الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة
الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة
प्रकाशक
الكتاب منشور على موقع وزارة الأوقاف السعودية بدون بيانات
शैलियों
الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة إعداد
أد. عبد السلام الهراس
فاس - المغرب
بسم الله الرحمن الرحيم الإسلام دين الوسطية والفضائل والقيم الخالدة
هذا الموضوع مطروق من لدن عدد من الباحثين والدعاة حتى كأن الكتابة فيه أصبحت من قبيل التكرار والاجترار، ومع ذلك فقد ملت إلى تناوله دون اضطرار لمراجعة الكتابات السابقة التي تتفاوت بين المستويات الثلاثة: الأجود والجيد والأقل جودة.
ومن المعلوم أن القرآن الكريم وصف الأمة الإسلامية بالوسطية في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾ . (١)
_________
(١) البقرة: ١٤٣.
1 / 1
ومعنى الوسط كما فسره القرآن الكريم في آية أخرى "الخيرية": قال تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ﴾ . (١) وفي اللغة: المرعى الوسط هو خياره، ووسط الشيء أفضله وأعدله، وواسطة القلادة: الدرة التي في وسطها (٢) وهي أنفس خرزها. وفي الصحاح:" واسطة القلادة الجوهر الذي هو في وسطها وهو أجودها". وقد فسره الإمام على أنه أحسن الأديان، وفلان من أوسط قومه أي خيارهم وأشرفهم وأطيبهم، ومنها سميت الصلاة الوسطى لأنها أفضل الصلوات وأعظمها أجرا ولذلك خصت بالمحافظة عليها، وقد وُصِفَ النبي ﷺ بأنه كان من أوسط قومه.
وقال ابن الرومي يبكي أحسن أبنائه بقوله:
توخّى حمام الموت أوسط صبيتي ... فلله كيف اختارَ واسطةَ العقد
والإسلام مبناه على الخير والعدل والإحسان والمعروف والأمانة والصدق والعفة وسلامة الصدر وسيادة العقل والحرية المسؤولة واحترام الآخر والتواضع والرحمة والاستقامة والحياء إلى غير دلك من القيم التي هي جديرة بالقدوة.
_________
(١) آل عمران: ١١٠.
(٢) الصحاح (٣ / ١١٦٧)، مادة (وسط) .
1 / 2
إن الأمة الإسلامية خوطبت بآيات قرآنية عظيمة تحدد لها رسالتها في ظل الإسلام بقوله تعالى: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (١) .
كأنه قال: " أنتم خير أمة في الوجود الآن لأن جميع الأمم غلب عليها الفساد فلا يعرف فيها المعروف ولا ينكر فيها المنكر، وليست على الإيمان الذي يزع أهله عن الشر ويصرفهم إلى الخير، وأنتم تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر، وتؤمنون بالله إيمانا صحيحا يعكس أثره في العمل، وحينئذ تكون كان تامة".
وقيل ناقصة:" أي كنتم في علم الله وفي اللوح المحفوظ أو كنتم في الأمم السابقة كما في كتبها المبشرة بكم خير أمة أخرجت للناس ".
ومهما يكن التقدير فإن أمة محمد هي خير أمة أخرجت للناس، وقد استحقت هذه الخيرية بالمزايا الثلاث المذكورة، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والاستمرار على الإيمان بالله والاعتصام جميعا بحبل الله. (٢)
_________
(١) آل عمران الآية ١١٠.
(٢) المنار - ٥٧ / ٤ ٥٨.
1 / 3
فإن كانت هذه الأمة بهذه المكانة والمنزلة التي اختارها الله ﷾ لها فعليها أن تحقق ذلك من ذاتها ونفسها كما جاء في قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ . (١) وهذا التعبير أجمل وأوفى بالمراد كما تقول: ليكن لي منك صديق. وفيه ما فيه من الحث على العمل وبذل الجهد وإحسان الاتباع حتى تستحق جماعة المؤمنين بهذا الدين أن تحظى بشرف تلك المكانة والمنزلة قبل التمكين لها، وذلك بالدعوة إلى الخير وبالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر في دائرة جماعتها، تتبادل فيما بينها التواصي بالحق والتواصي بالصبر، وبعد التمكين لها في القيام برسالتها داخل مجتمعها محافظة على الميزات الثلاث التي أهَّلَتها لتكونَ أمّةَ الخير تدعو إلى الخير، وهل هناك خير وأعظم من الإسلام ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ﴾ (٢)، ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (٣) فهو الدين الذي رضيه الله لنا وأمرنا أن نتمسك به ولا نموت إلا
_________
(١) آل عمران: ١٠٤.
(٢) آل عمران: ١٩.
(٣) آل عمران: ٨٥.
1 / 4
ونحن مسلمون. لكن رسالة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد التمكين وبالأحرى قبله تكون بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، إذ شعار الإسلام في دعوته: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وقد أعجبني كلاما ورد في المنار لبيان أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يعني تجريد السيف ورفع السوط لإكراه الناس على الدخول في الإسلام لكونه أعرفَ المعروفات، وإقلاعهم عن الكفر بكونه أنكرَ المنكرات. يقول صاحب المنار: " إن هذا القول باطل مبني على قواعد غير ثابتة. . . ومنها:
أن الإكراه على الدين منفي في الإسلام بنص القرآن، ولم يحارب الرسول ﷺ أحدا من العرب ولا من غيرهم لأجل الإكراه على الإسلام، وإنما حارب دفاعا. وكيف يحاول الإكراه والله تعالى يقول: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ (١) .
وقد فرق بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفريضة تغيير المنكر، وبيّن أن رسالة ذلك ليست الدعوة إلى الإسلام والإلزام به.
_________
(١) يونس: ٩٩.
1 / 5
وإن قول القفال الذي نقله الرازي مخالف لقوله -تعالى- في سورة الحج في وصف المؤمنين بعد الإذن لهم بقتال المعتدين عليهم: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ (١) فجعل ﷾ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أوصافهم بعد التمكين في الأرض وذلك لا يكون بالجهاد، بل بعده (٢) .
ومن أجمل وأعظم ما ورد في هذه الآية كما سبقت الإشارة التبشيرُ بخيرية هذه الأمة بشرط أن تجاهد نفسها على الإيمان بالحق والعمل به والسير على هداه والدعوة إليه بالحكمة والموعظة الحسنة وبكل ما هو حسن وأحسن، والصبر على ذلك. وهذا يعني البحث عن أنجح الوسائل وأجمل الطرق وأجدى الأساليب وأقوم الخطاب الذي يقدم من خلال القدوة الحسنة والأسوة الخيرة تبشيرا بالخير وترغيبا فيه، وهو أي الخير:" ما يرغب فيه الكل كالعقل مثلا والعدل والفضل والشيء النافع، وهو خير مطلق مرغوب فيه من كل أحد وعند كل أحد " (٣) .
_________
(١) الحج: ٤١.
(٢) المنار ٤ / ٦١ - ٦٢.
(٣) مفردات الراغب.
1 / 6
وقد وصف الله جماعات المسلمين وأفرادها بأنهم هم المفلحون اختصاصا وتأكيدا، ولهم درجات عليا وذلك بورود اسم الإشارة "أولئك" لأنهم يدعون إلى الخير ويأمرون بكل معروف وينهون عن كل منكر، فإذا تم لهم ذلك فهم "أمة الوسط " و"أمة الشهادة " على الناس جميعا، وسيكون الرسول ﷺ عليهم شهيدا. وهكذا نرى هذه الآيات الثلاث متناسقة يترتب بعضها على بعض: فالأولى تبين أن هذه الأمة كانت خير أمة أخرجت للناس في علم الله أو في اللوح المحفوظ، والثانية: أن على هذه الأمة أن تعمل وتصنع من نفسها ما هو المطلوب منها: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾ (١) . وثمرة ذلك استحقاقها أن تكون أمة الشهادة على الناس. ولا تستحق ذلك إلا إذا تحققت فيها شروط الشهادة وأهمها: العلم والعدالة والاستقامة على الصراط المستقيم وكل الخصال والقيم الخالدة والأخلاق السامية والخلال الحميدة التي عبر عنها القرآن الكريم بإيجاز معجز: " بالوسط " وهي العدل والخيار وسمو المنزلة بما تحقق فيها من اشتمالها على جميع حقوق الإنسانية وحسن توازنها بين المادة والروح وتخلصها أو براءتها من إفراط هناك وتفريط هنا وغلو
_________
(١) آل عمران: ١٠٤.
1 / 7
هناك وتقصير هنا (١) . والرسول ﷺ هو الشاهد على أمته التي أكرمها الله ﷾ بالوسطية لكونه المثال الأكمل لمرتبة الوسط، وإنما تكون هذه الأمة وسطا باتباعها له ﷺ في سيرته وشريعته. . . فكأن الله يقول: إنما يتحقق لكم وصف " الوسط " إذا حافظتم على العمل بهدي الرسول ﷺ، واستقمتم على سنته (٢) .
وهذه الوسطية هي الواردة في الفاتحة باسم " الصراط المستقيم " التي تعبدنا الله بها أي بالفاتحة في كل صلاة لكونها أمّ الكتاب، ومن خصائص هذا الصراط المستقيم أنه موصل للغاية السامية، وهو وحده كذلك دون الطرق الأخرى الملتوية والمعوجة والمنحرفة والكؤود أو المليئة بالحفر والأمت، وأنه طريق مأنوس بالسائرين إلى الله من المنعم عليهم غير المغضوب عليهم، وهم أولئك الذين عرفوا الحق وخالفوه، وغير الضالين الذين جهلوا الحق واجتهدوا في جهلهم وتمادوا في غيهم، فأمة الوسط بين هذين الطرفين المنحرفين عن الحق.
_________
(١) انظر تفسير أبي السعود ٢٠٤ / ١ دار الفكر.
(٢) انظر تفسير المنار ١ / ٤ - ٥.
1 / 8
وقد عبر القرآن الكريم عن هذه الوسطية بشجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء. وهي المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك كما ورد في الحديث الشريف. وكما جعل الله الأمة الإسلامية وسطا بين الأمم فقد جعل قبلتها وسطا بين الجهات، وقد هداها ﷾ إليها وسماها الصراط المستقيم فقال تعالى: ﴿لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (١) . فهي إذن أمة وسط في قبلة الصلاة أي في الجهات كذلك جعلها وسطا بين الأمم (٢) .
_________
(١) البقرة: ١٤٢.
(٢) بدائع الفوائد لابن القيم الجوزية ١ / ١٥٨ - ١٥٩ وانظر كتاب الكعبة مركز العالم ص ١٤٨، ٢٠٤ للدكتور سعد المرصفي مكتبة المنار الإسلامية ومؤسسة الريان للطباعة والنشر والتوزيع بيروت لبنان سنة ١٤٢١هـ / ٢٠٠٠م.
1 / 9
ومن تجليات هذه الوسطية:
تكريم الإنسان
1 / 10
﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ (١) . إذ خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته سجود تكريم، وعلّمه الأسماء كلها، وخلق له زوجا من نفسه وجعل بينهما مودة ورحمة، وأسكنهما جنته، وترك لهما الحرية كاملة في التمتع بالأكل منها حيثما شاءا رغدا، إلا أن لهذه الحرية حدودا، فنهاهما الله عن الاقتراب من شجرة واحدة معنية بالإشارة إليها تأكيدا للتحذير لما في معصية الأكل منها من سوء العاقبة بالنسبة إليهما، لكنهما ضعفا أمام إغراء الشيطان فأزلهما عما كانا فيه فأهبطهما إلى الأرض التي قدر الله أن يكون فيها آدم وبنوه خليفة كما أخبر الله ملائكته قبل خلقه بقوله: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً﴾ (٢) ولم يتركه لنفسه، ولم يغلق دونه باب رحمته ولا نعمة توبته من نسيانه الذي أضعف عزمه، بل ألهمه "الاستغفار" وعبادة التوبة: ﴿فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ﴾ (٣) وبين له طريق الهدى وسبيل الفلاح، وحذره
_________
(١) الإسراء: ٧٠.
(٢) البقرة: ٣٠.
(٣) البقرة: ٣٧.
1 / 11
من فتنة ذاك الذي أبى أن يطيع ربه بالسجود له مع الملائكة حسدًا من عند نفسه وتكبرًا وغرورا، فقد رأى نفسه أنه أولى منه بهذا التكريم لأن الله خلقه من نار أما آدم فمخلوق من طين، وهكذا نجا آدم من الخطيئة التي ارتكب فلم تعد ينوء بها كاهله، كما لم يورثها لعقبه من بعده وأصبح بنو آدم في حل مما جناه أبوهم بتوبة الله عليه.
1 / 12
وبذلك أصبح آدم وبنوه على اتصال بربهم دون واسطة بشرية أو غير بشرية حتى لا يسقط في الاستغلال، ولا يعرض نفسه لهتك أسراره وتشويه عرضه، فما عليه إذ يجترح سيئة إلا أن يبادر بالتوبة والإنابة فيجد الله توابا رحيما: ﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾ (١) بل إن بعض السيئات تُبدل لدى الكريم الغفار التواب الحليم حسنات: ﴿يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ (٢) . وقد رغّب الإسلام في التوبة في الكتاب والسنة بشتى الترغيبات مما لا يدع مجالا للقنوط واليأس من رحمة الله ولو جاء بأكثر ما يمكن تصوره من الذنوب والآثام شرط ألا يشرك بالله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ (٣) وبذلك فتح أبواب الخير أمام الإنسان ليعود إلى الوسط بين الخوف والرجاء مع حسن الظن بربه، وإلى الصراط المستقيم حتى يستظل بظلال رحمة الله وعفوه ويستمد معرفته الصادقة والصحيحة بربه وعندئذ يتمتع بالكلمة الطيبة في حياته التي هي
_________
(١) البقرة: ١٨٦.
(٢) الفرقان: ٧٠.
(٣) النساء: ٤٨.
1 / 13
خير كلها مثل شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها (١) .
_________
(١) انظر: تفسير الرازي والكشاف وابن كثير وأضواء البيان وغيرها.
1 / 14
إن التوبة إحدى خصائص الوسطية في الإسلام، وهي تترك الباب مفتوحا لتجديد العبد صلته بربه دون واسطة أو سمسرة، ودون تيئيس أو قطع الرجاء فيتمادى المذنب والمجترح للسيئات في عناده وغيه، ذلك أن الله ﷾ كرم بني آدم إذ خلقهم على الفطرة، ومهما اعترتها من شوائب وأكدار وحُجُب فإن العمق يظل سليما، لذلك قال - تعالى - مخاطبا المؤمن: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ﴾ ﴿وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ﴾ (١) . فإن الإنسان طيب في أعماقه فيه استعداد للمودة وللتسامح وصلة ما انقطع لكن يحتاج إلى مخاطبته ومعالجته ومدافعة عناده وإصراره على العداوة بالتي هي أحسن التي تستطيع أن تخترق تلك الحجب ليمس الفطرة التي فطره الله عليها لتتحول عداوته إلى ولاية حميمة وصداقة وثيقة، بخلاف الشيطان فإنه شر محض مفطور عليه لا يقبل رشوة لذلك فلا ينفع معه إلا الاستعاذة بالله. ومن تجليات الوسطية إكرام الله الإنسان بعقيدة التوحيد التي تتميز بسمة التوازن العقلي والروحي، فلا إنكار للألوهية،
_________
(١) فصلت: ٣٤-٣٥.
1 / 15
ولا غلو فيها ولا وثنية، فالوحدانية عقيدة بريئة من التفريط والإفراط والتطرف عن الصراط المستقيم يمينا أو يسارا: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ﴾ .
ومن تكريم الله للإنسان حق الحياة، فمن قتل نفسا بغير حق أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا، لكنه إذا ما أزهق روحا متعمدا فالنفس بالنفس، وهو في الآخرة خالد في النار، ومن تكريم الإسلام للإنسان إعلان مبدإ تحرير العبيد عن طريق العتق الذي يعد بابا من أبواب القربات إلى الله، وعن طريق العقاب المالي مثل بعض الكفارات، فالسيد في الإسلام لا يملك إنسانية عبده ولكن يملك رقبته أي عمله وخدمته، أما إنسانيته فلا، فإن جاز له أن يؤدبه فلا يتعدى عشر ضربات مثلما يؤدب أهله (١) . فإن مثل بعبده عتق عليه وهذا مذهب فقهاء الحديث. ولو استكره الرجل عبده أو أمة غيره على الفاحشة عتقا عليه ويضمن لأمة غيره بمثلها (٢) .
_________
(١) إعلام الموقعين ٤٩ / ٢.
(٢) نفسه ٤٦ / ٢.
1 / 16
ولا يُعرف في تاريخ الفتوحات الإسلامية أنها أبادت شعوبا كما فعلت أمم أخرى من أجل إحلال المسلمين مكانهم، أو استعبدت شعوبا كما فعل الآخرون عن طريق الغزو والعدوان وجلبها المستعمرات الجديدة وبيعها في الأسواق كما تباع الأنعام لاستغلالها أبشع استغلال، وإنما كانت الشعوب تسلم عن طواعية، فمن أبى فإنه يعيش على دينه كما نرى ذلك في كثير من بلاد العرب وغيرها مثل الشام: " سوريا ولبنان والأردن وفلسطين والعراق ومصر واليهود في المغرب العربي والسودان ". أما الهند وبلاد فارس والأندلس وغيرها فإن الفتح الإسلامي اعترف أيضا بالآخر ولم يرغم أي واحد على الدخول في الإسلام، في حين عندما انتصر ملوك شبه الجزيرة النصارى أطبقوا على إبادة المسلمين وإحراق كتبهم وتراثهم وتحويل مساجدهم إلى كنائس، إذ لم يبق في إسبانيا ولو كتاب واحد من ملايين الكتب التي ألفها واقتناها ونسخها علماء الأندلس ووراقوها ونساخوها. . أما الكتب التي هي بمكتبة الإسكوريال فهي مغربية الأصل قرصنها قرصان فرنسي وتسلط عليه الإسبان فجعلوها في دير الإسكوريال وقد أتلف جلها بالحرق وغيره!!
1 / 17
ولولا الفتح الإسلامي بالأندلس لاستؤصل اليهود الذين كانوا يتعرضون من حين لآخر إلى مصائب وويلات من لدن ملوك شبه الجزيرة قبل الفتح الإسلامي، وقد نالوا في ظل الإسلام من الحقوق والحظوة والمكانة العلمية والاجتماعية والسياسية ما لا ينكره أحد منهم، أما المسلمون فلا يزالون يبادون إلى اليوم، والبوسنة والشيشان مثال على ذلك.
1 / 18
ومن وسطية الإسلام: جعل تحيته " السلام "، وعلاقاته مع الآخرين: السلام: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾ . والبر بكل من لا يحاربنا ولا يخرجنا من ديارنا ولا يظاهر عدوا علينا فالإقساط إليهم واجب: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾، والوفاء بالعهود: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ ﴿وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا﴾ ﴿وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا﴾ ﴿فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ﴾ (١) .
وبما أن الإسلام دين الوسط ومن معاني ذلك العدل: فإن العدل والقسط من أسس الحضارة الإسلامية حتى مع من يشنؤنا: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ .
_________
(١) التوبة: ٧.
1 / 19
والآيات القرآنية والأحاديث النبوية والتطبيقات العملية كثيرة، وكلها تبين عظمة عدالة هذا الدين الذي ظل قويا بها إلى الآن على رغم ما اعترى هذا الركن من ضعف واضطراب، ذلك أن قاعدة "العدل أساس الملك" هي قاعدة إسلامية يقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (١) . ولم يقل وإذا حكمتم بين المسلمين فالعدالة شاملة للجميع وقال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (٢) . ويقول ابن القيم:" فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحِكَم ومصالح العِباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها ورحمة كلها وصالح كلها وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها وعن المصلحة إلى المفسدة وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل (٣)، ولذلك كان الظلم ظلمات يوم القيامة، وقد حرم الله الظلم على نفسه كما حرمه على الخلق، وأوجب عليهم ألا يتظالموا فيما بينهم، ودعوة المظلوم مستجابة ولو كان هذا المظلوم كافرا إذ ليس
_________
(١) النساء: ٥٨.
(٢) النحل: ٩٠.
(٣) أعلام الموقعين عن رب العالمين ٣ / ٣.
1 / 20