Islam and Human Rights in Light of Global Changes
الإسلام وحقوق الإنسان في ضوء المتغيرات العالمية
प्रकाशक
مجلة مجمع الفقه الإسلامي
शैलियों
١ - توطئة:
شرع الإسلام من المبادئ وسنَّ من القيم ما يكفل الحقوق الكاملة التي توجبها الحياة الإنسانية، وتفرضها الكرامة البشرية على هذه الأرض، ولم تحظ هذه الحقوق في أيّة شريعة من الشرائع السماوية أو من النظم الأرضية، بمثل ما حظيت به في شريعة الإسلام، فقد ارتقت بها حتى جعلتها من الواجبات الدينية المتحتمة التي يحرم الإخلال بها، قال سبحانه في محكم تنزيله: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [الإسراء: ٧٠].
ولأهمية موضوع الحقوق الإنسانية، التي تُعَدُّ انشغالًا رئيسيًّا اليوم في العالم، اخترت الكتابة في هذا المبحث، مع بعض الاعتبارات الأخرى، أوجزها كالتالي:
١ - العناية البالغة التي أصبح يوليها المجتمع الدولي لقضايا حقوق الإنسان في أبعادها المتعددة، على مستوى التشريعات التي تطورت في اتجاه تأصيل الثقافة الحقوقية وإحاطتها بالضمانات اللازمة، وقد تعددت حول هذه القضية وجهات النظر، وتنامى الجدل، وحَمِيَ الحوار، وكَثُرَ فيه السجال الفكري، وتزايدت أعداد الجمعيات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية، وبرزت الهيئات القطرية والإقليمية والدولية المنتصرة لقضايا حقوق الإنسان، وانفسخ مجال التركيز عليها في وسائل الإعلام، التي لها من التأثير الفعَّال والدعاية القوية ما هو غير خافٍ، حتى غدت قضايا حقوق الإنسان من الاهتمامات المركزية الجوهرية التي تتبناها الدول والمنظمات والنخب السياسية والفكرية، ويعتني بها جمهور الناس.
1 / 2
٢ - قد يغلب على ظن الخاصِّ والعامِّ، تحت تأثير ما يذاع من هنا وهناك، أن هذه القضية إنما هي من الاهتمامات المستجدة المستحدثة، أو هي ثمرة من الثمرات التي أنتجتها حضارة العصر، أو هي من مبتدعات الثقافة الغربية الغازية المسيطرة على العالم، ولما لم يخل المجتمع العربي والإسلامي من هذه التأثيرات التي شكَّلَت نمط تفكيره، وكيَّفَتْ حياته وطرق تعامله، ووجَّهَتْ سلوكياته، شأنه في ذلك شأن بقية المجتمعات، مع ما تَبِعَ ذلك من موجاتٍ عارمَةٍ من التشكيك والافتراء على الإسلام والطعن فيه، سواء عن سوء قصد من أعدائه، أو جهل به من أبنائه، كان لا بُدَّ من تصحيح المفاهيم وتوضيح الحقائق، وردّ الطعون، وبيان الخطأ من الصواب، حتى تطمئن النفوس وتستنير العقول، وتبرأ الضمائر من الشكوك.
٣ - تعدد المفاهيم المتناولة لقضايا الحرية والديمقراطية، بتعدد المرجعيات الفلسفية والأيديولوجية والدينية، مما يجعل قضايا حقوق الإنسان تتأرجح بين نوازع الفردية والاجتماعية، وبين دواعي الخصوصية والكونية. والثابت أن التحوّلَ الحضاري الكبير الذي يعيشه العالم اليوم في ظلِّ المد الجديد للعولمة، يتخذ من ناحيةٍ شَكْلَ صراعٍ ظاهرٍ بين وسائل وغايات متناقضة، وقيم ومعطيات متباينة، ومن ناحيةٍ أخرى شكل صراع خفيّ بين ممارسات الهيمنة ومواقف الصمود أمامها، والتشبث بمبدأ الاستقلال وحرية القرار الوطني.
٤ - إن مواقف الشطط والتطرف لا تثبت أمام تيار التاريخ الجارف، سواء كانت صادرة عن أنصار العالمية والكونية، أو عن أنصار الإقليمية والمحلية، وإنما تتغذى الثقافة الإنسانية من مجموع التراكمات وثراء الخصوصيات، في تفاعلٍ مستمرٍّ مع الزمن، فتصنع بذلك مدًّا تضامنيًّا إنسانيًّا عالميًّا، لا مجال فيه لغلبة نموذج حضاري مُعَيَّنٍ على آخر، ولا حظَّ فيه لسيطرة ثقافة على أخرى، إلّا أن ميزان التفاضل بين الحضارات يبقى دومًا رَهْنَ ما تشعُّ به من قيمٍ عادلةٍ تفيض خيرًا، وتعمُّ أمنًا وسلمًا على الإنسانية جمعاء.
1 / 3
٢ - مدخل تاريخي:
إن ما يبدو، في العصر الحديث، أنه اهتمام واسع شامل لقضايا حقوق الإنسان، تناولته أنظار الفلاسفة والمفكرين والسياسيين منذ القرن السابع عشر الميلادي، وحبَّرَتْ في شأنه المواثيق والعهود، قد بقي في حقيقة الأمر منحصرًا في القوانين والدساتير، واكْتُفِيَ بالتعبير عنه في شكل مبادئ وقواعد مجملة، ولم تتدرج العناية به إلى المستوى الدولي، إلّا بعد تأسيس منظمة الأمم المتحدة، وصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ولم يخرج الاهتمام به إلى الآفاق الرحبة الواسعة، إلّا أثناء احتدام الحرب الباردة بين المعسكر الغربي بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، التي اتخذت في تقدير البعض من حقوق الإنسان ذريعةً للإجهاز على المعسكر الشرقيّ الذي كان يقوده الاتحاد السوفييتي، ونجحت في تفكيك منظومته، ودحر أيديولوجيته، لتتبلور بذلك الصور الجديدة في شكلها المستحدث لقضايا حقوق الإنسان، ولتتحول إلى أداة فاعلة ضاغطة تستخدمها الدول المتقدمة لممارسة الهيمنة، وفرض السيطرة، وبسط النفوذ السياسي والاقتصادي والثقافي على دول العالم بأسره، بينما يرى آخرون، ممن ينتصرون لثقافة العولمة، أن في التراث الإنساني ما يبرز النضالات من أجل حقوق الإنسان، وأن الاهتمام العالمي المتزايد يومًا بعد يوم، ما هو إلّا تتويجٌ لهذه النضالات، وتكريس لانتصار الإنسان في نهاية المطاف، من أجل تجذير حقوقه في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة، وتأصيلها كقيم عالمية كونية، وحمايتها من مخاطر الانتكاس والردة من خلال المواثيق والمعاهدات والتنظميات الدولية.
إن ما يُسَمَّى اليوم بالنظام العالمي الجديد، والذي ظهرت بوارقه الأولى منذ بداية النصف الثاني من القرن العشرين، لم يحقق في نظر معارضيه الغايات المرجوّة منه، ولم يثمر في تقديرهم نتائجه المؤملة، وهم يرون أن استفراد القوى
1 / 4
الصناعية الكبرى بحقِّ التصرف في المقدّرات العالمية، قد عمَّقَ التبعية الاقتصادية لدول العالم الثالث تجاهها، بسبب الاحتياج الماسِّ لمساعدات هذه الدول لأغراض التنمية، وتوسّع الخرق الفاصل بين الشمال الغني والجنوب الفقير، ولم تتبلور المنظومة الجديدة في صورتها الجلية الواضحة، ولم تكشف عن نفسها، إلّا بعد سقوط المعسكر الشرقي وتفكيك منظومته، لتفتتح بذلك مرحلة تاريخية جديدة فريدة من نوعها في العالم، تنتفي فيها الأضداد، وينتصر فيها النموذج الأوحد، وتولدت عن هذا الوضع الجديد تكتلاتٌ سياسية واقتصادية جديدة، مستفيدة في ذلك من التطور التكنولوجي الهائل، خاصة في مجالات الاتصال، أمكن بفضله أن تنحصر المسافات وتتقلص الحدود، ليتحول العالم إلى قرية إلكترونية صغيرة.
هذا الموقف المتوجس خطرًا مما يمكن أن تجره العولمة من آثارٍ سيئة، قد عبَّرَتْ عنه نزعات الانطواء، وترجمت عنه الأصوات الداعية إلى العودة إلى الجذور والقيم الأولى، والتمسك بالثقافة التقليدية، كرد فعلٍ ارتدادي على هذه التغيرات التي يراها البعض تهديدًا جديًّا للثقافات الوطنية والإقليمية، ونذير شؤم ينبئ باشتداد العواصف التي قد تقلع الجذور وتأتي على الأصول.
في خِضَمِّ هذا الصراع بين أنصار العولمة وما تحمله في نظرهم من بشائر الانفتاح وتداخل المصالح بين الشعوب وتحسين أنماط عيشها، وبين أنصار المحافظة والتشبث بالنظام القديم، تأخذ إشكالية حقوق الإنسان منعطفًا جديدًا وخطيرًا في الوقت نفسه، وتطرح على الشعوب تساؤلات مصيرية، منها:
١ - مدى قدرة الثقافات المحلية على الصمود والثبات أمام التيار القويّ للعولمة؟
٢ - كيف السبيل إلى المحافظة على الخصوصيات، في عالمٍ يسير نحو الاندماج عبر التكتلات الاقتصادية والسياسية؟
٣ - هل يحق للإنسان اليوم أن تأمل، عبر ميلاد ثقافة عالمية جديدة، توفر ضمانات قوية من شأنها أن تحمي الحقوق الإنسانية من أيّ انتهاكٍ أو انتكاسٍ أو انحراف؟
1 / 5
وفي مقابل هذه الاستفهامات، تطرح تساؤلات موازية تعبِّرُ في جوهرها عن عمق الحيرة وتوتر الفكرة، ومنها:
١ - كيف تتسنَّى الإجابة على هذه الإشكاليات المبنية أساسًا على معطياتٍ متناقضة وأنظار متباينة؟
٢ - كيف يمكن التوفيق بين عنصري التقابل والتضادِّ في الرؤى والتصورات المتناولة للقضايا الإنسانية عمومًا؟
٣ - كيف يمكن لقضية حقوق الإنسان أن تتحوّل من إطار الخصوصية التي تتميز بها، إلى إطار العولمة الزاحفة عليها؟
٤ - هل يمكن فعلًا تجاوز الخصوصيات التاريخية والحضارية والاجتماعية لهذه القضية وهي معدودة من لوازمها وشروطها؟
1 / 6
٣ - حقوق الإنسان بين الخصوصية والكونية:
إن النظر في هذه التساؤلات، يسوقنا حتمًا إلى إبداء الملاحظات التالية:
- إن مثل هذه المواضيع كثيرًا ما تطرح بشكل نضالي يغلب فيه التنظير الأيديولوجي والتحزب السياسي الضيق، وهذا من شأنه أن يضفي على المواقف صبغة الانفعالات العاطفية والتواترات العصبية التي لا تجدي نفعًا في مثل هذه القضايا المصيرية، والتي يتوقف عليها مصير العالم بأسره.
- إن كثيرًا ممن يرفعون شعار كونية الحقوق، يعتقدون أنها لا تخضع لأي استثناءٍ أو خصوصية معينة، مهما كانت طبيعتها، سواء أكانت ثقافية أو اقتصادية أو لغوية أو سياسية أو دينية؛ بحيث يرى هذا الفريق أن حقوق الإنسان متماثلة في كل مكان وزمان ولا مجال فيها للاختلاف، تبعًا لوحدة الجوهر الإنساني.
- يتشبث الفريق المقابل بموقفه الرافض، ويرى أن الكونية المنسوبة لحقوق الإنسان، وهي محض افتراء وذريعة إلى الهيمنة والاعتداء، والتدخل في الشئون الداخلية للشعوب والحكومات، وبسط النفوذ الاقتصادي، والثقافي، ولقد كان للفلسفة السياسية التي ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وترجمها إعلان الإنسان إثر الثورة الفرنسية "سنة ١٧٨٩م"، أثرها البعيد فيما تمخَّضَ عنها من نظام عالمي جديد في السنوات الأخيرة.
- نزعة ثالثة تتوسط النظرتين المتناقضتين، غرضها التوفيق بين الموقفين المتقابلين، على اعتبار أن الكونية لا تنفي الخصوصيات، وأنه يمكن الجمع بينهما، واستمدت موقفها هذا من الإعلان النهائي الصادر عن مؤتمر فيينا١
_________
١ كان ذلك بتاريخ ١٤ إلى ٢٥ جوان ١٩٩٥م.
1 / 7
حقول حقوق الإنسان، ونصَّ على أن حقوق الإنسان كلية وشاملة وغير قابلة للتجزئة، وهذه هي صفة العالمية فيها، ولذا يجب على المجتمع الدولي أن يتعامل مع قضايا حقوق الإنسان على نحوٍ شاملٍ ومتكافئٍ وعادلٍ، مهما اختلفت الألوان والأجناس وتباينت الثقافات، إلّا أن هذه الشمولية في النظرة إلى حقوق الإنسان وإعطائها أبعادها الإنسانية الكونية، لا تلغي الخصوصيات الوطنية والإقليمية القائمة على أساس الهوية الثقافية أو الدينية أو التاريخية.
1 / 8
حقوق الإنسان في الإسلام
الحقوق الأساسية
مدخل
...
٤ - حقوق الإنسان في الإسلام:
١ - الحقوق الأسياسية:
إن من الحقوق الأسياسية -التي ادَّعَتْ الأمم الديمقراطية المتقدمة إنشاءها وإعلانها- حق الحرية وحق المساواة بين كل الناس دون فصلٍ أو تمييز، فالإنكليز يعتبرون أنفسهم أعرق شعوب العالم في مجال الحقوق والحريات، وزاحمهم الفرنسيون في اعتبار أن التشريعات الخاصة بحقوق الإنسان إنما انبثقت عن الثورة الفرنسية، وأنكر عليهما الاتحاد السوفيتي "سابقًا" ذلك، واعتبر أن الديمقراطية الحقيقة هي التي جَسَّمَهَا النظام الاشتراكي الماركسي عِنَدَما أسند السلطة للطبقة الكادحة "البروليتاريا".
والحق الذي لا يجادل فيه منصف عادل، أن الإسلام هو أقدم التشريعات الباقية التي قررت منذ قرون خلت حقوق الإنسان في أكمل صورتها، وأوسع نطاقها ومجالها، وانتهج الإسلام في صياغة هذه الحقوق وتوظيفها نهجًا قويمًا حكيمًا يرتكز على أسس تربوية تستند إلى نصوص تشريعية من خلال الكتاب والسنة، فقد بادر صاحب الرسالة وحامل الأمانة رسول الله ﷺ منذ بدء البعثة إلى تعليم أصحابه وتربيتهم وتهيئتهم نفسيًّا وعقليًّا، وتوجيههم توجيهًا سلوكيًّا سويًّا؛ لتقبل الدعوة الجديدة، وتحمُّل أعباء القيام بها، وإعلانها بين الناس، والتربية النفسية والعقلية والسلوكية السليمة الصحيحة شرطٌ ضروريٌّ ولازمٌ لتهيئة التربة الصالحة التي نريد أن نبذر فيها بذور الحق والواجب، حتى ينشأ في الأجيال المتعاقبة الوعي الكامل بمستلزمات الحياة البشرية من حريةٍ وكرامة ومساواة وعدالة، وحتى يجنبوا خطر الانحراف بما يعنيه من أشكال التهتك والتسيب وضعف الوازع الذاتي واضمحلال الضمير الفردي والاجتماعي، واندثار القيم والمبادئ،
1 / 9
فتنقلب الحياة البشرية إلى جحيم من المعاناة والعذاب، قال تعالى: ﴿قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: ٦٥]، وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ [الإسراء: ١٦]. فكان من حكمة الإسلام أن وضع الأسس الثابتة، وبنى القواعد المتينة، حتى يسلم البناء الاجتماعي من التصدّع بصلاح أفراده، ولقد كانت الفترة المكية زمن البعثة، والتي تواصلت زهاء ثلاث عشرة سنة، قبل هجرة الرسول ﷺ إلى المدينة المنورة، موجهة توجيهًا كليًّا إلى التربية العقدية والتأصيل الإيماني، والتهذيب النفسي والعقلي والأخلاقي، وفق أسلوب من التدرج يراعي الخاصيات التي تتطلبها كل مرحلة من مراحل الدعوة إلى الدين الجديد، ثم تلت هذه الفترة الهامة، مرحلة التشريع للمجتمع الجديد الناشئ وفق ضوابط أخلاقية وسلوكية، ميزتها الشمولية لكلِّ جوانب الحياة الفردية والجماعية، وقاعدتها المساواة بين كل الناس دون التفرقة بينهم لدواعٍ جنسية أو عرقية أو لغوية، وميزانها العدل في ترتيب الحقوق والواجبات على حسب ما تحتمله الطاقة البشرية من غير إسراف ولا تقصير.
أ- حق الحياة: وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها، والإسلام حرَّم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حقٍّ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعرضيها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١]، وقال أيضًا: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣]. لقد كان من عادات العرب في الجاهلية الحمقاء، قتل الأبناء ووأد البنات
أ- حق الحياة: وهو من أقدس الحقوق البشرية على الإطلاق، وأولاها بالإثبات والحماية، بدليل أن الشرائع السماوية أجمعت على إقرار هذا الحق الأصلي، واعتباره من أوكد الكليات الخمس الواجب حفظها ومراعاتها، والإسلام حرَّم تحريمًا مشددًا قتل النفس البشرية بغير حقٍّ، وسدَّ كل أبواب الذرائع المؤدية إلى إتلافها وإهلاكها، بإهمالها أو إيلامها أو تعذيبها أو تعرضيها إلى الخطر بأي شكل من الأشكال، قال تعالى: ﴿وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ﴾ [الأنعام: ١٥١]، وقال أيضًا: ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٩٣]. لقد كان من عادات العرب في الجاهلية الحمقاء، قتل الأبناء ووأد البنات
1 / 10
خوف الفقر وخشية العار، ولم تكن للنفس البشرية عندهم وعند غيرهم من سائر الأمم والشعوب في تلك العهود المظلمة من الحرمة والقداسة ما هو كفيل بحمايتها وصيانتها، ولم تطمس آثار هذه العادات -الراجعة إلى أصول العقائد الوثنية "تقديم الأرواح البشرية قربانًا للآلهة المعبودة" التي وصفها القرآن بالسفه والجهل، بسبب الظلمة المطبقة على النفس، والغشاوة التي رانت على العقل، قال تعالى: ﴿كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ﴾ [المطففين: ١٤]- حتى بزغت شمس الإسلام؛ لتمحو بنورها ظلام الجاهلية، وترسي مبادئ العدل والحق.
إن الإقرار بالحق المقدس في الحياة، أولته التشريعات المعاصرة المتطورة بالغ اهتمامها، بما أرسته من المواثيق والعهود والالتزامات الدولية، ووضعته من القواعد والقوانين الوقائية والزجرية، من خلال المجلات القانونية المختصة، وخاصةً منها مجلات القانون الجزائي.
ويستتبع الإقرار بمبدأ حق الحياة، تثبيت مجموعة من الحقوق المتفرعة اللازمة، بقصد إحاطة هذا الحق الأصلي بمجموعة من الضمانات الحمائية، اقتضتها ظروف تطور الحياة في مختلف جوانبها، وتعدّد المخاطر المحيطة بها، ومن بينها:
- حق الضمان الاجتماعي في توفير الأسباب الدنيا لحياة بشرية كريمة، وتأمين وسائل العيش، ومنها حق الشغل.
- حق الرعاية الصحية، بتوفير وسائل الوقاية والعلاج من الأمراض المهددة للصحة البشرية.
- حق التغطية الاجتماعية، وكفالة مختلف الأصناف والشرائح المحتاجة إلى الدعم الاجتماعي، سواء بتوفير الأُطُرِ والهياكل لرعاية الأيتام والشيوخ العجّز وفاقدي السند وذوي الإعاقات الذهنية والبدنية، أو بتقديم المساعدات والمنح المادية والعينية لتخفيف وطأة الحياة عنهم.
- حق توفير المرافق الدينية والثقافية والترفيهية، وسائر الأنشطة التي تستجيب لحاجيات الإنسان الروحية والنفسية والجسدية؛ كالمساجد والجوامع والمدارس والمكتبات والفضاءات الرياضية والترفيهة.
ولن يطمح الإنسان قطعًا، إلى تحقيق ذاته في الحرية بمختلف أشكال التعبير عنها، أو إلى تحقيق كرامته وعزته، ما لم يستند حق الحياة إلى قواعد ثابتة تضمنها عقيدة راسخة، وتحرسها جملة القواعد والمبادئ والقوانين، وتعمل على تنفيدها وحمايتها مختلف السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية.
1 / 11
ب- حق الحرية:
إن الحرية هي التعبير الطبيعي عن نزوع الذات البشرية إلى الانعتاق من كل المقيدات والمكبّلات التي تحول دون تحقيق ذاته، وتنمية طاقاته العقلية والنفسية والوجدانية. والحرية حق أساسي طبيعي يتقرر منذ اللحظات الأولى لولادة الإنسان: "متى استبعدتم الناس وقد ولدتهم أمهامتهم أحرارًا"١، وهي تكتسب من القدسية والحرمة ما يجعلها قرينة التكليف والمسئولية في الدساتير والشرائع السماوية، قال تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ [الأحزاب: ٧٢].
والحرية تتفرع إلى ضروب وأنواع متعددة، تشمل كل جوانب الحياة البشرية الروحية والعقلية والمادية ولا تستثني أيّ حقٍّ من الحقول المترتبة عليها، إلّا ما تستوجبه شروط ولوزام الحياة الجماعية في حال التعارض بين الحق الفردي وحق المجموعة عليه.
- حرية التدين:
وهو حق الإنسان في أن يختار دينه وعقيدته من غير إكراه ولا إجبار لاعتبار أساسي هو حاجة الإنسان الماسة إلى تلبية حاجاته النفسيبة الوجدانية؛ لأن أصل كل حرية ينطلق من داخل النفس البشرية، فإذا ما تَمَّ لها ذلك توجهت إلى العالم الخارجي في قوةٍ وتوازنٍ لتحقق ذاتها وفعلها الحضاري. ولأهمية هذا
_________
١ مما اشتهر من أقوال الصحابي الجليل والخليفة العادل عمر بن الخطاب ﵁.
1 / 12
البعد المتصل بأعماق النفس البشرية، توجَّهَ الإسلام إلى رفع كل العوائق التي تتسلط على نفس الإنسان لتحوّله إلى هيكل هزيل، خاوٍ خالٍ من كل روح إيجابية وإرادة فعّالة، قال ﵎: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦]، وقال ﷾: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾ [يونس: ٩٩]. لقد فتح الإسلام أبوابه للإنسانية جمعاء، وتوجَّه بخطابه إلى الكل دون تمييز ولا إقصاء، واشترط في مقابل ذلك الإرادة الحرة في الاختيار، المبنية على دواعي الاطمئنان النفسي والاقتناع العقلي، حتى يَسْلَمَ معتنقوه من غوائل الشك والريبة واعتلال الوازع الديني فيهم، فيقل تبعًا لذلك احتمالهم لتكاليفه، وينضب صبرهم على تحمّل مسئولية القيام بأعبائه، والاضطلاع بواجباته، وما محاربة الإسلام لظواهر النفاق العقدي والفكري والسلوكي، إلّا من مستتبعات دعوته الصريحة إلى أصالة حرية التدين؛ إذ النفاق حالة نفسية مرضية، تتوزع فيها النفس البشرية بين دواعٍ مختلفة متناقضة لا تستقر فيها على حالة قارة ثابتة خالصة من كل الشوائب، وهو تعبير عن حالة من التدهور النفسي والسقوط الأخلاقي والاضطراب السلوكي، وصفها القرآن بأبلغ وصفٍ في قوله تعالى: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠]. والنفاق -في حقيقته ومنطلقاته- يعكس في صورته خضوع البشرية، ولا ريب أن العلاج منه يستوجب دفقًا إيمانيًّا قويًّا، وشعورًا عميقًا بحرية اختيار العقيدة التي يطمئن إليها معتنقها باعتبارها تكليفًا ومسئولية يترتب عليها الجزاء، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، قال تعالى: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا، وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا﴾ [الشمس: ٧ - ١٠].
- حرية التعبير:
وهي الحق في أن يعلن الإنسان عن جملة أفكاره وقناعاته التي يعتقد فيها الصواب والصلاح له ولغيره، وهو حقٌّ ينتج عن عضوية الإنسان داخل المجتمع الإنساني باعتباره جزءًا منه، ومسئولًا مدعوًّا إلى الإسهام فيه برأيه وفعله، إثراءً للتجربة الإنسانية، وتحصينًا لها من العثرات والنواقص، وإن ركزت المجموعة
1 / 13
الدولية في الزمن المعاصر، على تأكيد هذا الحق وحمايته من كل أنواع الاعتداء والقهر والتهميش والإقصاء، سواء بتغليب النزعة الجماعية على حساب حق الفرد فيها، أو إطلاق مكامن الفرد إلى الحدِّ الذي يتعالى فيه قراره على قرار المجموعة، فتنعدم الغاية النبيلة من وراء تقرير هذا الحق الأصلي، فإن الإسلام لم يغفل عن توجيه عنايته إلى هذا الجانب الهامِّ في حياة الفرد والمجموعة بما شرعه للفرد من حق الإدلاء برأيه، والاجتهاد بفكره، والتعبير عن إرادته بلك حرية، ما لم تخرج عن مراعاة مصالح المجموعة المعتبرة شرعًا، أو تنقلب عليها لتفضي إلى تفتيت قواها وضياع جهودها؛ فتنحل الرابطة الجامعة بكليتها، ويضيع في خِضَمِّ ذلك نفعها وصلاح انتظامها، وفي نصوص الكتاب والسنة شواهد تدعو إلى مشاركة الفرد بتوظيف إمكاناته العقلية والمادية إلى دعم المجموعة وتوطيد أركانها.
من ذلك قول أبي بكر الصديق ﵁: "إني وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني"، إلى أن قال: "لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير في إن لم أسمعها"١. يقصد أن إسداء كلمة الحق والجهر بها واجب مفترض على كل مسلم.
_________
١ انظر: البداية والنهاية لابن كثير، تحقيق عبد الله التركي: ٩/ ٤١٥.
حق المساواة والعدالة ... جـ- حق المساوة والعدالة: لطالما عانت الإنسانية عبر تاريخها الطويل من ويلات الغبن والحرمان من أبسط الحقوق الضامنة للحد الأدنى من الكرامة البشرية، ومن هذه المآسي استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وامتلاك ناصية حياته بغير حق، لم يمنعه من ذلك بريق الحضارات التي قامت منذ تاريخ بعيد؛ كحضارة اليونان وفارس وروما، والتي أضفت شرعية ظالمة على ما آلت إليه حياة البشر من التدني والانحطاط وسوء المنقلب. ولما أشرقت أنوار الإسلام على هذه الدياجير، تبدّت للإنسانية سوءاتها، وتاقت الأنفس المضطهدة إلى العيش في ظل عدالة الدين الجديد، الذي يعود إلى
حق المساواة والعدالة ... جـ- حق المساوة والعدالة: لطالما عانت الإنسانية عبر تاريخها الطويل من ويلات الغبن والحرمان من أبسط الحقوق الضامنة للحد الأدنى من الكرامة البشرية، ومن هذه المآسي استعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وامتلاك ناصية حياته بغير حق، لم يمنعه من ذلك بريق الحضارات التي قامت منذ تاريخ بعيد؛ كحضارة اليونان وفارس وروما، والتي أضفت شرعية ظالمة على ما آلت إليه حياة البشر من التدني والانحطاط وسوء المنقلب. ولما أشرقت أنوار الإسلام على هذه الدياجير، تبدّت للإنسانية سوءاتها، وتاقت الأنفس المضطهدة إلى العيش في ظل عدالة الدين الجديد، الذي يعود إلى
1 / 14
آدم ﵇، فقال ﵊: "كلكم من آدم، وآدم من تراب" ١، وقال أيضًا: "والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" ٢.
وقد جاءت التشريعات الإسلامية معتبرة لهذا الحق الأصلي في المساواة بين جميع الناس أمام القانون، لا مجال للحظوة الخاصة ولا لدواعي القربى، ولا للعصبية العرقية أو الدينية، قال تعالى: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: ١٥٢]، ولا ما من شأنه أن يمسَّ حقوق الناس بغير وجه حقٍّ مما يخالف مقتضيات العدالة التي تضمنتها شريعة الإسلام، قال -جل شأنه: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ [النساء: ٥٨].
إن هذه المبادئ الإنسانية العامة، تُعَدُّ قواعد أساسية، لا غنى عنها لكل تشريعٍ يتناول حقوق الأفراد والجماعات في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، ولسنا نقصد من خلال هذا البحث الوجيز التعرُّض إلى كل هذه الجوانب التي تناولتها التشريعات والبحوث المستفيضة، وإنما سنأتي على بيان الوجه الاجتماعي لهذه الحقوق، لما لهذا الجانب من الأهمية القصوى، متناولين الحقوق الأسرية التي تنبني عليها مجموع العلاقات بين أفراد العائلة، مع الوقوف على أهم القضايا المطروحة اليوم في مجال التشريعات المتصلة بحقوق المرأة والطفل والعناية بالشيخوخة، دون التغاضي عما أصبح اليوم يعد هاجسًا قويًّا وهتمامًا أولويًّا في مخططات الدول وبرامجها، من أجل تهيئة محيط سليم وبيئة ملائمة لحياة اجتماعية طبيعية صحية.
_________
١ رواه أحمد في مسنده: ٣/ ٣٦٧.
٢ رواه أحمد ومسلم والنسائي.
1 / 15
الحقوق الاجتماعية
مدخل
...
٢ - الحقوق الاجتماعية:
أ- تمهيد:
إن المكاسب الإنساية والحضارية التي أمكن إنجازها اليوم، إنما هي ثمرة نضال طويل وتضحياتٍ جسام، أسهمت فيها الشعوب والأمم، وقدَّمَت فيها الأجيال على اختلاف مشاربها، وتنوع أجناسها وأعراقها، وتوجهاتها الثقافية، واختلاف نزعاتها العقدية، عصارة نتاجها الفكريّ، وخلاصة تجربتها وفعلها الحضاري، وهذا ما يفسر ثراء التجربة الإنسانية الموضوعة في خدمة الإنسان أينما كان، باعتباره الهدف والغاية والوسيلة، انتصارًا لآدميته المقدسة التي أسجد الله لها ملائكته الكرام في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [البقرة: ٣٤]، وتأكيدًا لقيمة التكريم فيه على سائر الموجودات بما أنه كائن حرّ مكلَّف مستخلف على الأرض، وبما خصه الله من المواهب وزوَّدَه من الملكات، ومنحه من القدرات، بها يحقق كينونته، ويصيغ وجوده بهدي الرسالات السماوية، وعلى بينة من عقله المستنير، قال تعالى: ﴿أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [الملك: ٢٢].
إلَّا أن التاريخ الإنسان النظالي الطوزيل، لم يسلم من الانتكاسات والسقطات، التي تبررها الطبائع والميولات الأنانية، وغلبة الأهواء والنزاعات الفردية، في غيبوبةٍ من العقل والضمير، أدت فيما أدت إليه، أن تحوّل الإنسان وقودًا لهذه النار المتأججة على مدى حِقَبٍ ممتدة في الزمن التاريخي، انعكست دلالاتها في ظهور فلسفات ومذاهب فكرية وأيديولوجية، وأنظمة سياسية متطرفة مدمرة هدامة؛ كالنازية والفاشية وغيرها من سائر الحركات الاستعمارية التي ظهرت في العالم منذ زمن غير بعيد، والتي حوّلت حياة الإنسان إلى جحيمٍ اكتوت بناره البشرية جمعاء، وكان من آثارها المزلزلة أن أخضعت رقاب شعوب بأكملها، واستنزفت طاقاتها الحيوية، وأهدرت ثرواتها الطبيعية، وعطَّلَت
1 / 16
حركيتها، وكبَّلَت أياديها وأرجلها، وارتفع دوي الحرب، وانتصرت الآلة العسكرية، وتفنن صانعوها في تطوير وسائل القتل والدمار، وأتت النار على الأخضر واليابس، وكان الإنسان هو الخاسر في الأول والآخر.
ثم صحت الإنسانية على صوت هذه الفواجع، واستيقظ العقل والضمير بتأثير حدة الآلام البشرية وشدة المصائب وهول الكوارث، وغدا السلم حتميةً تاريخيةً حضاريةً كسبيلٍ إلى إنقاذ البشرية من الدمار والهلاك، وقيمة عالمية لا مناص من أن يتشبث بها المجتمع الإنساني كطريقٍ أوحدٍ إلى الخلاص، إيمانًا بأن الحروب لما كانت تنشأ أولًا في عقول الناس، كان لا بُدَّ -من أجل الوقاية والاحتماء منها- أن تبني في الوجدان البشري حصون السلم، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً﴾ [البقرة: ٢٠٨]، وقال أيضًا: ﴿وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا﴾ [آل عمران: ١٠٣].
وإن ميلاد المنتظم الأممي إبَّان انتهاء الحرب الكونية الثانية، هو تعبير عميق عن وحدة الشعور الإنساني، وغلبة الوعي الإيجابي، وانتصار الإنسان في نهاية المطاف، لتسقط في مقابل ذلك الجدران السميكة والحواجز الحديدية التي طالما فرَّقَت بين الشعوب، وآثارت أسباب العدوان والفتنة بينها.
إن من مشمولات الدول ومهامها الأساسية في العصر الحديث، وضع الأسس والقواعد والتشريعات الضامنة للحقوق، الكفيلة بتوفير حياة اجتماعية كريمة، تطلق فيها الكوامن، ويفسح فيها مجال التعبير والفعل الحر، لا تحدُّه إلّا ضوابط المصلحة العامة، من أجل أن يرقى الإنسان وتسعد البشرية.
ولأهمية الأسرة كدعامةٍ أساسية لا محيص عنها في البناء الاجتماعي اهتم الإسلام، قرآنًا وسنةً وفقهًا وقضاءً، بهذا الصرح الاجتماعي، فوضع له عن طريق التشريع والإرشاد والتوجيه مجموعة من القوانين المحكمة والنظم الشاملة والتشريعات الدقيقة الكفيلة بتنظيم البناء الأسري والمحافظة عليه، ومما تتجلَّى به العناية الإسلامية الفائقة بالأسرة الحضّ على الزواج الذي به تتكوّن الأسرة، ليكون كلٌّ من الزوجين مسئولًا عن هذا الميثاق الغليظ، يعملان على بقائه
1 / 17
ونمائه، ويذودان أسباب وهنه واضطرابه، قال تعالى: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١]. وسبيل ذلك أن يعرف كل طرفٍ دوره في هذه الغاية، وأن يؤدي واجبه فيه على الصورة المطلوبة المرتضاة، فقد أوجب الله على الزوج والزوجة حقوقًا لن يرضى الله سبحانه عن أحدهما، إلّا بقدر ما يؤدي منها لشريكه، وحين يتكافل كلاهما في أداء دور الرعاية، وتكون الحقوق والواجبات مراعاة ماثلة في البيت وخارجه، يتولّد الأمل، ويعظم الرجاء في الله بأن تستقيم الأسرة على النهج الذي ارتضاه الله لها، فتثمر ثمرتها الطيبة، وتورف بظلالها على المجتمع بأسره.
وللمرأة في هذا كله دورٌ مركزيٌّ على غايةٍ من الأهمية، لا سبيل لأيّ مجتمعٍ أن يستغني عنه، ولا أن يسيء تقديره، أو أن يتهاون إزاءه، ولقد مرَّتْ على المرأة ظروف وأحقاب من التاريخ، سيمت فيه الظلم والخسف، إلى أن تداركتها رحمة الإسلام الذي أقرَّ لها بالكرامة الإنسانية، مثلها في ذلك مثل الرجل، فهي ليست من طينة مغايرة للذكر، ولا أحقر ولا أذل، فتحتقر وتمتهن وتذل.
ولقد ذكَّر الإسلام البشرية جمعاء بأن الزوجات خلقن من أنفس أزواجهن في قوله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم: ٢١]، وقال ﵊: "إنما النساء شقائق الرجال" ١.
ولقد خلع الإسلام على المرأة من المكرمات والمنن، ما رفعها إلى مقام عالٍ، وأمكنها من حقوقها كاملة من غير نقصان، قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ﴾ [البقرة: ٢٢٨]، وهيأها خير تهيئة لتتحمل دورها، فكان للنساء في الإسلام من الفضل ما استأهلت به ثناء الرسول ﷺ عليهن، ودعوته إلى الرفق بهن وإكرامهن: "خياركم خياركم لنسائهم خلقًا" ٢.
_________
١ أخرجه أحمد في مسنده: ٦/ ٢٥٦ - ٢٧٧.
٢ رواه الترمذي في سننه، كتاب الرضاع.
1 / 18
ب- حقوق المرأة في الإسلام:
- حق المساواة في الحقوق:
وهو حق أصلي مقدَّسٌ، تنتفي معه كل الفوارق المصطنعة وأشكال التمييز الوهمي بين الجنسين، ومنطلق الإسلام في ذلك وحدة الأصل المعبرة عن وحدة الجوهر الإنساني، ولا يكون من معنى حينئذ لتنوع الجنس بين الذكر والأنثى إلّا للضرورة الطبيعية البشرية المقتضية لتواصل النوع، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى، إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾ [الليل: ٣ - ٤]، وقال سبحانه: ﴿وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً﴾ [النساء: ١].
وعلى هذه القاعدة المتينة، شرَّع الإسلام من الحقوق ما به تتحقق الكرامة الإنسانية للمرأة والرجل على حد السواء، وفتح لها مجال العمل وتنمية الذات وتفتيق المواهب والقدرات إلى ما لا حدَّ له، وجعل ذلك مقياس التفاضل بينهما.
هذه روعة الإسلام فيما وضعه للبشرية من دواعي النماء إلى الأفضل والأرقى، ما اتسعت له القدرة البشرية في العطاء والبذل، وليس فيه من حدٍّ ولا عائقٍ إلّا ما يكون انتكاسًا أو ارتدادًا عن هذا المبدأ الرباني، الذي لا يرى الفوارق بينهما إلّا بالعمل الصالح، والجهد المبرور، والبذل الخيّر، بما يرجع بالنفع العميم على البشرية جمعاء، قال تعالى: ﴿فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ﴾ [آل عمران: ١٩٥].
ومن الحقوق اللازمة التي نادت بها الشرائع السماوية، وأكدتها مقتضيات التطور في زمننا المعاصر، حق التربية والتعليم، وحق العمل، وحق المشاركة السياسية والاجتماعية.
- الحق في التربية والتعليم:
قال رسول الله ﷺ: "من كانت له أمة فأدبها فأحسن تأديبها، وعلمها فأحسن تعليمها، وغذاها فأحسن تغذيتها، كانت له وجاء من النار" ١.
_________
١ رواه البخاري في باب الجهاد، ص٣١.
1 / 19
لا شكَّ أن التربية هي أساس كل تنشئة صالحة، والوسيلة إلى تنمية الطاقات النفسية والعقلية والجسدية للمُرَبَّى، وإن اتخاذ الوسائل الممكنة التي تساعد على هذه التربية وتعينها على إدراك غايات الصلاح، لهو جزء لا يتجزأ من عملية التربية، ومن أوكد هذه الوسائل، تعليم البنت وإنارة عقلها وقلبها، حتى تنشأ على الوعي السليم الصحيح بوجودها ودورها، وما هي مؤهلة له طبيعيًّا واجتماعيًّا للقيام به داخل الأسرة والمجتمع، وبقدر ما يتنامى هذا الوعي وتتطور المهارات المكتسبة، تكبر المسئولية ويعظم الدور المنوط بعهدة المرأة كشريكٍ فاعلٍ وعضوٍ في عملية التنمية الشاملة على كل المستويات الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، ولقد برزت المرأة في مراحل التعليم المختلفة بقدرات جد محترمة، وأثبتت جدراتها بأرقى الشهادات العلمية في مختلف الاختصاصات التي كانت إلى وقتٍ غير متأخر معدودة ضمن مشمولات الرجل وقصرًا عليه.
لقد تعالت أصوات المصحلين في بلادنا الإسلامية، منذ القرن التاسع عشر الميلادي، مناديةً بتعليم المرأة ورفع الجهل عنها، إذا كنا نروم حقًّا إصلاحًا اجتماعيًّا شاملًا يرقى بالمجتمع ويحقق نهضته، فالمرأة إلى ما هي مؤتمنة عليه بحكم خلقتها، وما أودعه الله فيها من ميزات وخصائص تلائم دورها في التربية والرعاية، وتمكنها من المشاركة الاجتماعية الإيجابية الفاعلة، فهي المدرسة الأولى للمجتمع بأسره، والمعلمة الأولى للبشرية، في رحمها وأحضانها تنشأ الحياة الإنسانية ويتحدد مصيرها.
وفي تاريخنا الإسلامي الحافل، عديد الأمثلة على نساءٍ مسلمات جليلات برزن بعلمهن واجتهادهن، وضرب بهنَّ المثل في الإجادة علمًا وأدبًا وخلقًا، ومنهن أم المؤمنين عائشة ﵂ التي روت الحديث، وفسرت ما أغلق على أفهام الناس من آي القرآن الكريم، وأدلت باجتهادها في عديد الأحكام الفقهية، علاوةً عن درايتها بالأنساب وقولها الشعر، وفي بلادنا تونس، مثلٌ آخرٌ لامرأة صالحة خيرة، جرى ذكرها على كل لسان، جمعت بين العلم الديني والأدب
1 / 20
الخلقي، هي الأميرة المحسنة عزيزة عثمانة، وقد أوقفت حياتها وريعها خدمةً لأبناء بلدها من المحرومين، فكانت نموذجًا رائعًا للمرأة المثالية في عطائها الإنساني، وإحساسها التضامني التكافلي، وقدرتها الفعّالة على الإسهام في حياة المجتمع التونسي الذي تفاعلت معه أخذًا وعطاءً.
- الحق في العمل:
وهو مبدأ قرآني جليل، رفعه الإسلام إلى مقام العبادة، وجعله عنوانًا على الصلاح والفلاح، ومرقاة إلى الدرجات العلى من الجنة.
والمرأة غير مستثناة من هذه القاعدة الحقوقية الهامة لقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٧]، وقال أيضًا: ﴿وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [التوبة: ١٠٥].
ولقد أثبتت المرأة، عندها فُسِحَ لها باب العمل واقتحمت مجاله بكل جرأة واقتدار، أنها لا تقلُّ قيمةً ولا جدارةً ولا إمكانيات، بل استطاعت بما أودعه البارئ سبحانه فيها من سجايا الصبر وطول الأناة والموهبة العقلية، مستعينة في ذلك بإحساسها الإنساني الفطري العميق، أن تنجح وتبرز، وتناقس وتتألق في مجالات عدة، جنبًا إلى جنبٍ مع شقيقها الرجل.
ولسنا ندَّعي شيئًا، عندما نثني على بعض التجارب المتقدمة في بعض بلداننا العربية والإسلامية، وأخص بالذكر التجربة التونسية١ التي نجحت في مجال تنمية العنصر البشري، وإدماج المرأة كشريكٍ أساسيٍّ وفاعلٍ بجانب الرجل، في مشروع التنمية الشاملة التى تقدّمت فيه البلاد التونسية العربية المسلمة
_________
١ يُعَدُّ صدور مجلة الأحوال الشخصية حدثًا بارزًا في تاريخ تونس الحديث "١٣ أوت ١٩٥٦م"، خاصةً على مستوى التشريعات المتعلقة بتثبيت قواعد الاستقرار والازدهار لحياة الأسرة، وتمكين المرأة التي تمثل نصف المجتمع من حقها في التعليم والشغل والمشاركة في الحياة العامة ...
1 / 21