مدخل
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد الأمين وعلى آله الطاهرين.
وبعد: فيقول المفتقر إلى رحمة الله وعفوه عبدالرحمن بن حسين شايم المؤيدي أيده الله وثبته في الدارين: إن الله وله الحمد يسر لنا الاطلاع على علق نفيس يتنافس فيه المتنافسون، ويرغب في اقتنائه وتحصيله المحصلون، ألا وهو (شرح مصباح العلوم) المعروف بالثلاثين المسألة للرصاص، ذلك الشرح الذي تنشرح به الصدور، لمؤلفه الإمام علم الأعلام حجة الله على الأنام الناصر لدين الله: إبراهيم بن محمد المؤيدي اليحيوي، بل الله بوابل الرحمة ثراه، وجعل الجنة مقره ومثواه، فوجدته شرحا قد حوى من مسائل علم الكلام وأدلتها ما يشفي الآوام، ومن حل شبه الخصوم ورد أقاويلهم الباطلة فوق ما يرام، مع إيفاء المطالب في إيجاز، وبلاغة تكاد أن تقارب حد الإعجاز.
ولما كانت النسخة التي عثرت عليها هي مسودة التأليف -أعني نسخة الإمام بخط يده- رأيت أن من الصواب إخراجها ونسخها، ثم رسمها ونشرها لتخرج إلى رواد علم الكلام؛ لأن ذلك من المعاونة على البر.
ولكون النسخة المشار إليها قد اخترم من أولها خطبة الكتاب وسقط من أصل المسائل بعض صفحات، من المسألة الأولى بعض الرد على أهل النجوم، والمسألة الثانية (مسألة قادر بكمالها) وبعض (مسألة عالم) فقمت بإكمال ذلك النقص لتمام الفائدة، فإن سهل الله تعالى بنسخة كاملة، وصلنا كلام المؤلف بعضه ببعض، وإلا فليس لي من قصد إلا إفادة الطالب والأجر من الله تعالى.
وأول كلام الإمام عليه السلام دعاءه للشارح المحقق بقوله عليه السلام:
पृष्ठ 10
عمر الله به ربوع المدارس وقوم به أركان العلم الدارس، فشفى بشرحه عليل مهج الصدور، وأزرى بمقاله حسن كل مصدور، وجمع من علوم الآل شتاتا، وزخر بحره أبلج عذبا فراتا، لكن لما تقاصرت الهمم كادت أن تغرق الأفهام في تلك الأمواج، ولتشعب الأقوال عليهم لم يؤمن عدم اهتدائهم إلى المنهاج، فدعتني الهمة القاصرة إلى تعليق مختصر يكون وافيا، وندبتني الخواطر الفاترة إلى تبيين مقاصد المختصر تبيينا شافيا من غير تطويل ممل، ولا اختصار مخل، ولا انتحال شيء من الأنظار، بل أخذته من أقوال النظار، فإن جاء حسنا فلفضل المتقدمين، وإن غير ذلك فلقصوري الواضح المبين، ومن الله أستمد الهداية وأستعينه في البداية والنهاية، إنه ولي ذلك والقادر على ما هنالك:
قال المصنف مبتدئا: (بسم الله الرحمن الرحيم) أي بسم الله أبتدئ تأليف هذا الكتاب، ومعناه أستعين على ذلك بالتسمية؛ ليمنها وبركتها، فالباء للاستعانة، ويقدر الفعل متأخرا عنها لإفادة الاختصاص، والبداية بالبسملة لدليلين: عقلي، وسمعي:
أما العقلي: فلما تقرر في العقول من وجوب شكر المنعم والاهتمام به ضرورة، والثناء باللسان هو أحد شعب الشكر، فلا يظهر الاهتمام إلا بالتقديم.
وأما السمع: فلما ورد في الكتاب العزيز نحو:{بسم الله مجراها} [هود:41] {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}[النمل:30] وقال : ((كل أمر ذي بال لم يذكر اسم الله عليه فهو أجذم)) وقيل: أبتر، وقيل: خداج، روته عائشة، وقد حسنه بعض الحفاظ، والمعنى بذلك منزوع البركة.
وفائدة إقحام لفظ اسم ما في ذلك من التعظيم لله عز وجل حيث كان من التيمن باسم الذات، فكيف بالذات؟ و(الله) اسم للواجب الوجود جل وعلا الحقيق بجميع المحامد، و(الرحمن) إسم لذلك الجلال شرعا، و(الرحيم) كذلك، فهما حقيقتان دينيتان عرفيتان منقولتان من وصف للمبالغة.
पृष्ठ 11
اعلم: أن من ألف مؤلفا ينبغي له أن يقدم مقدمة تعين الطالب، ويكون بها على بصيرة، وبعضهم يذكر فيها تعريف العلم وموضوعه وغايته واستمداده وحكمه، وبعضهم يقتصر على الحد، ونحن نذكر تعريفه واستمداده والغرض منه وفائدته.
أما تعريفه: فهو علم يعرف به كيفية الاستدلال على واجب الذات وما له من الصفات.
واستمداده من العقل بواسطة النظر في الآثار من أدلة الأنفس والآفاق، كما قال تعالى: {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم}[فصلت:53] وكذلك النظر في كتاب الله عزوجل، وما صح عن رسوله كما جاء في الحديث المرفوع: ((من أخذ دينه عن التفكر في آلاء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال مال به الرجال من يمين إلى شمال وكان من دين الله على أعظم زوال)) والغرض منه الفوز بالسعادات الباقيات الدائمات.
وفائدته: التمسك بأصل عرى الإيمان لمعرفة الملك الديان، وهو العلم به، وما يجب له ويجوز عليه، وما يتوسط في أثناء ذلك من الزيادات لرابطة ما.
ثم اعلم: أن كل علم يشرف بشرف معلومه، ويعظم نفعه بحسب الحاجة إلى مفهومه، فمن هنا كان علم التوحيد رأس العلوم؛ لأن معلومه الله الحي القيوم، ولأن به يتميز الكفر من الإيمان، وعليه يدور رحى الحق في كل زمان، وقد حكم بوجوبه وجلالته العقل، وجاء بتأكيد ذلك القول الفصل، قال تعالى: {فاعلم أنه لا إله إلا الله}[محمد:19] وقال: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم قائما بالقسط}[آل عمران:81] وإنما تكون الشهادة عن يقين، وأهل الأصول هم المعنيون بهذه الآية المخصوصون بشرفها، ورد عنه : ((ما جزاء من أنعم الله عليه بالتوحيد إلا الجنة)) رواه الإمام عزالدين -عليه السلام-.
पृष्ठ 12
ومن هنا (اعلم أن أول ما يجب على المكلف) قيل المكلف: هو من أعلم بوجوب بعض المقدورات عليه، وقبح بعضها منه مع مشقة تلحقه في الفعل أو الترك، أو أحدهما، أو في سبب ذلك، أو ما يتصل بذلك مالم يبلغ الحال حد الإلجاء.
فقوله:( أعلم): ليدخل الكفار، فإنهم أعلموا، وإن لم يعلموا أنهم مكلفون، وقوله: (مع مشقة في الفعل) للاحتراز عن أهل الجنة، ومن علم ذلك ممن لا تكليف عليه كالصبيان، وقوله: (أو في سبب ذلك) كالعلم بالله فالمشقة في سببه، وهو النظر، وقوله: (وما يتصل بذلك) نحو حراسة الفعل من نحو الرياء، وإن كان الفعل لا مشقة فيه، وقوله: (مالم يبلغ حد الإلجاء) احتراز عن المحتظر وأهل الآخرة، وهذا على القول بأن الإلجاء يجامع الوجوب، وإلا فلا حاجة إلى القيد عند من قال: بأنه لا يجامعه إذ قد خرج من قوله: (مع مشقة تلحقه في الفعل) فمن جمع هذه الشروط فالواجب عليه (هو النظر) وهو النظر الفكري. وحقيقته: المعنى الذي يولد العلم عند تكامل شروطه، إذ لفظ النظر مشترك بين معان هذا أحدها.
والثاني: نظر العين نحو: نظرت إلى الهلال فلم أره، وقد قيل في تحقيقه: فتح الجفن الصحيح الحدقة إلى حيث تقع الرؤية للمرئي، أو القصد لرؤيته إذا لم ير.
وثالثها: نظر الرحمة، وحقيقته: إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه نحو: {ولا ينظر إليهم يوم القيامة}[آل عمران:77].
ورابعها: نظر المقابلة وهو تحاذي المتحيزين نحو: داري تنظر إلى دار فلان.
وخامسها: نظر الانتظار، وحقيقته: التوقع لحصول أمر في المستقبل خيرا كان أو شرا نحو قوله تعالى: {فناظرة بم يرجع المرسلون}[النمل:35] والنظر الفكري المراد هنا نحو: {قل انظروا ماذا في السماوات}..الآية [يونس:101] ومحله القلب.
पृष्ठ 13
قال المهدي: بلا خلاف بين من أثبته معنى، والقول بوجوب النظر وأنه فرض عين على كل مكلف هو قول القاسم والهادي وغيرهما من عامة الآل.
وقال (م بالله) والإمام عزالدين وغيرهما من الآل: يجوز حصول العلم ضرورة لبعض الأنبياء ونحوهم، ولعل من ذلك ما وقع لعيسى -عليه السلام- حيث قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب}[مريم:30] وهو في تلك الحال ليس من أهل النظر قطعا، وبهذا جزم الإمام (ي) -عليه السلام- فلا يجب النظر على هؤلاء، وكذا لا يجب النظر عند من قال بجواز التقليد في الأصول كأبي القاسم وأبي إسحاق بن عياش وغيرهما، ولا يجوز عند من قال إن النظر يؤدي إلى الشك والحيرة، وكذا لا يجب عند أهل التكافؤ القائلين بأن الأدلة متكافئة، وعند أهل السمع القائلين بأنه لا طريق إلى العلوم الدينية إلا السمع، وأهل الظن وأهل البدعة القائلين بأن الإسلام لم يرد إلا بالسيف وأن النظر بدعة.
पृष्ठ 14
وإنما قال: من سبق بوجوبه عقلا لأمرين: أحدهما: أنه (المؤدي) أي الموصل (إلى معرفة الله وهي) أي معرفة الله الإجمالية (واجبة) عقلا على كل مكلف من غير شرط، وذلك لأجل القيام بواجب شكره تعالى على ما أنعم، وشكره واجب عقلا، إذ شكر المنعم مركوز في العقول حسن القيام به ووجوبه، وجهل المنعم بكل وجه يستلزم الإخلال بشكره على المنافع الواصلة إلينا (ولا طريق للمكلفين إليها سواه) أي النظر، لامتناع أن يعرف الله بالبديهة، وإلا لما اختلف العقلاء فيه (ولا [ظ]) بالمشاهدة، وإلا لشاهدناه الآن، ومعلوم أنا لا نشاهده و(لا[ظ]) بالأخبار المتواترة، إذ من شروطها الاستناد إلى محسوس، وقد استحال، فلم يبق سبيل إلى معرفته تعالى إلا النظر، (ومالا يتم الواجب) الذي هو مشروط كالمعرفة (إلا به يكون واجبا كوجوبه) وإلا وقع الإخلال بالواجب، وقد قضى العقل بقبحه، وذهب كثير من المعتزلة وجماعة من الأئمة إلى أن الوجه لوجوب المعرفة كونها لطفا في واجبات عقلية، قيل: عملية من رد وديعة وشكر منعم ونحو ذلك.
فإن من عرف أن له صانعا إن عصاه عذبه، وإن أطاعه أثابه كان أقرب إلى فعل الطاعة، وترك المعصية فتجب؛ لأنها جرت مجرى دفع الضرر عن النفس، ودفعه واجب، وإنما جرت مجراه؛ لأنها تدعو إلى فعل الواجب وترك القبيح، وبهما يندفع الضرر فقد قربت إلى ذلك.
قالوا: لأن شكر المنعم لا يجب إلا بعد معرفته، ومعرفة إحسانه وتحصيل شرط الواجب ليجب لا يجب؟
पृष्ठ 15
والجواب: أنا لا نسلم عدم وجوب تحصيل شرط الواجب، بل يجب إن لم يرد الأمر مشروطا به، والأمر الآخر الدال على وجوب النظر عقلا إفحام الرسل لو لم يجب إلا سمعا كما ذلك مذهب البعض، بيانه أن الرسول إذا قال لمن يخاطبه: انظر في معجزتي كي تعلم صدقي، فله أن يقول: لا أنظر حتى يجب النظر، ويكون هذا القول حقا لا سبيل للرسول إلى دفعه، وهذا حجة عليه وهو معنى الإفحام، وللمخالف معارضة وتحقيق، وقد كفى في الرد عليهم علماء العدل، والغرض الإشارة لا التطويل.
فائدة: معنى قولهم: النظر أول واجب أنه لا يعرى المكلف عن
وجوبه عند ابتداء تكليفه بخلاف سائر الواجبات، فإنه قد يعرى عنها نحو قضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم؛ لأنه قد يخلو عن الدين، وعن الوديعة، وعن نعمة غير الله، وأما نعمة الله فهو وإن لم يعر عنها في حال لكنه لا يجب عليه شكرها حتى يعرفه، وهو في أول تكليفه غير عارف فلا يلزمه الشكر، فظهر لك أنه قد يعرى في أول تكليفه عن جميع الواجبات ما خلى النظر فإنه لا يعرى عنه، ولما كان كذلك وصف بأنه أول الواجبات وليس بأولها في كل حال بل عند عرو المكلف عما عداه من الواجبات، والذي حملهم على الإطلاق المبالغة في الحث عليه والاهتمام به.
(باب إثبات الصانع)
أي اعتقاد ثبوته، وقوله: (وذكر توحيده) من باب عطف العام على الخاص، وهو وارد مثل قوله تعالى: {فإن الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين والملائكة}[التحريم:4] ووجه ذلك هو التنبيه على أن إثبات الصانع هو أصل باب التوحيد.
وجعل ذكر التوحيد (وذكر عدله ووعده ووعيده) بابا واحدا تقريبا وتسهيلا للمبتدئ، وإلا فالتوحيد باب، والعدل وما يلحق به كذلك، والوعد والوعيد باب.
पृष्ठ 16
(واعلم أن) ما يجب على المكلف من (المهمات) في صفة اعتقاده (من) فن (أصول الدين ثلاثون مسألة) في التوحيد عشر، وفي العدل وما يتبعه عشر، وفي الوعد والوعيد وما يتصل بذلك عشر، وإنما قدم التوحيد على العدل؛ لأن بعض مسائله دالة على بعض مسائل العدل، وباقي مسائله تابعة ودليل الشيء مقدم عليه.
وأيضا: فإن التوحيد كلام في ذاته تعالى وصفاته، والعدل كلام في أفعاله، ومهما لم تعلم ذاته وصفاته لم تعلم أفعاله.
وقدم العدل على الوعد والوعيد؛ لأن في بعض مسائله دلالة على مسائل الوعد والوعيد، ولأن من جملة مسائل العدل إثبات كون القرآن كلام الله، والوعد والوعيد كلام في أنه قد وعدنا فيه وتوعدنا، وأنه لا يخلف الوعد والوعيد، ولا يمكن أن نتكلم في أنه وعد ووعيد، وأنه لا يخلفه حتى نعلم كون القرآن كلامه، وألحقت سائر مسائل العدل بمسألة القرآن اتباعا؛ لأنهما من باب واحد.
पृष्ठ 17
باب التوحيد
قال القرشي: هو في اللغة: عبارة عن فعل ما يصير به الشيء واحدا انتهى.
يقال: وحد الشجرة إذا فعل فعلا تبقى به واحدة كقطع أغصانها، وإبقاء أصلها، وفي عرفها: هو الخبر عن كون الشيء واحدا.
وفي اصطلاح المتكلمين: هو العلم بالله تعالى، وما يجب له من الصفات، وما يستحيل عليه منها، وأنه لا ثاني له يشاركه في ذلك الحد الذي يستحقه.
وقال علي عليه السلام لما سئل عن حد التوحيد: (هو أن لا)
تتوهمه) ومعناه: أن كل ما خطر ببال ذوي الأفكار فبمعزل عن حقيقة ملكوته، وجميع ما تنعقد عليه ضمائر أولي الأبصار فعلى خلاف ما ذاته المقدسة عليه من نعوت جبروته، لا تدرك كنه عظمته الأفهام، ولا يبلغ شأو كبريائه الأوهام، جل عما يجول به الوسواس، وعظم عما تكيفه الحواس، وكبر عما يحكم به القياس، إن قيل: أين؟ فهو سابق للمكان، أو قيل: متى؟ فهو سابق للزمان، أو قيل: كيف؟ فقد جاوز الأشباه والأمثال، وإن طلب الدليل عليه فقد غلب الخبر العيان، وإن طلب البيان فالكائنات بيان وبرهان؛ فهو تعالى بخلافها في الذات والصفات، وهو الوصف الذي به التمايز بينه وبين العوالم، وإن اختلفت العوالم في صفة فإنها توافق في أخرى؛ فهو تعالى بخلاف الأشياء كما أشار إليه القاسم -عليه السلام- ذكر ذلك بعض العارفين. ويشتمل هذا الباب على عشر مسائل:
(المسألة الأولى: في أن لهذا العالم صانعا صنعه ومدبرا دبره)
ولا كلام في وجوب تقديم هذه المسألة على سائر مسائل الإثبات؛ إذ الكلام على كل واحدة منها لا يتأتى إلا بعد تحقيق هذه المسألة، فإنه قد تقرر وثبت أنه لا يمكن العلم بالحال إلا مع العلم بالذات.
والمراد بالعالم: المخلوقات من السموات والأرض والحيوانات وغيرها، قال الجوهري: العالم الخلق، والجمع العوالم، والعالمون أصناف الخلق.
पृष्ठ 18
وقد اختلف أصحابنا هل من العقلاء من ينكر أن للعالم مؤثرا، ويزعم أنه حاصل لا عن تأثير مؤثر، ولا يوجد في ذلك مخالف على الجملة، وإنما الخلاف في التفصيل، والذي عليه الجمهور: أن الخلاف واقع في المؤثر جملة، كما أنه واقع فيه تفصيلا، وأن من الناس من لم يثبت مؤثرا قط فقد روي نفي المؤثر عن الملحدة، والدهرية، والفلاسفة المتقدمين، والطبائعية، والذي عليه أهل الإسلام والكتابيون والبراهمة وبعض عباد الأصنام، وهم فرقة أقرت بالله وبالبعث وبالرسول، وعبدوا الأصنام معتقدين أن عبادتهم تقربهم إلى الله تعالى أن لهذا العالم صانعا مختارا.
(والدليل على ذلك) المذهب الصحيح الذي هو مذهب أهل الإسلام ومن تابعهم من وجوه كثيرة، اعتمد منها على دلالة الأكوان وطريقة الدعاوي، وأول من حررها ولخصها قيل: أبو الهذيل وتابعه عليها من بعده من المعتزلة.
وذكر الشيخ أحمد بن محمد الرصاص: أن أول من أشار إليها إبراهيم -صلى الله عليه- كما حكى الله عنه في آية الأفول، وهو (أن هذه الأجسام) على تنوعها من حيوان وجماد، ونام وغير نام (محدثة) والمحدث: هو الموجود الذي لوجوده أول (والمحدث لا بد له من محدث) وقالت الدهرية: بل هي قديمة لم يسبق وجودها عدم، ولا يخالفون في تراكيبها كالحوادث اليومية أنها محدثة (والذي يدل على) إبطال مذهبهم (أن هذه الأجسام محدثة أنها لم تخل من الأعراض المحدثة) ولم تتقدمها، وما لم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث مثله، وهذه الدلالة مبنية على أربع دعاو وهي: أن في الجسم أعراضا غيره، وأنها محدثة، وأن الجسم لم يخل منها ولم يتقدمها، وأن مالم يخل من المحدث ولم يتقدمه فهو محدث، فهذه أربع.
أما الأولى: وهي أن في الجسم عرضا غيره، والعرض في اللغة: هو ما يعرض في الوجود ويقل لبثه.
وفي الاصطلاح: الحادث الذي لا يشغل الحيز، وهذا العرض هو غير الجسم عند مثبتي المعاني.
पृष्ठ 19
وأما من جعله صفات كأبي الحسين فلا يجعله غيره بل في حكم الغير، وهذا مذهب الجمهور.
وقال حفص الفرد وجماعة من الفلاسفة وغيرهم: لا عرض في الجسم، وهؤلاء هم المعروفون بنفاة الأعراض.
وذهب أبو الحسين وابن الملاحمي والإمام يحيى إلى نفي المعاني وجعلوا الأعراض صفات للجسم بالفاعل.
وقد قيل: أن نفات الأعراض لا ينفون الصفات إذ هي ضرورة فيكون مذهبهم ومذهب أبي الحسين ومن معه مذهبا واحدا.
قال ابن زيد: ومذهب أبي الحسين مذهب القاسم والهادي، لنا على ثبوت الأكوان (التي هي الحركة والسكون والاجتماع والافتراق ) أن الأجسام اتفقت في الجوهرية والتحيز والوجود، ثم افترقت في الحركة والسكون والاجتماع والافتراق، فلا بد أن يكون ما افترقت فيه، أمرا زائدا على ما اتفقت فيه، وإلا كانت متفقة مختلفة في أمر واحد وهو محال.
وأما الدليل على إثبات المعاني وأن هذه الصفات موجبة عنها: هو أن الجسم حصل في جهة مع جواز أن يحصل في غيرها، والحال واحدة والشرط واحد، فلا بد من أمر له حصل كذلك، وذلك الأمر ليس إلا وجود معنى، والمراد بالحال ههنا: ما يصحح الصفة المعنوية وضدها، أو ما يجري مجرى ضدها إن كان، وذلك كالتحيز مثلا فإنه المصحح لكونه مجتمعا ولكونه مفترقا، ونريد بالشرط ههنا: ما كان مصححا لهذه الحال وتحرير هذا الدليل في المطولات والغرض الاختصار.
وأما من قال: إنا لا نعقل إلا الصفات كأبي الحسين وغيره: فنقول: الحاصل لا يخلو إما أن يكون جسما أو معنى أو صفة، لا يجوز أن يكون جسما لوجهين: أحدهما: أن الواحد منا ليس بقادر على الجسم ولا يقف على اختياره، وكون الجسم متحركا يقف على اختيارنا.
الثاني: أن كون الجسم متحركا يتجدد ثبوته في حال بقائه، ولا يجوز أن تكون معاني؛ لأن المعاني تعلم على انفرادها، وكون المتحرك متحركا لا يعلم على انفراده، وإنما يعلم تبعا للعلم بذي الإحتراك، فلم يبق إلا أنه صفة.
पृष्ठ 20
وأما الدعوى الثانية: وهي أن الأعراض محدثة فقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة زعموا أنها قديمة، ولكنها تكمن وتظهر، وهؤلاء هم أهل الكمون والظهور، قلنا: الدليل على حدوثها أنها تعدم والقديم لا يعدم، أما أنها تعدم، فلأنه متى سكن الجسم المتحرك عدمت الحركة التي كانت فيه، والعكس، وإنما قلنا: أنه عدم؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون باقيا فيه مع وجود ضده، أو منتقلا منه إلى غيره، أم معدوما كما نقول لا يصح أن يكون باقيا، إذ لو كان باقيا مع وجود ضده لكان الجسم متحركا ساكنا مثلا في حالة واحدة، وهو محال إذ المعاني توجب الصفات لما هي عليه في ذاتها، فيلزم أن توجبها في كل أو قات وجودها إذ لا اختصاص لذلك بوقت دون وقت، ولا يصح أن يكون المعنى منتقلا، وإلا لكان العرض منتقلا، وانتقاله محال؛ لأنه إن أريد بالانتقال ما هو المعقول من أنه تفريغ جهة وشغل أخرى فهو إنما ثبت في المتحيزات وبه تتميز عن غيرها، والأعراض ليست بمتحيزة وإلا لم يصح اجتماع الأعراض الكثيرة في المحل الواحد.
وإن أريد بالانتقال أن تحل محلا آخر غير محلها الأول فهو لا يصح؛ لأن حلول العرض في المحل المعين له كيفية في وجوده، وكيفية الوجود لا تفارقه، فلم يبق إلا أن يكون معدوما، وأما أن القديم لا يعدم، فلأن جواز القدم ينافي وجوب الوجود ويقتضي أن الموجود والمعدوم على سواء في الجواز، وإذا كان كذلك لم يكن الوجود أولى من العدم إلا بمخصص والمخصص باطل.
पृष्ठ 21
وأما الدعوى الثالثة: وهو أن الأجسام لم تخل من الأعراض المحدثة ولم تتقدمها في الوجود، والمراد بالأعراض التي لم يخل منها الجسم الأكوان الخمسة وهي: الحركة، والسكون، والاجتماع، والافتراق، والكون المطلق، وأما ما عداها من الأعراض فهي على ضربين: ضرب غير باق فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده وبعد وجوده، وذلك كالصوت والاعتماد. وضرب باق، فيجوز خلو الجسم عنه قبل وجوده في الجسم، فإن وجد لم يجز خلوه عنه إلا لأمر يرجع إلى الجسم وذلك
كاللون فإنه يجوز أن لا يوجد الله في الجسم الذي خلقه لونا، وإن أوجد سوادا مثلا لم يجز أن يخلو ذلك الجسم عن جنس من أجناس اللون، وإن جاز خلوه من السواد، فإذا تحققت هذا فالذي لا يخلو عنه الجسم هو الكون المطلق الحاصل حالة حدوثه، وما عداه فقد تقدم الجسم عليه وإن أمكن الاستدلال به على حدوث الجسم؛ لأن الجسم لم يسبقه إلا بوقت واحد، وقد خالف في ذلك فرقة من الفلاسفة فقالوا بالأكوان وأنها محدثة، إلا أنهم قالوا: إن أصل العالم متغير عنها ثم حصلت بعد ذلك.
وقالوا: إن هيولى الجسم قديمة خالية عن العرض حتى حلتها الصورة، ويريدون بالهيولى أصل الشيء المنزل منزلة الطين من اللبن، وبالصورة ما يحصل من التركيب المنزل منزلة التربيع منه.
قلنا: إن الجسم لا يحصل إلا في جهة بالضرورة فيما نشاهده وبجامع التحيز فيما غاب عنا، ولسنا نعني بالكون أكثر من حصوله في الجهة، ولكن التسمية تغير عليه فيسمى سكونا إن لبث به الجسم أكثر من وقت واحد، أو حركة إذا انتقل به، واجتماعا إذا وجد مع الجوهر غيره وكان بالقرب منه، وافتراقا إذا كان ذلك الغير بالبعد منه.
وأما قولهم: بالهيولى والصورة فإنه باطل؛ لأنهما غير معقولين ولا طريق إليهما، ولأنهما إذا كانا قديمين غير متحيزين لم يكن أحدهما بأن يكون هيولى والآخر صورة، ولا بأن يكون حالا والآخر محلا أولى من العكس لاشتراكهما في القدم.
पृष्ठ 22
وأما الدعوى الرابعة (و) هي: (أن مالم يخل من المحدث ولم يتقدمه في الوجود فهو محدث) فقيل العلم بها ضرورة، وقال بعض العلماء: بل هي استدلالية فتحتاج إلى النظر والاستدلال.
وزعم ابن الراوندي والفلاسفة: أن الجسم قديم وهو لم يخل من الأعراض المحدثة بأن يحصل في الجسم حادث قبله حادث إلى مالا أول له، والجسم وإن قارن جملة الحوادث فلا أول لها، فكذلك لا أول له، وقولهم بحوادث لا أول لها ظاهر الفساد؛ لأنه إذا كان كل واحد من هذه الحوادث له فاعل كما سيأتي، وحق الفاعل أن يتقدم على فعله كان في ذلك تقدمه على جميعها، فلا يستقيم حصول شيء منها فيما لا أول له لتقدم غيرها عليها.
(فثبت) بما تقرر من الأصول الأربعة (أن هذه الأجسام محدثة) وظهر بطلان قول من قال بقدمها.
قيل: (و) قد اتفق العقلاء على أنه لا بد من محدث لهذا المحدث، قيل: والعلم بذلك ضروري، المهدي أحمد بن يحيى: بل استدلالي في الأصح، وإليه ذهب الجمهور والمؤلف فقال: (والذي يدل على أن المحدث لا بد له من محدث أنه) قد وجد في بعض المحدثات ما فيه إحكام عظيم، وصنعة باهرة، وإتقان عجيب، فلو كان ذلك لا من مؤثر، أو من موجب لصح أن يجتمع ألواح في البحر، ويتركب منها سفينة محكمة من دون صانع بطبع تلك الألواح، وأيضا فإن الجسم (إذا كان في الأصل معدوما، ثم خرج من العدم إلى الوجود لم يكن بد من مخرج أخرجه، وإلا لوجب بقاؤه على عدمه الأصلي) إذ قد أثبتنا وجوده بالأدلة بعد أن لم يكن (وذلك يعلم بأدنى نظر) ولذلك ادعى بعضهم أنه ضروري كما سبق.
पृष्ठ 23
وإنما قلنا: أنه استدلالي؛ لأنه لو كان ضروريا لكان بديهيا؛ لأن الضروري الحاصل عن طريق ليس إلا عن المشاهدة، أو الأخبار المتواترة، أو عن الخبرة والتجربة على قول، ولا شيء من هذه الطرق حاصل ههنا، ولو كان بديهيا أيضا لاشترك العقلاء فيه، وفيه خلاف ثمامة فإنه يقول: لا محدث للمتولدات مع اعترافه بحدوثها، وعوام الملحدة يقرون بحدوث الدجاجة والبيضة ولا يقرون بمحدث، وكذلك سائر الحوادث اليومية.
(فثبت) بما تقرر من الأدلة (أن لهذا العالم صانعا صنعه، ومدبرا دبره وهو الله) وفيه مخالفة الفلاسفة القائلين بالعقول والأنفس، والباطنية القائلين بالسابق والتالي، وأهل الطبع وأصحاب النجوم، لنا: أنها إما أن تكون أحدثت نفسها أو غيرها، والأول باطل؛ لأنها حالة العدم يستحيل أن تقدر فضلا عن أن تؤثر في نفسها، وحالة الوجود تستغني عن المؤثر، وإن أحدثها غيرها فهو إما مختار كما نقول، أو موجب، الثاني باطل؛ لأن ذلك الموجب إن كان محدثا عاد الكلام في محدثه حتى ينتهي إلى المختار، وإن كان قديما لزم أن تحصل الأجسام دفعة واحدة في جهة واحدة، بل في كل الجهات؛ لأنه لا يخصها بوقت دون وقت، وجهة دون جهة إلا المختار، ويلزم أن تكون لصفة واحدة؛ لأنه ليس بعضها بأن يوجب كون الماء ماء والطين طينا أولى من العكس، ولا بأن يوجب كون الماء رطبا والطين يابسا أولى من العكس.
فإن قال: إنما لم توجب في الأزل لحصول مانع أو فقد شرط.
قيل له: ذلك المانع إن كان محدثا عاد الكلام في كون محدثه مختارا أوموجبا، وإن كان قديما استحال عليه الزوال، فلا يوجد العالم أبدا لاستمرار المانع.
ويقال للفلاسفة: أي شيء العقول والنفوس وما الدليل على ثبوتها؟ وإذا كانت قديمة فلم كان البعض بأن يؤثر في البعض أولى من العكس؟ ولم كان البعض بأن يكون عقلا والآخر نفسا أولى من العكس؟ وما الدليل على أن الأفلاك حية وأن لها نفوسا؟
पृष्ठ 24
وبقريب من هذا الكلام يبطل قول الباطنية؛ لأن مذهبهم يضاهي مذهب الفلاسفة؛ لإثباتهم علة قديمة صدر عنها السابق وعن السابق تالي، وعن التالي نفس كلية، كما أن الفلاسفة أثبتت علة قديمة وصدر عقل عنها، فالكلام متقارب وإن اختلفت العبارة.
وأما الطبائعية فيبطل قولهم: أن الطبع الذي نسبوا إليه التأثير غير معقول وأن من حق ما ينسب إليه التأثير أن يكون أمرا معقولا مميزا موجودا.
وأما الطبع: الذي أثبته أهل اللغة فهو وإن كان معقولا فهو ليس بأمر وجودي بل أمر اعتباري، ومعناه العادة والسجية، وأيضا فالطبع شيء واحد، فما الأمر الذي اقتضى وقوع الأشياء على هذا الترتيب البديع والحكمة الباهرة، ووقوعها بحسب المصالح في كل وقت؟ وأيضا فالطبع إما موجود أو معدوم، والموجود إما قديم أو محدث، القسمة الأولى بعينها في أول المسألة.
وأما أصحاب النجوم: وهم فرقة من الفلاسفة وغيرهم، فالنجوم عند المسلمين جمادات سخرها الله تعالى بأمره ودبر حركاتها بمشيئته، خلقها تعالى حكمة لمنافع عبيده لما فيها من الألطاف لهم، وزينة للسماء، ورجوما للشياطين، وعلامات يهتدى بها كما حكى الله تعالى، فالذي يبطل قول من جعلها فاعلة مختارة أنها غير حية، ولا قادرة والفعل لا يصح إلا من حي قادر ضرورة فبطل ما قاله المخالف، والنجوم التي زعموها مؤثرة سبعة هي: زحل والمشتري والمريخ والشمس والزهرة وعطارد والقمر، على اختلاف بينهم، فمنهم من يقول: تأثيرها على جهة الإيجاب ولا قدرة لها، ومنهم من يقول: بل على جهة الصحة والاختيار، وهي حية قادرة عالمة، وهذه دعوى لا دليل عليها، ولا يصح تأثير جسم في إيجاد جسم ولا إحداثه، فإذا بطل قولهم لم يبق إلا أن المؤثر هو الصانع المختار، والحمد لله.
पृष्ठ 25
(المسألة الثانية: أن الله تعالى قادر)
وحقيقة القادر: هو من يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال، هذا الحد ذكره ابن الملاحمي وبعض أصحابنا، وهو بناء على ما ذهب إليه ابن الملاحمي وأبو الحسين من أن صدور الفعل من الفاعل على سبيل الصحة والاختيار يعلم ضرورة أنه يقتضي قادريته.
وعند المتقدمين: القادر: هو المختص بصفة لكونه عليها يصح منه الفعل مع سلامة الأحوال.
فقوله المختص بصفة: جنس الحد، وقوله لكونه عليها: أي لأجل اختصاصه بها، وقوله يصح منه الفعل: فصل مخرج لما تناوله الجنس، والمراد بالصحة: ما كان على وجه الاختيار لا الصحة التي تقابل الاستحالة، فإنها لا تدل على القادرية كالمسببات، وقوله مع سلامة الأحوال: يعني مالم يكن ثم مانع أو ما يجري مجرى المانع، والمراد بالمانع: هو الضد كأن يريد أحدنا حمل شيء فيعتمد عليه من هو أكبر منه قدرا، فالمنع هو الضد لفعلك، والضد هو ما فعله الأقوى من السكون، والذي يجري مجراه هو القيد والحبس، فإنهما يمنعان من كثير من الأفعال، وهما جاريان مجرى الضد؛ لكونه يتعذر معهما الفعل كما يتعذر عند حصول الضد، أفاد هذا صاحب الغياصة.
وقيل: هو المختص بصفة؛ لكونه عليها يصح منه الفعل مالم يكن ثم مانع أو ما يجري مجراه، ولم يكن الفعل مستحيلا في نفسه كوجوده فيما لم يزل، وهذا الحد قريب من الأول، وقيل في حده: هو الذي إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل.
والقول بأن الله قادر هو قول من يقر بالصانع المختار (والدليل على ذلك) المذهب الصحيح (أن الفعل) وهو ما وجد من جهة من كان قادرا عليه، وهذا الحد اعتمده الأمير الحسين -عليه السلام- والقرشي، وقال قاضي القضاة: الفعل هو ما يحصل من قادر من الحوادث..، واعترضه السيد الإمام في الشرح، وقال الإمام المهدي -عليه السلام-: هو ما أثر في وجوده قادرية.
पृष्ठ 26
وحقيقة الفاعل: هو الذي وجد من جهته بعض ما كان قادرا عليه..، أفاده الأمير الحسين -عليه السلام- والقرشي، ثم قال: وقلنا بعض؛ لأن الفاعل يكون فاعلا وإن لم توجد جميع مقدوراته، انتهى.
(قد صح منه) والمراد الصحة التي تقابل الاختيار لا الصحة التي تقابل الاستحالة كما تقدم (والفعل لا يصح إلا من قادر) ضرورة (دليل ذلك أنا وجدنا في الشاهد ذاتين: أحدهما: إذا حاول حملا ثقيلا حمله، والآخر: يتعذر عليه، فالذي صح منه الفعل يجب أن يفارق من تعذر عليه ذلك).
اعلم أن هذا الدليل هو من قياس الغائب وهو الله جل جلاله على الشاهد، وهو الواحد منا بعلة جامعة، قالوا: لأن طرق الأدلة لا تختلف شاهدا ولا غائبا.
قالوا: وثبوت المفارقة معلوم ضرورة، وكلام الإمام القاسم بن محمد -عليه السلام- أن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة. انتهى.
فالعلم بذلك ضروري ولا نحتاج إلى الاستدلال بالقياس؛ لأن الفعل قد صح منه تعالى، وكل من صح منه الفعل فهو قادر.
قال مولانا العلامة الإمام علي بن محمد العجري -رحمه الله- في (مفتاح السعادة): اعلم: أن هذا الدليل المركب من القياس وما ذكره النجري مبنيان على ما ذهب إليه الأكثر أن هذه الصفة أمر وجودي زائد على الذات، وأما على ما ذهب إليه الأئمة عليهم السلام ومن وافقهم ممن ينفي الأحوال، فالدليل على قادريته عندهم ما مر من أن العلم بأن صحة الفعل لا تكون إلا من قادر ضرورة، انتهى.
(و) يجب (أن يختص القادر عليه بمزية، تلك المزية هي التي عبرنا عنها بكونه قادرا، فإذا كان الله سبحانه قد صح منه من الأفعال ما يتعذر على غيره ثبت أنه تعالى قادر) وقال ابن حابس رحمه الله: إن هذا ليس بقياس، وإنما هو رجوع إلى كلية. انتهى.
ولا شك في إثبات صفة القادرية للقادر، ومرجعها عند أئمتنا عليهم السلام إلى ذات الباري جل وعلا، وفي الشاهد إلى البنية المخصوصة.
पृष्ठ 27
واعلم: أنه يلزم المكلف أن يعلم أن الله تعالى قادر فيما لم
يزل وفيما لا يزال، ولا يجوز خروجه عن هذه الصفة في حال من الأحوال، ويعلم أنه تعالى قادر على جميع أجناس المقدورات، ومن كل جنس على مالا يتناهى، فلا تنحصر مقدوراته جل وعلا جنسا ولا عددا، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله الطاهرين.
(المسألة الثالثة: أن الله سبحانه عالم)
قال القرشي: حقيقة العالم: هو المختص بصفة؛ لكونه عليها لمكانها يصح منه الإحكام تحقيقا أو تقديرا، وزاد غيره إذا لم يكن ثم مانع، ولا ما يجري مجراه، فقوله: المختص بصفة جنس الحد، وقوله لمكانها: يعني لاختصاصه بها، وقوله: يصح منه الإحكام، أي يصح منه الفعل المحكم، وهو فصل يخرج غير المحدود، ومعنى الإحكام: إيجاد فعل عقيب فعل، أو مع فعل على وجه لا يتأتى من كل قادر ابتداء، والمحكم (بكسر الكاف) : هو المرتب لذلك، والمحكم (بفتح الكاف): هو الفعل المرتب، وقوله: في الحد أو تقديرا، أراد به مالا يكون مقدورا كفعل الغير، أو يكون مقدورا لكن لا يصح إحكامه كالفعل الواحد، فإن ما هذا حاله يصح إحكامه تقديرا بمعنى أنه لو كان مقدورا، ومما يصح ترتيبه لأحكمناه، والمراد بالمانع: الضد، كأن يريد أحدنا كتابة فيمسك الغير يده، فيفعل من الأكوان ضد ما يريد الكاتب فعله، والذي يجري مجراه عدم الآلات كعدم القلم، وقد أورد على هذا الحد أسئلة وأجيب عنها.
وقال أبو الحسين وابن الملاحمي: العالم: هو المتبين لأمر من الأمور تبينا يمتنع معه في نفسه تجويز خلافه. انتهى.
واعترضه القرشي، وقال ابن حابس رحمه الله: هو من يمكنه إحكام الأشياء المتباينة وتمييز كل منها بما يميزه، أو من أدرك الأشياء إدراك تمييز وإن لم يقدر على فعل محكم.
पृष्ठ 28
والقول بأنه تعالى عالم هو قول من يقر بالصانع المختار (والدليل على ذلك أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء) والمراد وجودها منه تعالى على سبيل الصحة والاختيار كما مر في مسألة قادر (والأفعال المحكمة لا تصح إلا من عالم، والدليل على أن الأفعال المحكمة قد صحت منه ابتداء أنه أوجد العالم على سبيل الترتيب والنظام؛ لأن فيه من بدائع الحكمة وعجائب الصنعة ما يزيد على كل صناعة محكمة في الشاهد من بناء وكتابة وغيرهما) وإذا نظر المتأمل إلى خلق السماء المرفوعة وكونها كالسقف، وإلى الأرض المبسوطة، وإلى ما أعد الله فيها من النبات، ومن المياه الجارية والمستخرجة، والجبال الراسية، والأخاديد، والآكام، والشم الشوامخ، وإلى زينة السماء بالشمس والقمر، وحكمة مطالعهما ومغار بهما وكونهما ضياء، وإلى الشهب التي هي كالمصابيح المضيئة، فالسماء والأرض كالبيت المسقوف، والقمران والنجوم كالمصابيح المعدة للاهتداء بها إلى رؤية ما في البيت، والواحد منا كالمالك المتصرف في بيته مع الشموع المشتعلة والمصابيح المضيئة.
ثم انظر إلى خلق الإنسان وتركيبه، فقد كان نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم لحما ودما ثم عظاما صلبة متفرقة في ذلك اللحم، والدم يقويهما، وعصبا رابطة بين تلك العظام صالحة لذلك الربط بما فيها من القوة والمتانة، ثم تركب من ذلك آلات وحواس حية موافقة للمصالح مع ضيق ذلك المكان وشدة ظلمته، وإلى ذلك أشار تعالى بقول: {يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثلاث ذلكم الله ربكم}[الزمر:6] والظلمات الثلاث: هي ظلمة البطن، وظلمة المشيمة، وظلمة الرحم، ثم انظر موضع العينين ما أنسبهما بموضعهما مرتفعتان عما يؤذيهما، محفوفتان بالأجفان عن القذاء، في موضع لا يحتاجان إلى التغطية باللباس فلم يكونا في ظهر ولا بطن مع الجمال البديع.
पृष्ठ 29