهبه العقل والإرادة ليكبح جماح غرائزه وشهواته ومطامعه، ويحدها في الحدود النافعة، ويكفها عن التجاوز الضار به أو بالمجتمع الإنساني المشارك له في سكنى الأرض، والعيش في هذه الحياة الدنيا، وأنزل له الشرائع السماوية تعليمًا وتربية، وترغيبًا وترهيبًا، وذلك ليبلوه في ظروف الحياة الدنيا، ثم ليحاسبه ويجازيه يوم الدين.
وحينما يعطل الإنسان عقله وإرادته عما خلقا من أجله، فإنه سيهوي حتمًا إلى همجية سحيقة، أحسن مرتبة من همجية الأنعام، بل أخس مرتبة من همجية الوحوش المفترسة.
إذن فلا يصح أن تقاس حضارة الإنسان المثلى على وجه العموم بمقدار ما يتوصل إليه من تقدم في ابتكار الوسائل المادية، التي تخدم الجسد الفاني، وتحقق لذاته، ومتعه وراحته وقوته، واختصاره الزمن له، وتقريب المسافات وإنما هي لون حضاري يتناول جانبًا من جوانب النشاط الإنساني، وهو الجانب المادي.
ولا يرتقي هذا النشاط المادي في سلم الخير ما لم يرافقه تقدم حضاري اجتماعي ونفسي وفكري ضمن الأسس الدينية الربانية، وإلا كان تدنيا في درك الشر، وسببًا للإفراط في الهمجية، والبعد عن كل مرتقى حضاري كريم.
1 / 25
وهنا نلاحظ أنه يعسر على كثير من قصيري النظر أن يفهموا الرقي الحضاري إلا في مجال التقدم المادي، القائم على إمتاع الجسد ورفاهيته، واختصار الزمن، وتنمية وسائل القوة، وهؤلاء هم الذين يقعون في الغالب فريسة تضليلات أعداء الإسلام.
مع أن الرقي الحضاري في جانب الوسائل المادية فقط، والمقرون بالتخلف الحضاري في جوانب المفاهيم الفكرية الراقية، عن الكون والإنسان والحياة والوجود بأسره، والمقرون بالتخلف الحضاري، في العقائد الصحيحة، والأخلاق الكريمة، والعلاقات الاجتماعية الخيرة، والمراقي النفسية والروحية المشرقة، لا بد كما أوضحنا آنفًا من أن يسوق الإنسانية إلى شر مستطير، تقوض فيه بنفسها أركان حضارتها، التي تصنعها في أجيال وقرون، وتذمر فيه بنفسها أبنية مجدها المادي الذي بلغته، مهما تكن درجته تبهر الناظرين، وتدهش الأنفس، فيأخذ بتمجيدها قصار النظر الذين ينظرون إلى السطوح فقط، ولا يتفكرون فيما وراء هذه السطوح من شرور كمينة، سيصيبها الانفجار، الذي يحدث به الدمار، متى لامستها شرارة من الغضب أو الحقد أو الطمع أو الحسد، أو الأنانية الضيقة، أو التعصب الذميم، أو الجنوح الفكري عن منهج الحق والعدل والخير للإنسانية جمعاء.
وذلك لأن التقدم في تحسين وسائل الرفاهية وقوى الفتك، مع همجية المفاهيم الفكرية، والمعتقدات الفاسدات، ومع الأخلاق الشرسة، والغرائز المتوحشة، والشهوات العارمات، والرغبة بالتسلط والانتقام، والاستئثار بكل خيرات الدنيا، أشد خطرًا على الإنسانية ومعالم حضارة القرون الزاهرة من التخلف في هذا المجال، مهما يكن تخلفًا قبيحًا.
فالوسائل المتقدمة ستغري الغرائز المتوحشة الهمجية بالفتك والعدوان والظلم، كما تثير نزوات الغضب، وحفائظ الحقد والتعصب في طبائع الإنسان الهمجي، وذلك بما تشعره من قدرة على تلبية نزواته وأهوائه، ورعوناته، دون أن يكون عرضة لانتقام الآخرين منه بشكل مؤكد.
1 / 26
أما الإسلام فإن مثله -إذا يسير بالإنسانية في جوانب التقدم المختلفة، ومنها جانب التقدم المادي- كمثل الذي يصنع القنبلة الذرية، ويصنع معها صمام الأمان، الذي يحمي من خطر انفجارها في غير الوقت والمكان اللذين يحسن أن تنفجر فيهما.
وقنبلة التقدم المادي إنما يحسن انفجارها في نظر الإسلام حينما يكون ذلك وسيلة خير للإنسانية جمعاء، ودرء لضر مردة الشياطين من الإنس، وصمام الأمان لكل أنواع التقدم المادي لا يكون إلا بالتزام ما جاءت به الشرائع السماوية الصحيحة من عقائد وأخلاق وفضائل وأنظمة اجتماعية وفردية.
1 / 27
الفصل الثاني: أثر الأسس الفكرية والنفسية في بناء الحضارات
لكل حضارة من الحضارات الإنسانية أسس فكرية ونفسية كانت لها هي القوة الدافعة، والموجهة، والمحددة لخط سيرها.
ولذلك لا بد أن تكون المظاهر الحضارية لكل أمة نتائج ملائمة لمجموعة الأفكار والعقائد والتقاليد والعوامل النفسية المهيمنة عليها، يشهد لهذه الحقيقة الأمثلة التالية.
أولًا: كانت الأسس الفكرية عند اليونان الإغريق قائمة على تمجيد العقل. ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون علومًا فلسفية ورياضية ونفسية وطبية، وفنونًا جمالية مختلفة.
ولما كانت أسسهم الفكرية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية.
ثانيًا: وكانت الأسس الفكرية عند الرومان قائمة على تمجيد القوة، والرغبة ببسط السلطان الروماني على الشعوب، لذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون إعداد أجساد قوية، وجيوش متقنة البناء، حسنة الاستعدادات والتدريبات الحربية، وأورثتهم هذه القوة سلطانًا ممتدًا في الأرض على شعوب كثيرة، غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها، كما أثمرت لهم أيضًا اشتراع مجموعة من القوانين والتنظيمات المدنية والعسكرية.
1 / 29
ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية.
ثالثًا: وكانت الأسس الفكرية عند الفرس قائمة على تمجيد اللذة الجسدية، والسلطان، والقوة الحربية، ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون قصورًا فخمة، ومجالات كثيرة للترف المفرط، وجيوشًا حربية ذات بأس، بسطت سلطانهم على شعوب كثيرة غلبوها واستعمروها، واستغلوا خيراتها.
ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها، لم تستطع حضارتهم أن تغطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية.
رابعًا: وكانت الأسس الفكرية عند الهنود قائمة على تمجيد القوى الروحية وتنميتها بقهر مطالب الجسد وكبت غرائزه، ولذلك كانت مظاهر حضارتهم ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لهم خلال قرون مجموعة كبيرة من التعاليم الروحية التي أخذت بتطاول الأمد صبغة ملل ونحل وديانات، ووجهتهم للتعلق بالعلوم الروحانية المختلفة، كالسحر، وفنون الحيلة الخادعة للحواس، التي تعتمد على التلاعب بها، والتأثير على النفوس من ورائها، ومنحتهم مهارات مختلفة في التأثير على الأحياء الشرسة، فكثر فيهم حواة الثعابين والحيات والعقارب، ونحو ذلك من الهوام السامة المؤذية.
ولما كانت أسسهم الفكرية والنفسية غير شاملة لحاجات الحياة كلها لم تستطع حضارتهم أن تُعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية.
خامسًا: أما حضارة القرون الحديثة التي بدأت منذ أواخر القرن الثامن عشر للميلاد واستمرت في نموها المادي تمتد وتنتشر من مهدها في أوروبا إلى كثير من بلاد العالم فأسسها قائمة على تمجيد العلوم المادية، والاستفادة من جميع الطاقات الكونية الكمينة والظاهرة لخدمة الجسد، ومنحه وافر الرفاهية والمتعة واللذة؛ واختصار الزمن له، وتقريب المسافات، وتخفيف الجهد عنه،
1 / 30
ودفع الآلام الجسدية، وقائمة أيضًا على الرغبة ببسط السلطان على الشعوب، واستغلال خيراتها، وإعداد القوة الكفيلة بتحقيق ذلك بدءًا واستمرارًا.
ولذلك نلاحظ أن مظاهر هذه الحضارة الحديثة ذات صلة وثيقة بهذه الأسس؛ إذ أثمرت لإنسان هذه القرون الحديثة ولمن يأتي من بعده مجموعة كبيرة جدًّا من العلوم المادية المتطورة المتقدمة، ومجموعة ضخمة من المبتكرات والمخترعات التي أفادت الإنسان في مختلف نواحي مطالبه المادية، السلمية والحربية، ومجموعة ضخمة من النظم والتشريعات الوضعية، التي ساهمت في تنظيم علاقات الناس أفرادًا وجماعات وأممًا وشعوبًا ودولًا، كما أثمرت له ذخائر كبيرة جدًّا من القوى الحربية الدفاعية والهجومية.
ولا بد أن يلاحظ الباحثون المنصفون في هذه الحضارة الحديثة أن أسسها الفكرية غير شاملة لحاجات الحياة كلها، وذلك لإهمالها جوانب مهمة من حياة الإنسان النفسية والروحية والخلقية والسلوكية، ولاستهانتها بالجوانب الفكرية العليا، المتصلة بمنشأ الإنسان ومعاده، والغاية من وجوده.
من أجل ذلك فإن هذه الحضارة الحديثة لن تستطيع أن تعطي الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية، وربما يكون تقدمها الباهر في وسائل الرفاهية وأعتدة القوة سببًا من أسباب دمارها المذهل إن عاجلًا أو آجلًا.
سادسًا: وأما الحضارة الإسلامية فهي الحضارة الوحيدة التي تشتمل أسسها الفكرية والنفسية على حاجات الحياة كلها، من مختلف جوانبها الفكرية والروحية والنفسية والجسدية والمادية، الفردية والاجتماعية، ومن جميع المجالات العلمية والعملية.
لذلك فهي جديرة بأن تمنح الأمم التي تلتزم بها وتسير في منهجها سيرًا قويمًا الصورة المثلى للحضارة الإنسانية الراقية.
وقد استطاعت أسس هذه الحضارة ووسائلها ومناهجها أن تدفع الأمة الإسلامية في حقبة من الدهر للارتقاء في سلم الحضارة المجيدة المثلى، على مقدار التزامهم بأسسها ووسائلها ومنهجها السديد، وكانت نسبة الارتقاء الذي
1 / 31
أحرزته هذه الأمة نسبة مدهشة إذا قيست بالزمن والطاقات التي تيسرت لهم حينئذ، واستمروا في ارتقائهم المدهش حتى أدركهم الوهن والانحراف عن أسس الحضارة الإسلامية الصحيحة، ووسائلها الفعالة، ومنهجها السديد.
ويظل ارتقاء قمم الحضارة المثلى أبد الدهر رهنًا بالتزام أسس الحضارة الإسلامية ووسائلها ومنهجها.
ولكن أعداء هذه الحضارة يوجهون قوى شتى خفية وظاهرة لمنعها من أن تسير في منهجها الإنساني القويم، لذلك فهي في صراع مستمر مع عوامل الهدم والشر والإفساد في الأرض، الأمر الذي يعوق تقدمها، ويعرقل سبيلها باستمرار.
1 / 32