Introduction to the Sciences of the Qur'an
المدخل إلى علوم القرآن الكريم
प्रकाशक
دار عالم القرآن
संस्करण संख्या
الأولى
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٦ هـ - ٢٠٠٥ م
प्रकाशक स्थान
حلب
शैलियों
مقدمة الناشر
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد رسول الله والرضا عن الصحابة والتابعين ومن والاه وبعد.
- فقد أخذت على عاتقها طباعة المصحف الشريف وما يتصل به من علوم وأبحاث ودراسات وما يتعلق به من رسائل تعليمية وقصص قرآنية ومن منهج يتخلّص فيما يلي:
١ - المضمون العلمي الدقيق.
٢ - المظهر الحضاري الأنيق.
مدركة عظم المسئولية ومقدار الهمة باذلة كل جهد.
سائلة كل توفيق راجية من الله المدد والعون.
- وقد أرادت الدار أن يكون باكورة عملها كتاب يعرّف بالقرآن الكريم وعلومه. فوقع الاختيار- من بين كثير مما قدم إلى الدار من كتب ودراسات وأبحاث- على هذا الكتاب الذي يعتبر بحق مدخلا إلى علوم الكتاب العزيز ومنارة للدارسين ومرجعا للباحثين.
- والله المسئول أن يجزي مؤلفه ما هو أهله وأن ينفع به المسلمين إنه سميع مجيب.
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
الناشر
1 / 5
مقدمة
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه أجمعين.
منذ فترة طويلة كنت أتطلع إلى إعداد كتاب عن القرآن الكريم، علومه ومباحثه، وكنت أشتاق إلى ذلك، ولم تكن الغاية تأليف كتاب جديد يضاف إلى ما كنت أعددته من مؤلفات سابقة، وإنما كانت غايتي الخوض في بحر هذه العلوم القرآنية، لمزيد من المعرفة حول كتابنا العظيم، الذي يجدر بنا أن نحتضنه بحب وأن نمسك بناصيته، في حياتنا، مستهدين بنوره، متطلعين إلى أفقه الرحب في التربية والتوجيه والتشريع ...
وجاء شهر رمضان، وهو شهر خير وبركة، ووجدت نفسي أبحث عن الكتب القرآنية وأقلب صفحاتها بشغف وفرحة، أستطلع ما بذله العلماء السابقون من جهود، وأستزيد من ثقافتي القرآنية، وبخاصة فيما يتعلق بعلوم القرآن، ووجدت نفسي على غير إرادة مسبقة أخوض في مباحث الدراسات القرآنية، وأتتبع المصنفات الأصيلة التي تناولت علوم القرآن، وفي هذه الفترة دعيت لمؤتمر عقد في القاهرة عن السيوطي، وعكفت على إعداد دراسة عن منهج السيوطي في كتابه: «الإتقان في علوم القرآن»، وأخذت أقارن بين ما كتبه السيوطي في الإتقان وما كتبه الزركشي في البرهان، وبدأت رحلة هذه الدراسة، التي اطمأنت نفسي إلى متابعتها، والخوض في مباحثها الممتعة، وكنت قبل ذلك أتهيب الخوض في الدراسات القرآنية، لدقة هذه العلوم ولاتساع مباحثها، ولقد ألفت في هذه العلوم مصنفات موسعة، ما زلنا حتى اليوم نجهل الكثير عن مظان وجودها، ولم يصل إلينا منها إلا النزر اليسير.
وأعترف أنني لم أضف شيئا فيما كتبت، ولم أنفرد برأي أو اجتهاد، واكتفيت بعرض المادة العلمية، كما جاءت في مصادرها، باذلا جهدي في تبسيط هذه المادة، تيسيرا لطلابنا، ومساعدة لهم على حسن الفهم، وسعة الاستيعاب، واختصرت ما اعتقدت أنه بحاجة إلى اختصار، وأوجزت ما رأيت أنه يحتاج لإيجاز، وتوسعت في مباحث توقعت أن تكون مفيدة.
1 / 7
وحسبي من هذه الإطلالة على دراساتنا القرآنية أنني أضفت لبنة صغيرة متواضعة في صرح هذا العلم، وتعلمت ما كنت بحاجة إليه من معرفة بعلوم القرآن، وبخاصة فيما يتعلق بالقراءات القرآنية، وأوجه الإعجاز القرآني، ومباحث الرسم القرآني.
وسميت هذا الكتاب: ب «المدخل إلى علوم القرآن الكريم» لكي أؤكد على أن الغاية من هذه الدراسة تبسيط المادة العلمية، وتيسير الرجوع إليها، بعبارة سهلة التناول، واضحة العبارة.
وقسمت هذا الكتاب إلى فصول، خصصت «الفصل الأول» للتعريف بالقرآن، وكيفية إنزاله، وأسباب نزوله منجما، وأقوال العلماء في الأحرف السبعة، ومعرفة أسباب نزوله، وتكلمت في «الفصل الثاني» عن ظاهرة الوحي ومعاني الوحي وكيفية نزوله، وناقشت فكرة الوحي، وعرضت في «الفصل الثالث» لنشأة علوم القرآن، والتصنيف في هذه العلوم، وبينت أهمية كتاب البرهان للزركشي والإتقان للسيوطي، ومنهج كل منهما، وقارنت بين منهجي الكتابين، وفي «الفصل الرابع» تحدثت عن التفسير والتأويل، وخصائص كل منهما. وتكلمت عن ترجمة القرآن في «الفصل الخامس»، وأوضحت الفرق بين الترجمة والتفسير من حيث الصفة الاستقلالية ومدى إمكان استيعاب كل المعاني الأصلية، واقترحت تشكيل «هيئة مختصة بترجمة القرآن» تضم كفاءات مختصة في اللغة والتفسير وفي الدراسات اللغوية المقارنة تعكف لمدة سنوات على إعداد ترجمة دقيقة للقرآن الكريم، وتلحق بالترجمة «ملاحق بيانية» توضح المعاني الممكنة والمحتملة، والغاية من تشكيل هذه الهيئة القضاء على الترجمات الفردية المليئة بالأخطاء والتجاوزات. وفي «الفصل السادس» تكلمت عن المكي والمدني في القرآن الكريم، والغاية من معرفة ذلك دراسة مراحل الدعوة، ومعرفة
الناسخ والمنسوخ، وفهم النصوص عن طريق معرفة تاريخ نزول القرآن، وأوضحت في «الفصل السابع» مراحل جمع القرآن، وخصائص كل مرحلة، والدقة في الجمع والاعتماد على الحفظ والكتابة، لتوثيق النص القرآني أولا، ولتوحيد القراءة
1 / 8
القرآنية ثانيا، وخصصت «الفصل الثامن والتاسع» لفواتح السور ولخواتمها، ولترتيب السور والآيات، وبينت اختلاف العلماء في ترتيب السور من حيث التوقيف أو الاجتهاد، كما عرضت لآراء العلماء في التناسب بين السور والآيات بحيث تكون الآيات محكمة البناء، متلاحمة الأجزاء، مما دفع العلماء إلى اعتبار علم المناسبة من مظاهر الإعجاز في القرآن.
وفي «الفصل العاشر» تحدثت عن علم الناسخ والمنسوخ وآراء العلماء في المكثرين في النسخ، وسجلت قواعد النسخ عند «ابن العربي» التي تعتبر نواة نظرية متكاملة في النسخ في القرآن الكريم، وخصصت «الفصل الحادي عشر» لرسم القرآن، وأقوال العلماء في الرسم القرآني، وأكدت ضرورة الحفاظ على الرسم القرآني لأنه الرسم الأصيل للخط القرآني، واعتبرت فكرة الخطأ في الرسم القرآني من الأفكار التي لا يمكن قبولها من الناحية الدينية ومن الناحية التاريخية، ولا بد من التسليم بخصوصية الرسم القرآني، ورجحت مراعاة المصلحة في جواز كتابة الآيات بالخطوط المتعارف عليها بطريقة استثنائية لتيسير التعليم، على أن يحتفظ بالرسم العثماني الأصيل، وعرضت لمزايا الرسم القرآني، وأهمها مراعاة القراءات وإفادة المعاني المختلفة، والدلالة على بعض المعاني الخفية، ومراعاة بعض اللغات الفصيحة، وأوضحت في «الفصل الثاني عشر» معنى المحكم والمتشابه، وآراء العلماء في معنى المتشابه، وقد أدى المتشابه بسبب غموضه إلى فتح آفاق واسعة من البحث والدراسة، لاستقصاء المعاني الممكنة للألفاظ المتشابهة، وتوسعت في بحث القراءات القرآنية في «الفصل الثالث عشر»، والغاية منها العلم بكيفية أداء القرآن من حيث نطق الألفاظ أو اختلاف تركيبها، بحيث تكون القراءة موافقة لما ثبت نقله عن القراء الأوائل الذين اشتهروا بحفظ القرآن وضبطه، وأكدت أن القراءات ليست هي الأحرف السبعة، فالقراءات السبع هي التي اعتمدها «ابن مجاهد» في القرن الثالث الهجري واختارها من القراءات التي شاعت في عصره، والمقياس المعتمد في القراءة الصحيحة، أن تكون موافقة للعربية ولو بوجه، وأن تكون موافقة لأحد المصاحف العثمانية ولو
1 / 9
احتمالا، وأن تكون صحيحة السند، وأكد ابن الجزري في كتابه النشر أن القراءة التي توفرت فيها هذه الشروط لا يجوز إنكارها ولا ردها، فإذا افتقد شرط من هذه الشروط اعتبرت القراءة شاذة ...
والحكمة من تعدد القراءات كما ذكر السيوطي في الإتقان التخفيف على الأمة، والكشف عن أوجه التعليل والترجيح في كتاب الله، وإظهار سر الله في صيانة القرآن عن التبديل، والمبالغة في الإعجاز، كما يؤكد لنا تعدد القراءات عناية العلماء بكتاب الله، وتوقيف كل ما يتعلق به، قراءة له، ورسما لكلماته وحروفه، وأداء لألفاظه، وضبطا لكيفية نطق كلماته وألفاظه، وشرحت بعض المصطلحات الفنية التي استخدمها القراء لتوضيح كيفية النطق والأداء اللفظي من حيث الإدغام والوقف والإشمام والروم والسكت والقطع والقصر والمد والحدر والتدوير والترتيل والتجويد والترقيق والتفخيم والإمالة، وشرحت في «الفصل الرابع عشر» الوقف والابتداء، ولا يحسن الترتيل إلا بمعرفة الوقوف وتجويد الحروف، وتحدثت في «الفصل الخامس عشر» عن إعجاز القرآن، وذكرت أقوال العلماء في وجوه الإعجاز، وشرحت معنى الإعجاز عند العلماء، فالخطّابي نظر إلى الإعجاز من خلال تأثير القرآن في النفوس والقلوب، والرمّاني نظر إلى الإعجاز من حيث البلاغة وأورد الخصوصيات البلاغية في القرآن، ورأى القاضي الباقلاني الإعجاز في «بداعة النظم»، من حيث مخالفته لما عهد العرب من أساليب السجع والشعر وابتعاده عن الألفاظ الوحشية والمستكرهة، وذهب القاضي عبد الجبار إلى أن الإعجاز القرآني يتمثل في «جزالة اللفظ وحسن المعنى ومطابقة الكلام لمقتضى الحال»، ورأى عبد القاهر الجرجاني الإعجاز في «الملاءمة بين الألفاظ»، لأن الكلمة لا تستمد مكانتها من ذاتها، ويقع التفاضل بين الكتاب بحسب قدرتهم على إيجاد التلاؤم بين اللفظة واللفظة التي تليها، كالنسج والتأليف والصياغة والبناء والوشي والتحبير، بحيث يكون الوضع والترتيب خاضعا لمعايير وأقيسة ومرجحات، بحيث لو تم استبدال هذا الترتيب بغيره لما صح النظم ولما استقام، وأكد «الجرجاني» أن ما أعجز العرب هو تلاقي اللفظ والمعنى معا، فلا مجال للإعجاز في لفظ دون معناه، ولا في معنى دون لفظ، والعبارة البيانية هي نتاج لفظ
1 / 10
معبر ومعنى يجسد الصورة، ويعطي للألفاظ أبعادها وصورها وجمالها، ويؤكد الجرجاني أهمية اللفظ، ويعتبره الأداة الأولى للتعبير، فاللفظة تجد مكانها المناسب والمعنى الدقيق يبحث عن لفظ معبر.
وختمت هذه الدراسة بالفصل الخاص ب «القصة في القرآن»، وتكلمت في هذا الفصل عن المحور العام للقصة القرآنية وعن أشخاص القصة القرآنية، وخصائص هذه القصة من حيث الإقناع العقلي واستخدام اللغة لإحداث التأثير النفسي، وأهم خصوصيات القصة القرآنية تداخل القصة بالحكم والعبر المستفادة منها حيثما دعت الحاجة إلى ذلك، في بداية القصة أو في نهايتها، أو على لسان شخصيات القصة أثناء الحوار. ولا شك أن القصة القرآنية مظهر من مظاهر الإعجاز القرآني، سواء من حيث إخبارها عن الأمم السابقة، أو من حيث وضوح الالتزام بالأهداف القرآنية أو من حيث الأسلوب المؤثر في إحداث الغاية المطلوبة من عرض القصة، ومن اليسير علينا أن نستنتج من كل قصة في القرآن مواقف إنسانية، وبخاصة فيما يتعلق بالصراع بين الحق والباطل، والطغاة والمستضعفين، ويقف الأنبياء دائما في وجه الطغاة، يقاومون بشجاعة رموز الشر، ويدافعون عن حقوق الإنسان وكرامته، مبشرين ومنذرين، منتصرين للفضيلة والحق، مؤكدين أن الدين الحق غايته تحرير الإنسان من العبودية، ومقاومة الطغيان في المجتمع.
وفي الختام، أرجو الله تعالى أن يتقبل هذا العمل العلمي المتواضع، وأن يجعله مباركا، وأن ينفع به، وأعتذر عما يمكن أن يكون قد وقع فيه من أخطاء، وأسأله تعالى أن يشرح قلوبنا لما يحبه لنا، وأن يجعل عملنا خالصا لوجهه الكريم. والله الموفق لكل خير.
محمد فاروق النبهان
رباط الفتح
٢٧ رمضان المبارك ١٤١٤ هـ
١٠ مارس ١٩٩٤ م
1 / 11
الفصول الرئيسية
الفصل الأول: القرآن الكريم.
الفصل الثاني: الوحي والقرآن.
الفصل الثالث: نشأة علوم القرآن.
الفصل الرابع: مقدمة في التفسير.
الفصل الخامس: ترجمة القرآن.
الفصل السادس: المكي والمدني في القرآن الكريم.
الفصل السابع: جمع القرآن وكتابته.
الفصل الثامن: فواتح السور القرآنية وخواتمها.
الفصل التاسع: ترتيب السور والآيات.
الفصل العاشر: علم الناسخ والمنسوخ.
الفصل الحادي عشر: رسم القرآن.
الفصل الثاني عشر: علم المحكم والمتشابه.
الفصل الثالث عشر: القراءات القرآنية.
الفصل الرابع عشر: الوقف والابتداء.
الفصل الخامس عشر: إعجاز القرآن.
الفصل السادس عشر: القصة في القرآن.
1 / 13
الفصل الأول: القرآن الكريم
القرآن هو المصدر الأول للتشريع الإسلامي، وهو المصدر الأصيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق الشك إلى أيّة آية من آياته، ينسخ المصادر الأخرى ولا تنسخه، ويحتج به على ما عداه ولا يحتج عليه، وما ورد في القرآن فهو قرآن وهو كلام الله، وتتمثل مهمة البشر في تفسيره وبيان ما ورد فيه.
وتفسير القرآن حق ثابت لكل من كان يملك أهلية التفسير، من حيث الكفاءة العقلية والاستقامة السلوكية ومعرفة أدوات التفسير ومتطلباته، اللغوية والشرعية، ولا يمكن إنكار حق البشر في التفسير، لأن المخاطب بالنص يملك حق تفسير ذلك النص والأجيال المتعاقبة مخاطبة بالقرآن، ومن حق كل جيل بل من واجب كل جيل أن يسهم في تفسير القرآن، وأن يبدي رأيه واجتهاده، فمن أساء التفسير فمن حق الآخرين أن يناقشوه ويجادلوه، ولكن لا يجوز إنكار حق البشر في الفهم والتفسير، والتفسير هو أداة التجديد، لأن المخاطب متعدد، والتعدد يستلزم اختلاف الرؤية، والأجيال المتعاقبة ليست متماثلة في تكوينها وفي ظروف حياتها، وإذا انتفت المماثلة في المخاطب تعدد التفسير، واتسعت دائرة الفهم، بحثا عن معاني الخطاب القرآني وتأكيدا لإعجاز القرآن.
ولا يجوز لجيل أن يستبد بحق التفسير مانعا أجيالا لاحقة من حقها الطبيعي في الفهم، كما لا يجوز لجيل أن يعتبر نفسه وصيا على الخطاب القرآني، معلنا أنه الأحق بالتفسير والأقدر عليه، فالأجيال متكافئة، وكل جيل مسئول عن نفسه، وهو الأقدر على الفهم والتفسير، وهكذا يتجدد التفسير بتجدد الأجيال، ويظل الخطاب القرآني متواصل العطاء دائم الإشعاع يعطي ويلهم ويعلم ويهدي، مؤكدا عظمة التواصل بين القرآن والإنسان، في رحلة الحياة المستمرة وفي مسيرة الإنسان من أمس إلى غد.
1 / 15
لفظ القرآن:
القرآن في اللغة مصدر مرادف للقراءة، ثم نقل من معناه اللغوي إلى معناه الاصطلاحي الدال على الكلام المعجز المنزل على النبي ﷺ، قال تعالى: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١) وهذا الرأي رجحه بعض العلماء معتمدين في ذلك على قواعد اللغة.
وقال آخرون: القرآن اسم غير مشتق من شيء، وهو اسم خاص بكلام الله، مثل التوراة والإنجيل، وهو اسم غير مهموز، ولم يؤخذ من قرأت ولو أخذ من قرأت لكان كل
ما قرئ قرآنا وروي هذا الرأي عن الشافعي، وقال البيهقي: كان الشافعي يهمز «قرأت» ولا يهمز القرآن ويقول: هو اسم لكتاب الله، قال الواحدي: قول الشافعي يعني أنه اسم علم غير مشتق (٢).
وذهب الأشعري إلى أنه مشتق من قرنت الشيء بالشيء إذا ضممته إليه، وسمي القرآن بذلك لأن السور والآيات مجموعة فيه، وقال أبو عبيد: سمي القرآن قرآنا لأنه جمع السور بعضها إلى بعض، وقال الراغب: سمي قرآنا لكونه جمع ثمرات الكتب المنزلة السابقة، أو لأنه جمع أنواع العلوم كلها بمعان، وقال الهروي: كل شيء جمعته فقد قرأته، وقيل مشتق من القري وهو الجمع ومنه قريت الماء في الحوض إذا جمعته.
وقال القرطبي: القرآن بغير همز مأخوذ من القرائن لأن الآيات منه يصدق بعضها بعضا، ويشابه بعضها بعضا، وقال الزجاج: هذا القول سهو، والصحيح أن ترك الهمز فيه من باب التخفيف، ونقل حركة الهمزة إلى الساكن قبلها.
وسمى الله تعالى القرآن بأسماء كثيرة، منها: الكتاب والقرآن والكلام والنور والهدى والرحمة والفرقان والشفاء والموعظة والذكر والحكمة والصراط المستقيم وأحسن الحديث والتنزيل والبيان والتذكرة والعروة الوثقى والبلاغ والأمر، ولكل اسم من هذه الأسماء معنى، ووردت هذه الأسماء في القرآن (٣).
_________
(١) سورة القيامة، الآيتان: ١٧ - ١٨.
(٢) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي ج ١، ص ٢٧٨.
(٣) نفس المصدر.
1 / 16
وقد بالغ بعض العلماء في التسميات حتى أوصلها بعضهم إلى نيف وتسعين اسما، ويبدو أنهم لم يفرقوا بين الأسماء والصفات، واعتبروا كل لفظة وردت في إطار الدلالة على القرآن من أسماء القرآن، وهذا أمر مبالغ فيه، ولو اقتصروا على الأسماء التي استعملها القرآن وأراد بها تسمية القرآن لكان أولى.
القرآن ولغة العرب:
نزل القرآن بلغة العرب، ولا تجوز قراءة القرآن بغير لغة العرب لقوله تعالى:
إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا (١)، وذهب معظم العلماء إلى أن القرآن ليس فيه ما هو خارج عن لغة العرب، لأنه تحدى العرب بأسلوبه وكلماته وصياغته، وبلاغته وفصاحته، ولو اشتمل على غير لغة العرب لما تحقق ذلك الإعجاز الأسلوبي، وقال أبو عبيد: من زعم أن في القرآن لسانا سوى العربية فقد أعظم على الله القول، وقال ابن عطية في مقدمة كتابه في التفسير: بأن العرب الذين نزل القرآن بلغتهم كانت لهم مخالطة لسائر الألسن، بسبب تجاراتهم ورحلاتهم، فدخلت بعض الكلمات الأعجمية في العربية، واستعملها العرب بعد إدخال تغييرات فيها تخفف من ثقل العجمة، حتى جرت مجرى العربي الفصيح، ووقع بها البيان، وأصبحت عربية.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: «والصواب عندي مذهب فيه تصديق القولين جميعا، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، إلا أنها سقطت إلى العرب فعرّبتها بألسنتها، وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن، وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال إنها عربية فهو صادق، ومن قال أعجمية فصادق».
ونزل القرآن بلغة قريش، وحكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه نزل بلسان الكعبين كعب بن لؤي جد قريش، وكعب بن عمرو، جد خزاعة، وقال أبو عبيد
_________
(١) سورة يوسف، الآية: ٢.
1 / 17
في كتابه: فضائل القرآن عن ابن عباس ﵄: نزل بلغة الكعبين، كعب قريش وكعب خزاعة، قيل: وكيف ذاك؟ قال: لأن الدار واحدة، وفضل «الفراء» لغة قريش على سائر لغات العرب، لأنهم كانوا يسمعون كلام العرب فيختارون من كل لغة أحسنها، فصفا كلامهم.
وثبت في الصحيحين من حديث ابن عباس أن رسول الله ﷺ قال: «أقرأني جبريل على حرف فراجعته، ثم لم أزل أستزيده فيزيدني حتى انتهى إلى سبعة أحرف».
وروى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرءوا ولا حرج، ولكن لا تختموا ذكر رحمة بعذاب، ولا ذكر عذاب برحمة».
أقوال العلماء في الأحرف السبعة:
اختلف العلماء القائلون بأن القرآن نزل على سبعة أحرف على أقوال (١):
القول الأول: يعتبر الأمر من المشكل الذي لا يعرف معناه، لأن العرب تسمي الكلمة المنظومة حرفا والقصيدة كلمة.
القول الثاني: المراد بالأحرف السبعة القراءات السبع، وحكي هذا القول عن الخليل بن أحمد، وحكى ابن عبد البر القرطبي عن بعض العلماء المتأخرين من أهل العلم بالقرآن أنه قال: تدبرت وجوه الاختلاف في القرآن، فوجدتها سبعة، منها ما تتغير حركته ولا يزول معناه ولا صورته، ومنها ما يتغير معناه ويزول بالإعراب ولا تتغير صورته، ومنها ما يتغير معناه بالحروف ولا تتغير صورته، ومنها ما تتغير صورته ولا يتغير معناه، ومنها ما تتغير صورته ومعناه، ومنها بالتقديم والتأخير، ومنها
الزيادة والنقصان.
القول الثالث: المراد سبعة أنواع، كل نوع منها جزء من أجزاء القرآن، فبعضها أمر ونهي، ووعد وعيد، وقصص، وحلال وحرام، ومحكم ومتشابه
_________
(١) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج ١، ص ٢١٣ - ٢٢٧.
1 / 18
وأمثال، وردّ ابن عبد البر هذا القول، ونقل عن العلماء القول بفساد هذا التفسير، وقال ابن عطية: هذا القول ضعيف، وقال الماوردي: هذا القول خطأ.
القول الرابع: المراد سبع لغات لسبع قبائل من العرب، وليس معناه أن يكون في الحرف الواحد سبعة أوجه، فبعضه نزل بلغة قريش، وبعضه بلغة هذيل، وبعضه بلغة تميم، وبعضه بلغة ربيعة، وهكذا، وإلى هذا ذهب أبو عبيد القاسم بن سلام، وقال الأزهري صاحب التهذيب في اللغة: إنه المختار، واحتج بقول عثمان حين أمرهم بكتب المصاحف: وما اختلفتم فيه أنتم وزيد فاكتبوه بلغة قريش، فإنه أكثر ما نزل بلسانهم. وقال البيهقي في شعب الإيمان: إنه الصحيح أي: المراد اللغات السبع، وأنكر ابن قتيبة هذا القول، قال: لم ينزل القرآن إلا بلغة قريش، وقال ابن عبد البر: قد أنكر أهل العلم أن يكون معنى سبعة أحرف سبع لغات، لأنه لو كان كذلك لم ينكر القوم بعضهم على بعض في أول الأمر، لأن ذلك من لغته التي طبع عليها.
القول الخامس: المراد سبعة أوجه من المعاني المتفقة بالألفاظ المختلفة، نحو أقبل وهلم وتعال وعجل وأسرع وانظر وأخر .. قال ابن عبد البر: وعلى هذا القول أكثر أهل العلم، وأنكروا على من قال: إنها لغات.
القول السادس: الأمر راجع إلى بعض الآيات، مثل قوله تعالى: أُفٍّ لَكُمْ وتقرأ على سبعة أوجه: بالنصب والجر والرفع، وكل وجه بالتنوين وغيره، وسابع الأوجه الجزم.
القول السابع: الأحرف السبعة ظهرت واستفاضت عن رسول الله ﷺ وضبطها عنه الأئمة وأثبتها عثمان في المصحف.
القول الثامن: كانت الحاجة ماسة إلى تعدد الأحرف واللغات، لصعوبة أن يتحول الإنسان عن لغته، ولما كثر الناس والكتاب ارتفعت تلك الضرورة، وارتفع حكم الأحرف السبعة.
القول التاسع: المراد أن علم القرآن يشتمل على سبعة أشياء، علم الإثبات
1 / 19
والإيجاد، وعلم التوحيد وعلم التنزيه، وعلم صفات الذات، وعلم العفو والعذاب، وعلم النبوات، وعلم الإمامات.
القول العاشر: المراد بذلك علم المطلق والمقيد والعام والخاص والنص والمؤول والناسخ والمنسوخ والمجمل والمفسر.
القول الحادي عشر: المراد الحذف والصلة، والتقديم والتأخير والقلب والاستعارة، والتكرار والكناية، والحقيقة والمجاز، والمجمل والمفسر.
القول الثاني عشر: المراد التذكير والتأنيث، والشرط والجزاء، والجمع والتفريق، والتصغير والتعظيم.
القول الثالث عشر: المراد كيفية النطق بالتلاوة من إظهار وإدغام، وتفخيم وترقيق، وإمالة وإشباع، ومد وقصر، وتخفيف وتليين وتشديد.
ونلاحظ من الأقوال السابقة أن العلماء مختلفون في تفسير معنى الأحرف السبعة، وآراؤهم متباعدة متباينة، وجميع الاحتمالات ممكنة، ويبدو أن المتأخرين حاولوا تقريب الأمر، ورجحوا أن يكون المراد بتعدد الأحرف تيسير الأداء القرآني وتيسير التلاوة على العرب، بحيث تتمكن القبائل العربية المختلفة من القراءة باللغة التي تستطيع النطق بها، من حيث التفخيم والإمالة والإظهار والإدغام، والمهم في ذلك كله التيسير على الأمة بحيث لا يكلف المسلم بما لا يطيق، بشرط ألا يؤدي ذلك إلى تغيير في المعاني، فالأداء اللفظي تحكمه استعدادات موروثة، وقابليات فطرية، ولا يؤثر ذلك في سلامة النص القرآني، ولا في المعاني المستنبطة منه، ويؤكد هذا المعنى ما رواه الترمذي عن أبيّ بن كعب أنه لقي رسول الله ﷺ جبريل فقال: «يا جبريل، إني بعثت إلى أمة أميين، منهم العجوز والشيخ الكبير، والغلام والجارية والرجل الذي لم يقرأ كتابا قط، فقال: يا محمد إن القرآن أنزل على سبعة أحرف».
والحكمة من ذلك احترام اللهجات العربية، وإشعار مختلف القبائل العربية أنها قادرة على أن تقرأ القرآن بلهجتها، وأن العربية تتسع لكل العرب، وتعترف
1 / 20
بخصوصيات اللهجات العربية، وفي هذا تأكيد على وحدة اللغة العربية، ودعوة للعرب جميعا لكي يلتفوا حول القرآن كتابهم الخالد، ورمز وحدتهم اللغوية، وحافظ هذه اللغة من أي عبث أو تحريف.
كيفية إنزال القرآن:
اختلف العلماء في كيفية إنزال القرآن على ثلاثة أقوال:
القول الأول: نزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر، ثم نزل بعد ذلك منجما على النبي ﷺ في مكة قبل الهجرة والمدينة بعد الهجرة، في مدة عشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين سنة، حسب الاختلاف في مدة إقامته في مكة بعد البعثة، وقال «السيوطي» في معرض بيان هذا القول: «وهو الأصح الأشهر». ويؤيد هذا القول ما أخرجه الحاكم والبيهقي وغيرهما عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر جملة واحدة إلى سماء الدنيا، وكان بمواقع النجوم، وكان الله ينزله على رسوله ﷺ بعضه في أثر بعض، وأخرج الطبراني عن ابن عباس قال: أنزل القرآن في ليلة القدر في شهر رمضان إلى سماء
الدنيا جملة واحدة ثم أنزل نجوما، كما أخرج الطبراني والبزار من وجه آخر عنه قال: أنزل القرآن جملة واحدة حتى وضع في بيت العزة في السماء الدنيا ونزله جبريل على محمد ﷺ بجواب كلام العباد وأعمالهم».
القول الثاني: نزل القرآن إلى سماء الدنيا في عشرين ليلة قدر من عشرين سنة، وقيل: في ثلاث وعشرين ليلة قدر، وقيل: خمس وعشرين ليلة قدر، ينزل في ليلة القدر في كل سنة ما يقدر الله إنزاله في تلك السنة، ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة على رسول الله ﷺ، وهذا القول ذكره الإمام فخر الدين الرازي، نقلا عن بعض العلماء.
القول الثالث: ابتدأ نزول القرآن في ليلة القدر، ثم أخذ ينزل منجما بعد ذلك في أوقات مختلفة، وهذا قول الشعبي.
قال «ابن حجر» في شرح البخاري: والأول هو الصحيح المعتمد، وهناك
1 / 21
رواية رابعة حكاها الماوردي، وهي أن القرآن نزل من اللوح المحفوظ جملة واحدة، ثم تولى الحفظة تنجيمه على جبريل، ثم تولى جبريل تنجيمه على الرسول ﷺ.
والحكمة من نزول القرآن منجما تفخيم أمره، وأمر من نزل عليه، وإعلام الملائكة بأهمية آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل، لكي يكون له تميز عن سائر الكتب السماوية.
وقد تولى الله أمر الإجابة عن تساؤل الكفار الذين قالوا: لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة بأن الإنزال المفرق للقرآن لتثبيت فؤاد النبي ﷺ، وتقوية قلبه، وتجديد عهده مع جبريل لكي يكون القرآن بالنسبة له نافذة أمل وبسمة رجاء، يمده بالقوة، ويعده بالنصر، ويفسر له المواقف، ويجيبه عن بعض ما يحتاجه من بيان وتوضيح.
ولا أعتقد أننا بحاجة لتأكيد أهمية نزول القرآن منجما من حيث التدرج في مواكبة مراحل الدعوة، في المرحلة المكية أولا، والمرحلة المدنية ثانيا، ومواكبة الأحداث الجسام، في تاريخ الدعوة، وكان القرآن هو المدد الإلهي المتجدد الذي يبعث الحياة في المجتمع الإسلامي الوليد، ويواكب مسيرة الدعوة، مؤيدا وملهما وناصحا ومسددا.
ولا يمكن تصور حياة المسلمين الأوائل بغير ذلك التواصل الإيماني العميق بين السماء والأرض، عن طريق الوحي المتجدد الملهم، الذي كان يغذي مشاعر الإيمان، وينير الطريق لمواكب المؤمنين.
قال تعالى: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١).
وقال أيضا: قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (٢).
_________
(١) سورة الشعراء، الآيات: ١٩٢ - ١٩٥.
(٢) سورة النحل، الآية: ١٠٢.
1 / 22
ونستطيع أن نحدد أسباب النزول المتدرج للقرآن بما يلي:
أولا: تثبيت فؤاد الرسول الكريم:
والآية واضحة وصريحة في إقرار هذا المعنى، لأن الرسول ﷺ بصفته الإنسانية كان محتاجا لمن يقوي عزمه، ويثبت فؤاده، ويعزيه عما يلاقيه من عقبات، ويفتح أمامه أبواب الأمل، لكيلا يستبد اليأس بنفسه ويستولي الحزن عليه.
ثانيا: تيسير حفظه وفهمه:
وهذه غاية في منتهى الأهمية، فالقرآن كتاب تشريع وتوجيه، ويهدف إلى إقامة وتكوين مجتمع إسلامي متكامل، عقيدة وسلوكا وتشريعا، ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق النزول المتدرج للأحكام، لكي ينتقل المجتمع الإسلامي من جاهلية إلى إسلام، ومن فوضى إلى نظام، ولكي يتمكن المسلمون من حفظ القرآن الكريم وفهم أحكامه وحكمه، واستيعاب هديه وتعاليمه، وبفضل ذلك استطاع المسلمون- كما تحدثنا كتب السيرة- أن يحفظوا القرآن، وأن يستوعبوا ما جاء فيه من توجيه وتعليم.
ثالثا: مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع:
وهذا واضح كل الوضوح، وربما كان هذا السبب من أكثر الأسباب التي ذكرناها أثرا، فقد كانت الآيات القرآنية تتنزل بحسب الحاجة، وتختلف موضوعاتها بحسب ما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي، ومن السهل علينا أن نفهم تطور المجتمع الإسلامي اليوم، ومشاكله وأحداثه من خلال متابعتنا للقرآن، لأن القرآن كان يعايش الأحداث ويمد المسلمين بالرأي الأمثل لكل مشكلة من مشاكلهم، ولهذا كانت الأنظار تتطلع دائما إلى الوحي لكي يرسم للمسلمين الطريق، ويقوّم ما اعوج من شئونهم وما التبس عليهم من أمورهم.
معرفة أسباب نزول القرآن:
اهتم المفسرون بمعرفة أسباب نزول القرآن، وألّفت كتب كثيرة في معرفة
1 / 23
سبب النزول، ومن أبرزها وأقدمها ما كتبه علي بن المديني شيخ البخاري، وما كتبه الواحدي، وابن حجر، ثم ألف السيوطي صاحب الإتقان كتابا في الموضوع سماه «لباب النقول في أسباب النزول» (١).
ومن فوائد معرفة أسباب النزول ما يلي:
أولا: معرفة وجه الحكمة الباعثة على تشريع الحكم، ولا سبيل إلى ذلك على وجه الدقة إلا عن طريق معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الحكم.
ثانيا: تخصيص الحكم عند من يرى أن العبرة بخصوص السبب.
ثالثا: الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال، قال الواحدي: لا يمكن معرفة تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها، وقال ابن دقيق العيد: بيان سبب النزول طريق قوي في فهم معاني القرآن.
ومن الصعب على المفسر أن يتمكن من التفسير الصحيح واستنباط الحكم من النص القرآني، وإدراك الحكمة من الآية قبل أن يعرف سبب نزول الآية، ومعرفة السبب يؤدي إلى الربط بين الآية والواقع الذي كان قائما أثناء ورود النص، وكأن النص جاء كجواب عن واقعة أو كتفسير لحكم، وتوضيح لدلالة، ولهذا اتجه اهتمام العلماء قديما وحديثا لدراسة أسباب نزول القرآن، وإيراد سبب النزول في مقدمة تفسير الآية، لكي يكون السبب واضحا ودالا على المراد.
ولو أخذنا مطلق المعاني الواردة من بعض الآيات لتغيرت بعض الأحكام، ولكن معرفة السبب الذي أدى إلى نزول الآية يوجه الآية لكي تكون كجواب عن سؤال، وإذا عرف السؤال كان الجواب واضحا وخاصّا بالسؤال، ولا يتعداه إلى غيره.
ولهذا كان من واجب علماء التفسير أن يوجهوا اهتمامهم لمعرفة أسباب النزول، وأن يربطوا الآية بمحيطها العام، لكي تدل دلالة صحيحة على المراد
_________
(١) انظر البرهان في علوم القرآن للزركشي، ج ١، ص ٢٢ - ٢٣.
1 / 24
بها، ومن الآيات القرآنية التي يتغير معناها والحكم المستفاد منها عند معرفة سبب نزولها قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ [البقرة: ١١٥]، ولو ترك مدلول اللفظ على إطلاقه لأفاد بجواز الصلاة إلى أية جهة كانت في السفر والحضر، وهو أمر مخالف لما وقع الإجماع عليه، ويتضح المعنى المراد إذا عرف أن هذه الآية نزلت عند ما صلى النبي ﷺ على راحلته، في رحلته من مكة إلى المدينة.
وهذا لا يعني أن جميع آيات القرآن نزلت بسبب حادثة وقعت أو جوابا عن سؤال، إذ من المؤكد أن بعض الآيات نزلت مقررة لأحكام وموضحة لقضايا، وليست مرتبطة بأي سبب وغايتها تشريع أحكام وبيان معالم العقيدة الإسلامية وإقرار مبادئ الإسلام.
ومثل هذه الآيات لا تحتاج إلى بيان سبب للنزول، وهي كثيرة ولم يتعرض لها علماء التفسير إلا في إطار تفسير معانيها المستفادة، كما تفهم من الدلالة القرآنية.
ويعرف سبب النزول عن طريق النقل الصحيح، ولا مجال للاجتهاد في هذا الموطن، والصحابة هم المؤهلون لمعرفة أسباب النزول، فإذا ورد سبب النزول عن صحابي فيعتد به، لأنه لا يعقل أن يجتهد الصحابي فيه أو يورده من غير سماع أو مشاهدة.
وأحيانا يرد سبب النزول في إطار الربط بين الواقعة ونزول الآية بأداة من أدوات الربط الدال على سبب نزول الآية، من غير تخصيص بالسبب أو توضيح له، مما لا يخفى أمره على العلماء المختصين في هذا العلم.
وإذا تعددت أسباب النزول، ووردت روايتان في بيان السبب، تقدم الرواية الصحيحة وتعتمد، وترجح الرواية الراجحة على المرجوحة، فإذا استوت الروايتان في درجة الصحة، ولا مجال للترجيح يحمل الأمر على تعدد الأسباب،
1 / 25
وهو أمر مقبول، كما يحتمل أن يتكرر نزول الآية عند تعدد الأسباب للتذكير بالحكم ولتأكيد أهميته.
وذهب جمهور العلماء إلى أن العبرة بعموم اللفظ وليس بخصوص السبب، لأن الحكم يتناول كل ما يفيده اللفظ، ولا يحتاج الأمر إلى نص جديد لإثبات الحكم العام، لأن الأصل هو حمل الألفاظ على المعاني المستفادة منها عند إطلاقها ما لم يقم دليل يقيد هذا الإطلاق ويلغيه، أو يصرفه عن عمومه وأكد هذا الاتجاه ما ذهب إليه الصحابة من الاحتجاج بعموم الألفاظ الواردة في أسباب خاصة.
1 / 26
الفصل الثاني: الوحي والقرآن
ظاهرة الوحي:
القرآن كظاهرة دينية غيبية مرتبطة بالوحي، جديرة بأن تكون في موطن الدراسة والاهتمام، ومن حق الإنسانية في مسيرتها الطويلة أن تقف متدبرة ظاهرة الدين في الحياة البشرية، وأن تدرس الأديان السماوية من هذا المنطلق، وأن تتأمل في النبوة كحقيقة مدركة ثابتة، بكل ما تحمله النبوة من مؤشرات وما تبشر به من قيم، وما تدعو إليه من عقائد، وما يقترن بها من معجزات.
إن البشرية اليوم وقبل اليوم عكفت على دراسة مظاهر الحياة الإنسانية وتطلباتها من منطلق الرؤية العقلية المادية، والعقل يدرك ما يقع تحت مجهره، مما تدركه الحواس من المشاهدات، وما تعقله وتلمس آثاره المادية، والعقل يقف حائرا أمام الظاهرة الدينية، بل يقف حائرا أمام الكون وعظمة الكون، ويقف عاجزا أمام تفسيره لظاهرة الحياة، الإنسان، الكون، الوجود، الكواكب، الحياة، الموت، والحياة البشرية تحكمها معايير وقوانين بعضها مدرك ومفهوم، والبعض الآخر وهو الأهم غير مدرك، ولا يقع تحت سيطرة العقل، ولا يدرك بالحواس.
ومن اليسير علينا أن نتحدث عن الدين، كتعاليم وشرائع، وأن ندرس تاريخ الأديان كوقائع مدونة أو محفوظة أو مروية، وأن نتحدث عن حياة الأنبياء منذ ولادتهم إلى وفاتهم، وما قاسوه من محن ومصاعب، وما تحملوه من مشاق في أداء مهمتهم، ولكن من الصعب علينا أن نستوعب بعقولنا حقيقة الدين كظاهرة غيبية مرتبطة بالسماء، تحكمها قوانين غيبية، وينفذها ملائكة يبلغون رسالة الله إلى الأنبياء.
وفي نفس الوقت لا يمكن للعقل البشري أن ينكر حقيقة الدين، ولا أن ينكر الغيب، ولا أن يتجاهل الحقائق الغيبية، ولا أن يتخطى المفاهيم الدينية، فالدين حقيقة مدركة، ولا تتصور البشرية بغير دين، ولا تتصور الحياة خالية من مفاهيم
1 / 27