ومضى دهر طويل كان فيه شعوب المملكة العربية أول العارفين بالزراعة، وأحسن العمال وأجرأ التجار في العالم القديم، وأصبحت الزراعة التي أخذوها عن أساليب بابل والشام ومصر علما حقيقيا للعرب ، أخذوا نظرياتها من الكتب، ثم وسعوها بتدقيقاتهم وتجاربهم، وكانوا يطبقونها بمهارة ليس بعدها مهارة، وكان رجال الطبقة الأولى منهم لا يستنكفون عن العمل بأيديهم في زراعة الأرض، بينا كان غيرهم يحتقرها ويعدها عملا مهينا.
ونهض العرب في فارس والأندلس وصقلية وإفريقية لاستثمار المعادن يستخرجونها من مناجمها، ويحسنون تطريقها والانتفاع بها، واستخرج الأندلسيون من مناجمهم الزئبق والتوتيا والحديد والرصاص والفضة والذهب، واستثمر العرب المناجم التي صارت ملكا لهم في بلادهم في الشرق والغرب، واستخرجوا الحديد في خراسان والرصاص في كرمان والقار والنفط وطينة الأواني الصينية ورخام طوريس والملح الأندراني والكبريت.
ما كشفه العرب واخترعوه وأقوال أساطين علماء الغرب
قال درابر: ومن عادة العرب أن يراقبوا ويمتحنوا، وقد حسبوا الهندسة والعلوم الرياضية وسائط للقياس، ومما تجدر ملاحظته أنهم لم يستندوا فيما كتبوه في الميكانيكيات والسائلات والبصريات على مجرد النظر، بل اعتمدوا على المراقبة والامتحان، بما كان لديهم من الآلات، وذلك ما هيأ لهم سبيل ابتداع الكيمياء، وقادهم لاختراع أدوات التصفية والتبخير ورفع الأثقال، ودعاهم إلى استعمال الربع والاصطرلاب في علم الهيئة، واستخدام الموازنة في الكيمياء، مما خصوا به دون سواهم، وهيأ لهم صنع جداول للجاذبية النوعية وعلم الهيئة كالتي اصطنعت في بغداد والأندلس وسمرقند، مما فتح لهم باب تحسين عظيم في قضايا الهندسة وحساب المثلثات واختراع الجبر واستعمال الأرقام في الحساب، وكان هذا كله من نتائج استعمالهم طريقة الاستدلال والامتحان، ولم يقرروا في علم الهيئة لوائح فقط، بل رسموا خرائط النجوم المنظورة في فلكهم أيضا، مطلقين على ذوات القدر الأعظم أسماء عربية لا تزال تتردد على كراتنا الفلكية، وقد عرفوا حجم الأرض بقياس درجة سطحها، وعينوا الكسوف والخسوف، ووضعوا للشمس والقمر جداول صحيحة وقرروا طول السنة، وأدركوا الاعتدالين، ولاحظوا أمورا بعثت نورا باهرا على نظام العالم، واختص علماء الفلك منهم باختراع الآلات الفلكية لقياس الوقت بالساعات المتنوعة، وكانوا السابقين إلى استعمال الساعة الرقاصة لذلك، وهم الذين أنشأوا في العلوم العملية علم الكيمياء، وكشفوا بعض أجزائها المهمة كالحامض الكبريتيك وحامض الفضة (النتريك) والغول ، وهم الذين استخدموا ذلك العلم في المعالجات الطبية، فكانوا أول من نشر تركيب الأدوية والمستحضرات المعدنية .
وهم قرروا في الميكانيكيات نواميس سقوط الأجسام، وكان لهم رأي جلي من جهة طبيعة الجاذبية، ورأي سديد في القوات الميكانيكية، واصطنعوا في نقل الموائع وموازنتها الجداول الأولى للجاذبية النوعية، وكتبوا مقالات في عوم الأجسام وغرقها في الماء، وأصلحوا في علم البصريات خطأ اليونان بكون الشعاع يصدر من العين ويمس المرئي فيظهره، فقالوا: إن الشعاع يمر من المرئي للعين. وفهموا مساس انعكاس النور أو انكساره، وكشفوا عن طريق الشعاع المنحني في الهواء، وبرهنوا على أنا نرى الشمس والقمر قبل الشروق وبعد الغروب. قال: والذي يدهش كثيرا أن نتصور أشياء نفاخر بأنها من مواليد وقتنا، ثم لا نلبث أن نراهم سبقونا إليها، فتعليمنا الحاضر في النشوء والارتقاء كان يدرس في مدارسهم، وحقا إنهم وصلوا به إلى الأشياء الآلية وغير الآلية، فكان المبدأ الرئيسي في الكيمياء عندهم، والمظهر الطبيعي للأجسام المعدنية. ا.ه.
وقال سنيوبوس:
15
جرى أمراء العرب على قاعدة إسقاء الأرضين بفتح الترع، فحفروا الآبار، وجازوا بالمال الكثير من عثروا على ينابيع جديدة، ووضعوا المصطلحات لتوزيع المياه بين الجيران، ونقلوا إلى إسبانيا أسلوب النواعير لتمتح المياه، والسواقي التي توزعها، وإن سهل بلنسية الذي جاء كأنه حديقة واحدة، هو من بقايا عمل العرب وعنايتهم بالسقيا، ونظم العرب ديوان المياه الذي كان يرجع إليه في مسائل الري. ا.ه. وقال ويليام ويلكوكس الذي كان من أعاظم مهندسي الري في هذا العصر: إن عمل الحلفاء في ري العراق في الأيام الماضية يشبه أعمال الري في مصر والولايات المتحدة الأميركية وأوستراليا في هذا العصر. ووصف المقدسي ميناء عكا التي بناها جده أبو بكر البناء المهندس لابن طولون والطرق التي استعملها في هندستها حتى تدخل إليها المراكب آمنة، فعدت هذه الميناء من العجائب. وذكر سنيوبوس أيضا أن العرب استعملوا جميع أنواع الزراعة التي وجدوها في مملكتهم وحملوا كثيرا من النباتات إلى صقلية وإسبانيا وربوها في أوروبا فأحسنوا تربيتها، حتى لتظنها متوطنة متبلدة، وذلك مثل الأرز والزعفران والقنب والمشمس والبرتقال والكباد والنخل والهليون والبطيخ الأصفر والعنب والعطر والورد الأزرق والأصفر والياسمين، بل والقطن والقصب.
وظفر العرب في الشام وفارس بصناعات قديمة نقلت إلى جميع البلاد الإسلامية فتكملت، ومنها نشأت صناعة أوروبا الحديثة. ذكر سنيوبوس أنواع هذه الصنائع التي نقلوها من الشرق إلى الغرب ولا سيما إلى الأندلس، قال: عاشت الشعوب في بلاد العرب الواسعة كما كانت الحال على عهد الرومان من أقصى المملكة إلى أقصاها بسلام وراحة، يتقايضون حاصلات أرضهم ومصنوعات معاملهم، ويرحلون إلى الهند والصين يبتاعون مصنوعات الأمم الصناعية ليحملوها إلى الشعوب البربرية في أوروبا، ينقلونها في البر والبحر. وذكر ريسون
16
अज्ञात पृष्ठ