الكتاب: الانتصار للقرآن
المؤلف: محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم، القاضي أبو بكر الباقلاني المالكي (المتوفى: ٤٠٣هـ)
تحقيق: د. محمد عصام القضاة
الناشر: دار الفتح - عَمَّان، دار ابن حزم - بيروت
الطبعة: الأولى ١٤٢٢ هـ - ٢٠٠١ م
عدد الأجزاء: ٢
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
1 / 52
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
المقدِّمَة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الحمد لله ذي القدرة والجلال والعزّ والسّلطان والطَّول والامتنان منزل
الفرقان، والناسخ بما أودعه من البيان وتفصيل الحلال والحرام ما سَلَفَ من
الشرائع والأحكام، والضامن للرسول ﵇ حفظه وحراسته من الناس أهل الكفر والبهتان ومطاعن ذي الجهل والشَّنآن، فقال جلّ ثناؤه: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٩) .
وقال سبحانه: (إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) .
وقال فيه تعالى: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (٤٢) .
وجعله مهيمنًا على الكُتُب، وقال ﷿: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (١)
وجعله بما فيه من عجيب نظمه وجزالة لفظه وبديع وصفه وخروجه عن جميع أوزان كلام العرب ونظومه، آيةً لرسوله ودلالةً قاهرةً وحجةً ظاهرةً لنبوته، وفطر الخلق على القصور عن مقابلته، وبالغَ في تعريفهم بالعجز عن معارضة
1 / 53
سورة من مثله، وحَسَمَ بعظيم بلاغته وأنواع فصاحته أطماع الملحدين
والمنحرفين في تكلُّف نظيره والتمكن من الإتيان بشبهه وعديله، وأخبر أنّه
ليس من بحار كلام المخلوقين ولا شبه ما أضافوه إليه من أساطير الأولين
وتلفيق المتكلمين ونمط كلام الشعراء والمترسلين، فقال ﷿ في نص
التلاوة: (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ)، ثم قال تعالى: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ)، ثم قال جل وعز: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (٨٨) .
وقال سبحانه: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ)، يقول إنه لشرف لك
ولقومك، وقال تعالى: (لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (١٠٣) .
ثم نبّه ﵎ إلى أن مجيءَ القرآن من مثله خرق للعادة ونقضٌ
لما عليه تركيب الطبيعة مع علم القوم بنشوه وتصرفه في ظعنه ومقامه، فقال
جل اسمه: (وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) .
وقال ﷿: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) .
وقال تعالى: (وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) .
وقال ﷿ في قصة نوح: (تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (٤٩) .
فنبه ونصّ وبيّن في نفس التلاوة على أنه إنما علم ذلك وتلقاه من قبل
وحيه إليه به، ثم أمر بالرجوع عند التنازع إليه، والاقتباس منه، والعمل
بموجبه، والمصير إلى محكمه، والتسليم لمتشابهه علمًا منه بأنه تعالى
1 / 54
متولي لحفظه وحياطته، وعرفنا أنه ما فرط فيه من شيء، وأنه تبيان لكل
شيء، فقال ﷿: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ) .
أي إلى كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ، وقال جل ثناؤه: (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (٢٤) .
وقال تعالى: (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ) .
وقال جل ذكره: (تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) .
وقال سبحانه: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ) .
في نظائر لهذه الآيات أخبر فيها عن حفظه لكتابه وحراسته، والأمر بالرجوع إليه والعمل عليه، وتشريفه على سائر الكتب، وشدة تعظيمه له، وأنه محفوظٌ مصون من كيد الزائغين وتحريف المبطلين، فالحمد لله الذي هدانا بنور كتابه وأرشدنا لتصديقه ووفقنا لاتباع متضمنه، والتمسك بمعالمه والنقض لمطامع القادحين في تنزيله، والكشف عن شُبه الملحدين في تأويله، وصلى الله على رسوله محمدٍ القائم بما كلّفه من أدائه، والمناصح المجتهد فيما
نصب له من كشف غامضه وتبيانه، وعلى السلف الصالح من أوليائه الذين
جعلهم شهداء على عباده وخلفاء نبيّه وورثة علمه وحفاظ كتابه، والذابين
عن دينه، والدّاعين إلى سبيله، والقائمين بحقه، والحافظين لعهده، وإيّاهُ
جل ثناؤه نسألُ، وإليه نرغبُ في التوفيق، لما ألزَمنَاه من موالاتهم.
والاقتداء لآثارهم، وسلوك سبيلهم، والمضي على نهجهم، ويجنبنا الغضَّ
من أقدارهم، والطعن على أماناتهم وآرائهم.
1 / 55
أما بعد:
فقد وقفتُ - تولى الله عصمتكم، وأحسن هدايتكم وتوفيقكم - على ما
ذكرتموه من شدة حاجتكم إلى الكلام في نقل القُرآن، وإقامة البرهان على
استفاضة أمره وإحاطة السلف بعلمه، وانقطاع العُذر في نقله وقيام الحُجة
على الخلق به، وإبطال ما يدعيه أهلُ الضلال، من تحريفه وتغييره ودخول
الخَلَل فيه، وذهاب شيءٍ كثيرٍ منه، وزيادة أمور فيه، وما يدّعيه أهلُ الإلحاد
وشيعتُهم من منتحلي الإسلام، من تناقُض كثيرٍ منه، وخلوّ بعضه من
الفائدة، وكونه غير متناسب، وما ذكروه من فساد النظم، ودخول اللحن
فيه، وركاكة التكرار، وقلة البيان، وتأخّر المقدم، وتقديم المؤخر، إلى غير
ذلك من وجوه مطاعنهم، وذكر جُمَلٍ مما رُوي من الحروف الزائدة.
والقراءات المخالفة لمصحف الجماعة، والإبانة عن وَهَاءِ نقل ذلك
وضعفه، وأن الحجة لم تقم بشيءٍ منه، وعرفت ما وصفتموه من كثرة
استطراد الضعفاء بتمويههم وعظم موقع الاستبصار والانتفاع ببعضِ
شبههم، ونحن بحول الله وعونه نأتي في ذلك بجُمَلٍ تزيل الريبَ والشبهة.
وتوقف على الواضحة، ونبدأ بالكلام في نقل القرآن وقيام الحجة به.
ووصف توفّر هِمَمِ الأمة على نقله وحياطته، ثم نذكر ابتداء أبي بكر رضي
الله عنه لجمعه على ما أنزل عليه بعد تفرقه في المواضع التي كتب فيها.
وفي صدور خلقٍ حفظوا جميعه، وخلق لم يحيطوا بحفظ جميعه، واتباع
عمرَ ﵁ والجماعة له على ذلك، وصوابه فيما صنعه، وسبقُه إلى
الفضيلة به، والسبب الموجب لذلك، ثم نذكر جمع عثمان ﵁
الناس على مصحفٍ واحد، وحرف زيد بن ثابت، ونبين أنه لم يقصد في
ذلك قصد أبي بكر في جمع القرآن في صحيفةٍ واحدةٍ على ترتيب ما أوحي
1 / 56
به، إذ كان ذلك أمرا قد استقر وفُرغَ منه قبل أيامه، ونبين صواب عثمان
﵁ في جمع الناس على حرف واحد، وحظره ومنعه لما عداه من
القراءات، وإن الواجبَ على كافة الناس اتباعه، وحرامٌ عليهم بعده قراءةُ
القرآن بالأحرف والقراءات التي حظرها عثمانُ ومنع منها، وأنّ له أخذَ
المصاحفِ المخالفةِ لمصحفه، ومطالبة الناس بها، ومنعهم من نشرها
والنظر فيها، ونذكر ما يتعلق به من ادعاء نقصان القرآن وتغيير نظمه وتحريفه من الرويات الشاذة الباطلة عن عمر وعثمان وعلي وأبيّ وعبد الله بن
مسعود، وما يرويه قومٌ من الرافضة في ذلك عن أهل البيت خاصة، ونكشف عن كذب هذه الروايات، ونبين أيضًا ما خالف عبد الله بن مسعود عثمان والجماعة، وهل دار ذلك على جهة التخطئة ونسبته إيّاهم إلى زيادة فيه أو نقصانٍ منه أو تغيير لنظمه وما أنزل عليه، أو التصويب لما فعلوه، وإن
استجاز بعد ذلك قرآنه والتمسك بحرفه، ونذكر ما شجر بينه وبين عثمان
﵁، ونَصِفُ رجوعَه إلى مذهب الجماعة وخنوعَه لعثمان وقدر ما
نقمه من أمر زيد بن ثابت وعنّف عليه وعلى الجماعة لأجله، ثم نبين أن
القراَنَ معجزةٌ للرسول ﷺ ودلالة على صدقه، وشاهد لنبوته، ثم نبين أن القرآن نزل على سبعة أحرف كلها شافِ كافٍ، ونوضح ما هذه السبعة أحرف، والروايات الواردة فيها وجنس اختلافها، ونذكر خلافَ الناس في تأويلها.
ونفصّل من ذلك ما ليس بصواب، وندل على صحة ما نرغب فيه ونجتبيه.
ونذكر حالَ قراءات القراء السبعة، وهل قراءاتهم هي السبعة أحرف التي
أنزل القرآن بها، أو بعضها وهل هم بأسرهم متبعون لمصحف عثمان وحرف
زيد أو مختلفون في ذلك وقارئون أو بعضهم بغير قراءة الجماعة، ونصف
جُملاَ من مطاعن الملحدين وأتباعهم من الرافضة في كتاب الله ﷿،
1 / 57
ونكشف عن تمويه الفريقين بما يوضح الحق، ونذكر في كل فصل من هذه
الفصول بمشيئة الله وتوفيقه ما فيه بلاغ للمهتدين وشفاءٌ وتبصرة للمسترشدين
توخيّا لطاعة الله وتوفيقه ﷿ ورغبة في جزيل ثوابه، وما توفيقنا إلا بالله وهو المستعان.
1 / 58
تمهيد
واعلموا رحمكم الله أن معرفةَ صواب القول في هذه الفصول والأبواب
مما تعم الحاجة إليه، إذ كان أصل الدين وأسّه، وكان مما شهد الكتاب
ببطلانه وجب إلغاؤه واطّراحه، وما أيده ودلّ على صحته لزم الإذعان له
وإثباته، ولأن بالمتكلمين والفقهاء وقراء القرآن وأهل التفسير والمعاني ألمَ
فاقة إلى الوقوف على حقيقة القول في هذه الفصول ومعرفة الصواب منها.
لكثرة تخاليط أهل الضلال فيها، وقصدهم إلى إدخال الشُبهة والتمويه بما
يوردونه منها، وذهاب كثيرِ من حفاظ التنزيل والمتكلمين في التأويل عن
تحقق معرفتها، وحاجة الكل إلى تبين الحق من ذلك والعلم به، والمصير
إلى موجبه.
وقد رأيتُ أن نبدأ بذكر جُمل ما نذهب إليه في نقل القرآن ونظمه.
وقيام الحجة به، وما يقوله المخالفون، ثم نشرع في ذلك حجاجنا ونقض
أقاويل مخالفينا وعللهم، والذي نذهب إليه في ذلك، القولُ بأن جميع
القرآن الذي أنزله الله ﷿ وأمرنا بإثبات رسمه، ولم ينسخه ويرفع
تلاوته بعد نزوله، هو هذا الذي بين الدفتين، الذي حواه مصحف عثمان
﵁، وأنّه لم يُنْقَصْ منه شيء، ولا زِيدَ فيه، وأن بيان الرسول ﷺ كان بجميعه بياناَ شائعا ذائعا، وواقعاَ على طريقة واحدة، ووجه تقوم به
الحجة، وينقطع العذر، وأن الخَلفَ نقله عن السلف على هذه السبيل، وأنه
قد نُسخ منه بعض ما كانت تلاوته مفروضة، وأن ترتيبه ونظمه ثابتٌ على ما
نظمه الله سبحانه، ورتبه عليه رسوله من آي السور، لم يقدّم من ذلك
1 / 59
مؤخرًا، ولا أخّر منه مقدمًا، وأن الأمة ضبطت على النبي ﷺ ترتيبَ آي كل سورة ومواضعها، وعَرَفَت مواقعها، كما ضبطت عنه نفس القرآن وذات التلاوة، وأنه قد يمكن أن يكون الرسول ﷺ قد رتب سوره على ما انطوى عليه مصحفُ عثمان، كما رتب آياتِ سوره، ويمكن أن يكون قد وكَلَ ذلك
إلى الأمة بعده، ولم يتولّ ذلك بنفسه ﷺ، وأن هذا القول الثاني أقربُ وأشبه أن يكون حقًا على ما سنبينه فيما بعد إن شاء الله.
وأن القرآن لم تثبت آيُهُ على تاريخ نزوله، بل قد قدّم فيه ما تأخر
إنزالُه، وأخّر بعض ما تقدم نزولُه على ما وقف عليه الرسولُ ﷺ من ذلك، وأن القرآن منزل على سبعة أحرف كلّها شافٍ كافٍ وحقٌّ وصواب، وأن الله تعالى قد خيّر القَرَأة في جميعها، وصوّبَهم إذا قرؤوا بكل شيءِ منها، كما رُوي ذلك في الآيات التي سنقصّها، ونبين قيام الحجة بنقلها، وظهورَ أمرها وانتشارها.
وأن هذه الأحرف السبعة المختلف معانيها تارةَ وألفاظها أخرى مع
اتفاق المعنى، ليس منها متضاد ولا متنافي المعنى ولا أحاله، وفساد يمتنع
على الله جلّ ثناؤه، وأنه لم يقم علينا حجة في أنها مجتمعة في سورةٍ واحدةٍ
من القرآن، بل هي متفرقة فيه، وأننا لا ندري أيها كان آخر العرض، وأن
آخر العرض كان بعضها دون سائرها، وأن جميعَ هذه الأحرف السبعة قد
كانت ظهرت واستفاضت عن الرسول ﷺ وضبطتها الأمة عنه، ولم يكن شيء منها مشكوكًا فيه، ولا مرتابا به، وأن عثمان والجماعة قد أثبتت جميع تلك الأحرف في المصاحف، وأخبرت بصحتها، وخَبَّرت الناس فيها، كما صنع رسولُ الله ﷺ، وأن من هذه الأحرف حرفَ أبيّ، وحرف عبد الله بن مسعود، وأن عثمان والجماعة إنما ألغت وطَرَحَت أحرفا، وقرأت أحرفًا غير
1 / 60
معروفة ولا ثابتة، بل منقولة عن الرسول ﷺ نقل الآحاد التي لا يجوزُ إثبات قرآن وقراءات بها.
وأن معنى إضافة كل حرف مما أنزله الله ﷿ إلى أبى، وعبد الله.
وزيد، وفلان وفلان، أنه كان أضيف إليه إذا أكثر قراءةً وإقراءً به، وملازمة له وميلًا إليه، فقط لا غير، وأنه لا يجوز إثبات قرآن أو قراءة وحرف يقال إن القرآن أنزل عليه بخبر الواحد الذي لم تقم به الحجة، على أن يثبت ذلك به حكمًا، لا علما وقطعا، لما سنوضحه - إن شاء الله -.
وأن الحجةَ لم تقم علينا بأن القرآن منزل بلغة قريش فقط دون جميع
العرب، وإن كان معظمه منزلًا بلغة قريش.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
وأن (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) . قرآن منزَل من سورة
النمل، وأنها ليست آيةً من الحمد ولا فاتحة لكل سورة، ولا من جملة
كل سورة، ولا آيةً فاصلةً بين السورتين، ومفردةً من جميعها.
وأن المعوذتين قرآنٌ منزَلٌ من عند الله ﵎، وأن استفاضة
نقلهما وإثباتهما عن الرسول ﷺ بمنزلة استفاضة جميع سور القرآن، وأن عبد الله بن مسعود لم يقل قط إنهما ليستا بقرآن، ولا حُفظ عليه في ذلك حرف واحدٌ، وإنما حكّهما وأسقطهما من مصحفه لعلل وتأويلاتٍ سنذكرها فيما بعدُ إن شاء الله، وأنه لا يجوز أن يضاف إلى عبد الله أو أبيّ بن كعب أو زيد أو عثمان أو علي أو واحدٍ من ولده وعترته حَجدُ آية أو حرفٍ من كتاب الله ﷿، أو تغييرُه وقراءتُه على غير الوجه المرسوم في مصحف
1 / 61
الجماعة بأخبار الآحاد وما لم يبلغ منها حدّ التواتر والانتشار، وأن ذلك لا
يحلُّ ولا يسَعُ بل لا يصلح عندنا إضافةُ ذلك إلى أدنى المؤمنين منزلة من
أهل عصرنا بخبر الواحد، وما لا يوجب العلم، فضلًا عن إضافة ذلك إلى
جلة الصحابة والأماثل، وتعليقه عليهم بما دون التواتر والانتشار من الأخبار
التي لم تقم الحجة بأنه قرآن منزل، بل هو ضربٌ من الدعاء، وأنه لو كان
قرآنًا لنُقل نقْلَ القرآن، وحصل العلم بصحته، وأنه يمكن أن يكون منه كلامًا كان قرآنًا منزلًا ثم نُسخ وأبيح الدعاء به وخُلط بكلام ليس بقرآن.
وأنّ أبيّا لم يُحفظ عليه قط أنه قال: إن كلام العرب قرآنٌ منزَل، وإنما
روي أنه أثبته في مصحفه، وقد يثبِت في مصحفه ما ليس بقرآن، من دعاء
وتأويل مع تنزيل، وغير ذلك لوجوه من التأويل سنبينها فيما بعد إن شاء الله.
وأن أُبيًا وعبدَ الله بن مسعود لم يطعنا قط على مصحف عثمان
والجماعة، ولا نسباه إلى أن فيه تحريفا أو تغييرًا وتبديلًا، وزيادةً ونقصانًا.
أو مخالفةَ نظمٍ وترتيبٍ، بل اعتقدا صحته، وأخبرا بسلامته، وإن رَأيا جواز
القراءة بجميع ما انطوى عليه مصحفُهما، من غير قدع في مصحف
الجماعة.
وأن عبد الله بن أبي سَرح وغيره من كَتَبةِ الرسول ﷺ قد يجوز أن تسبق يدُه وقلمُه ولسانُه إلى تلاوة آية وكلمة وآيتين مما نزل على الرسول ﷺ من إظهار الرسول لذلك، إذا كان ما تقدم من إملائه يقتضي ما تسبق إليه يد
الكاتب ولسانه، وأنه لم يجز أن يتفقَ مثل ذلك في السورة بأسرها، وما هو
معجزٌ وآيةٌ للرسول ﷺ وأن موافقة الكاتب وسبقَه إلى مثل هذا يجعل الحَدْسَ وصحيح العلم بما يقتضيه الكلام لا يوجب الشك في صدق الرسول، والارتياب بنبوته، والقول بأنه يثبت القرآن برأيه، فكما يتفق له
1 / 62
على ما روي من أن ابن أبي سرح ظن ذلك وتوهمه، فإن ما رُوي من أنه
سمع من النبي ﷺ من قوله: "تلك الغرانيق العُلى وإن شفاعتهم لترتجى غير مقطوع على أنه مسموع منه، وأنه وإن كان مسموعًا منه فإنه يجب أن يكون كلامه على وجه التقريع لهم والتفنيد لرأيهم، واعتقادهم في أصنامهم، وأنه لا يمكن على قول بعض الناس أن يكون قد كان قرآنا منزلًا ثم نسخ لموضع الشبهة به، وذهاب قريش وقومٍ من الناس عن أنه إنما تنزل على وجه الاستفهام لهم، والتعجب من قولهم، وأنه قد يمكن أيضًا أن يكون بعض قريش قال ذلك عقيب تلاوة النبي ﷺ على وجه التعظيم للأصنام فاختلط الكلام، وظن من سمعه ولم يعرف الحال أنه من تلاوة،
1 / 63
الرسول، وأنه لا يجوز أن يكون النبي ﷺ قال ذلك ساهيًا ولا ناسيا، سوى كان من كلامه أو ممّا أنزل عليه ونُسخ، كما سنوضحه إن شاء الله.
وإن رسول الله ﷺ يجوز منه ويصح أن ينسى شيئًا من القرآن بعد تبليغه، وسَيُذَكره ويستثبتُه من حفاظ أمته، وأنه يجوز أن يسهو عن بعض عباداته التي أمر بها، ويوقعها على غير الوجه الذي أخذ عليه، مثل ما كان منه من السهو في الصلاة، وأن ذلك أجمع غيرُ قادح في نبوته ولا مقتضي الارتياب به، ولا حاط له عن رتبة الفضل والكمال.
وأن رسول الله ﷺ سنَّ جمع القرآن وكتابته وأمر بذلك وأملاه على كتبته، وأنه لم يَمُتْ ﷺ حتى حفظ جميع القرآن جماعة من أصحابه، وحفظ الباقون منهم سائرهُ مُتَفرِّقًا، وعرفوا مواقعه ومواضعه على وجه ما يعرف ذلك أحد ممن ليس من الحفاظ لجميع القرآن.
وأن أبا بكر وعمرَ وزيدَ بن ثابت وجماعة الأمة أصابوا في جمع القرآن
بين اللوحين، وتحصينه وإحرازه وصيانته، وجَرَوا في كِتبتِهِ على سننِ
الرسول وستته ﷺ تسليمًا، وأنهم لم يثبتوا منه شيئًا غير معروف، ولا ما تقم الحُجة به، ولا أجمعوا في العلم بصحة شيء منه وثبوته إلى شهادة الواحد والاثنين ومن جرى مجراهما، وإن كانوا قد أشهدوا على النسخة التي جمعوها على وجه الاحتياط من الغلط، وطريق الحكم والإنفاذ.
وأن أبا بكر ﵁ قد أحسنَ وأصاب، ووفَق لفَضل عظيم في
جمع الناس على مصحف واحد وقراءات محصورة، والمنع في غير ذلك.
وأن عليّ بن أبي طالب ﵁ وعترتَه، وشيعته متبعون لرأي أبي بكر
وعثمان، في جمع القرآن، وأن عليا أخبر بصواب ذلك نطقا، وشهد به،
1 / 64
وأن عثمان لم يقصد قصد أبي بكر في جمع نفس القرآن بين لوحين، وإنما
قصد جمعهم على القراءات الثابتة المعروضة على الرسول، وإلغاء ما لم
يجرِ مجرى ذلك، وأخذهم بمصحف عثمان لا تقديم فيه ولا تأخير، ولا
تأويل أثبت مع تنزيل، ومنسوخ تلاوته كتب مع مثبت رسمه، ومفروض
قراءته وحفظه، وتسليم ما في أيدي الناس من ذلك، لما فيه من التخليط
والفساد، وخشية دخول الشبهة على من يأتي من بعد، وأنه لم يُسقط شيئًا
من القراءات الثابتة عن رسول الله ﷺ ولا منع منها، وحَظَرَها.
وأن جميع من رُوي عنه من الصحابة قول في تغيير القرآن أو فساد
نظمه، أو ذهاب شيء منه، أو كون بعضه ملحونا أو أن إعرابه وتقويمه
مأخوذ من بعض الأمة، فإن صحت الرواية إما أن أن تكون باطلة متكذبة، أو منصرفة، أو لما سنذكره ونبينه من التأويل الذي لا يعود بجحده أو بشكه في شي ءمما في مصحف الجماعة.
وأنه لا مجال لإعمال الرأي والقياس في إثبات قرآن، أو قراءة وحرفٍ
يقرأ القرآن عليه، وأن ذلك الجمع سنةٌ متبعةٌ وروايةٌ مأثورة، وأن هذا هو
باب إثبات القرآن والقراءات وطريقه الذي لا مصرف عنه ولا معدل، وأن
من أعمل الرأي في ذلك فقد ضل وأخطا الحق، وتنكّبه.
وأن القراء السبع متبعون في جميع قراءاتهم الثابتة عنهم، التي لا شكوك
فيها ولا أنكرت عليهم بل سوّغها المسلمون، وأجازوها لمصحف الجماعة.
وقارئون بما أنزل الله جل ثناؤه، وأن ما عدا ذلك مقطوعٌ على إبطاله وفساده
وممنوعٌ من إطلاقه والقراءة به، وأنه لا يجوز ولا يسوغُ القراءة على المعنى
دون اتّباع لفظ التنزيل، وإيراده على وجهه، وسببه الذي أنزل عليه، وأداه
الرسول ﷺ.
1 / 65
وأنه لا يمكن أن يكون الحجّاج بن يوسف أو غيره من الأمراء، أو
من الملوك أو من الخلفاء قد أسقط شيئًا من مصحف عثمان ﵁ أو
زاد فيه أحرفا، أو غيّر شيئا مما تَضمنه من قراءة أو خطٍ أو رسمِ، فلم يظهر
ولم ينتشر انتشارًا تقوم به الحجة وينقطع به العُذر، ويعرف بعينه، ويضاف
إلى فاعله. وأنه لا يجوز لأحدٍ أن يقرأ القرآن بخلاف جميع الأحرف والوجوه التي أنزل عليها، وإن كان ما قرأه لغةً للعرب، أو لبعضها، وأنه ليس في
المتكلمين بلغة العرب من لا يَطُوعُ لسانه ويجري ببعض الأحرف والوجوه
التي أنزل القرآن عليها، وأنّه لا يجوز القراءة بالفارسية، وأنه يجوز ويحل
للألثغ والألكن والتمتام أن يقرأ القرآن على وجه ما ينطق به لسانه.
وإن كنا نعلمُ أن الله جل ثناؤه لم ينزله بلفظ الألكن والتمتام.
وأن القرآن آية للرسول ﷺ ومعجز شاهدٌ بصدقه، دالّ على نبوته من ثلاثة أوجه:
أحدها: ما فيه من عجيب النظم، وبديع الوزن والرصف المخالف
لجميع أوزان العرب ونظومه، وأنه لا قدرة لأحدٍ من الخلق على تأليف
مثله، ونظم مثل سورة منه، أو آية من طوال سوره أو من قصار سوره، ولو كان في فصاحة يعربٍ وقحطان ومعد بن عدنان.
1 / 66
والوجه الآخر ما تضمنه من أخبار الغيوب، وذكر ما سيحدث ويكون.
والوجه الثالث: ما انطوى عليه من شرح أقاصيص الأولين وسنن
النبيين، وأحوال الأمم المتقدمين التي لا يعرفها ولا يحيط بها إلا من أكثر
لقاء الأمم، ودراسة الكتب، وصحبة الأحبار وحملة الآثار، مع العلم بنشوء النبي ﷺ في مقامه وظعنه، وأنه لم يكن يتلو قبل ذلك كتابا ولا يخط بيمينه، ولا ممن يعرف مداخلة أهل السبرِ وملابسات أصحاب الآثار وحفاظ الكتب والأخبار.
هذه جُمل ما نحتاج إلى الوقوف عليه من قولنا في هذه الفصول
والأبواب، وقد قال الملحدون وأشياعهم من الطاعنين على النبوة والتوحيد
أن القرآن مدخول، وأنه غير ثابت ولا مضبوطٍ، وأن منه ما يعلم أن محمدًا
ﷺ يأتي به، وفيه ما لا يعرف ذلك من حاله، وأن فيه لحنًا وتناقضًا وفسادًا كثيرًا، وما لا معنى له، ولا يحسُن التكلمُ به، وتعلقوا في ذلك بأمور سنذكر عُمَدها، ونأتي على نقضها والكشف عن فسادها.
وزعم قوم من الرافضة أن القرآن قد بُدِّل وغُيّر وخولف بين نظمه
وترتيبه، وأحيل عما أنزل إليه، وقُرئ على وجه غير ثابت عن الرسول.
وأنه قد زيد فيه ونُقص منه، وقال بعضهم: قد نُقص منه ولم يزد فيه، وأن
لو قُرئ كما أنزل لوُجد فيه لعنُ قوم من قريش وصحابة الرسول ﷺ بأسمائهم وأنسابهم، ولوُجد فيه أسماء الأئمة الاثني عشر منصوصًا عليها، كما نص على ذكر الرسول جمييه وغيره من الأنبياء.
وأننا لا ندري لعل الذي في أيدينا من القرآن أقلّ من عُشر ما أنزله الله
﵎، وأن الداجنَ والغنم قد أكل كثيرًا مما كان أُنزل وأُوجب على
الأمة حفظُه وضبطه، وأن علمَ ذلك ومعرفته عند الإمام الوافر المعصوم،
1 / 67
وأن أبا بكر وعمر ﵄ وجماعةَ الأمة أخطؤوا في جمع القرآن
وجعله بين لوحين، وأنهم لم يرجعوا في ذلك إلى ثقة ويقين، بل إنما
تلقطوه وأخذوه من الواحد والاثنين، ومن الرقاع واللخاف، واستشهدوا
على ذلك الواحد والاثنين ومن لا تقوم الحجة بقوله وشهادته، وأن هذا هو
سبب اختلاف المصاحف والقراءات، وذهاب أهل الحجاز إلى حرف.
وأهل الشام إلى غيره، وأهل العراق إلى خلاف ذلك.
ويحكى أن قومًا قالوا: إن القرآن موجود الذات غير مزيد فيه ولا
منقوص منه، ولا متلو على غير الوجوه والحروف التي أنزل عليها، غير أن
نظمه وترتيبه ليس على ما أنزل وركب، فنفس القرآن صحيح ثابت، وتأليفه ونظمه هو الفاسد، ولأجل فساد نظمه اختلف الناس في الناسخ منه
والمنسوخ، والمجمل المفسَّر، والعام والخاص، قالوا: ولو قد وُضع كلُّ
شيءٍ منه في موضعه وضُمّ إلى ما قُرن به، لعُرفت معانيه، وزال الاختلاف
فيه، لأنه منزلٌ بلسان العرب، وبأفصح لغة، وأبيَن لسانٍ منها، فمن أين
يأتيه الرّيب والاختلافُ لو رُتّب على سنته ونُظم على وجهه؟ !
قالوا: إلا أن أبا بكر وعثمان ﵄ والجماعةَ قد أصابوا في
جمعه على ما هو اليوم عليه، لأن ذلك كان جهد رأيهم وغاية وسعهم
وطاقتهم، ومنتهى ما عندهم من الحزم والاحتياط، لأن القرآن لم يكن
محفوظًا على تاريخ نزوله وترتيبه فيثبته القوم كذلك، وإنما كان متفرقًا في
الجماعة، ومحفوظا لهم على حسب طاقتهم وما يُيسر لهم، فلم يمكنهم مع
ذلك غير الذي صنعوه، فقد أصابوا فيما حاطوه من دخول خلل تحريف أكثر
مما لحقه ودخل فيه، وكان الرأيُ معهم، والصواب في أيديهم حيث حاطوه
وحصنوه من تزايد الغلط فيه وإيجاد السبيل إلى الإلباس فيه، وهذا القول
1 / 68
ليس بمحفوظٍ عن أحد من السلف، ولا من التابعين، ولا من الفقهاء
المعدودين، ولا من أئمة أهل القرآن والحديث، بل مذهبُ جميع من ذكرناه
صدُّ هذا القول ونقضه، وأن القوم اتبعوا في نظمه وترتيبه ما سُن وشرع.
فيه، وحُفظ من ضبط عن الرسول ﷺ.
وقال خلق من المعتزلة وشذوذ من ضَعَفة القرّاء والمنتسبين إلى
الحديث، لا يُعرف لهم في ذلك مصنف ولا ناصر مذكور يرجع إليه: إن
عثمان جمع الناس على بعض الأحرف التي أنزلها الله تعالى ومنع من باقيها
وحظر، لما حدث من الاختلاف والفتن، وكثرةِ التشاجر بين قرّاء القرآن.
وأنه وفق في ذلك ورفق به وأقام الحق، لأن الذي جمعهم عليه كان الغرض.
وقال منهم قائلون: إنه لم يحظر ما خالف حرفَه ولا منع منه، ولكن استنزل
الناسَ عنه بطيب القلوب وكثرة الترغيب في حرفه، وتنبيهه لهم على أنه
أحوطُ الأمور وأولاها، فانقادوا له مذعنين، ورغبوا عن ما عدا حرفه.
فضعف لذلك ووهى نقله وزالت الحجة به لا عن إكراهٍ وقع في الأصل.
وقال قومٌ من الفقهاء والمتكلّمين: يجوز إثبات قرآنٍ وقراءةِ حكمًا لا
علماَ بخبر الواحد دون الاستفاضة، وكره ذلك أهل الحق وامتنعوا منه، وقال
قوأ من المتكلمين إنه يسوغ إعمال الرأي والاجتهاد في إثبات القرآن وأوجه
وأحرف إذا كانت تلك الأوجه صوابًا في اللغة العربية ومما يسوغ التكلّم بها.
ولم تقم حجة بأن النبي ﷺ قرأ تلك المواضع بخلاف موجب رأي القايسين، واجتهاد المجتهدين، وأبا ذلك أهلُ الحق وأنكروه، وخطأوا من قال بذلك وصار إليه، واحتجوا على فساده بما سنوضحه فيما بعد إن شاء الله.
وهذه جملةُ ما يجبُ الوقوف عليه، وسنأتي منه عند تفصيل الكلام
وترتيب الأبواب ما يأتي على البقية إن شاء الله.
1 / 69
فصلٌ فيما اعتَرَض به أهلُ الفساد على مصحف عثمان وردّ شُبَههم
قال جميعُ من دان بما وصفناه في مصحف عثمان رحمة الله عليه: إننا
وجدنا الأمةَ مختلفةً في نقله اختلافًا شديدًا بشيعًا، حتى صرنا لعظيم اختلافهم
لا نقف على صحيحه من فاسده، ولا نعرفُ الزائدَ منه ولا الناقص، ولا
نعرفُ موضع كلّ شيءٍ منه الذي أُنزل فيه وما قبلَه وما يليه، وقال قومٌ منهم: إنه لا يعرفُ الناقص منه إلا الإمامُ الذي أُودع علمَه وشيعتُه، وهذا قول من أنكر الزيادة فيه وأقر بنفصانه، قالوا: لأن أبا بكرٍ وشيعتهُ هم الذين تولّوا نظمه وترتيبه وجعله سورًا أو كثير منه وقدّموا منه المؤخر، وأخّروا المقدّم، ووضعوا كثيرًا منه في غير حقه، وأزالوه عن موضعه الذي هو أولى به، قالوا: والحجة لذلك أنه قد عُلم أن المصحفَ الذي في أيدي الناس إنما هو مصحف عثمان الذي جمعه، وجمعَ بعضَه من قبله أبو بكرٍ وعمر، وإنما
كانوا يجمعونه - زعموا - ويتبينونه بشهادة اثنين إذا شهدا على أنه قرآن.
وخبرُ الاثنين وشهادتُهما لا توجب علمًا ولا تقطع عذرًا.
قالوا: وقد قامت الأدلة القاطعة على نقصانه وفساد كثيرٍ من نظمه، وكونه
غيرَ متناسبٍ ولا متلائم، قالوا: وما نجده من اختلاف القَرَأةِ السبعة، وأصحاب الشواذّ، وما رُوي وظهر من اختلاف سلفهم لزيد بن ثابت، وعبد الله بن مسعود، وأبيّ، وما خرجوا إليه من المنافرة والمشاجرة وإعظام القول،
1 / 71
وإدخال بعضهم في القرآن ما ليس منه، كأبي وإدخاله دعاءَ القنوت في
مصحفه، وعبد الله بن مسعود وإلغائه الحمدَ والمعوذتين من مصحفه.
وإنكاره أن يكون من القرآن: أوضحُ دليل على ضعف نقل القرآن ووهائه.
، وأن الحجةَ غيرُ قائمةٍ به وأن القومَ إنما جمعوه ورتبوه على آرائهم وما
استصوبوه بغالب ظنهم واجتهادهم، وأنهم يقدّمون بذلك بين يدي مُنزِله
الحكيمِ العليم، وأن القَرَأَةَ مثلَ عبد الله بن مسعود وأبيّ وزيد بن ثابت ومن
أخذ عنهم إلى القراء السبعة إنما قرؤوا القرآنَ بحسب اجتهادهم وما قوي في
ظنهم، وما استحسنوه ورأوا أنه أولى وأشبه من غيره، فلذلك صار أهلُ مكة إلى قراءة، وأهل الكوفة إلى أخرى وأهل البصرة إلى غيرها، وأهل الشام إلى خلاف ما عليه سواهم من أهل الأمصار.
قال أهل الإلحاد: فكل هذا يدل على اضطراب نقل القرآن وضعفه وأن
الحجة غيرُ قائمةٍ به، وإن أحسن أحواله أنه لا يُعرف ما أتى به محمد ﷺ منه، وأيُّه على ما أتي به من غيره، ولا يوقف على صحيحه من فاسده، وناقصه من زائده، وموضعه الذي أنزل فيه من غيره.
وقال كثيرٌ من الشيعة إن الأمر في هذا أجمع على ما قاله الملحدون.
غير أننا نعلم أن علمَ ذلك أجمع عند الإمام المعصوم العالم المنتظر، وأنه
حافظٌ له على سبيل ما نزل، وأنه يجبُ الرجوعُ إليه في معرفة هذا الباب.
وقال فريقٌ من الرافضة: إن جميعَ هذه المطاعن على القرآن والصحابة
صحيحةٌ، إلا ما ادُّعي من الزيادة في القرآن فإنه لا أصلَ - لذلك، وأنه لا
يمكن أن يزادَ فيه شيءٌ من مجازه ونظمه، قالوا جميعًا: وإنما تورّطَ سلفُ
1 / 72