وبقدر ما سببت عدم موافقتي المطلق بأسباب لا أزال أراها موضوعية.. فقد كان قادرا على إقناعي بالموافقة بأسباب هي الأخرى موضوعية. وكان السبب الأول لعدم موافقتي آتيا من حقيقة لدي تتضمن اقتناعا وحرصا ثابتين:
- اقتناعي بأن تحقيق المخطوطات التراثية، أصبح فنا مستقلا من فنون العلم والفكر أكثر من كونه جزءا من مهنة النشر في هذا العصر الذي يطلق عليه (عصر المطابع) ضمن أشهر صفاته.
- وحرصي على أهمية هذا الكتاب وما احتواه من علم جم ومنهج فذ أن يتم تحقيقه ونشره في الصورة اللائقة به؛ لأنني وغيري أشعر بالإشفاق والألم لكثير من المخطوطات التي صدرت تحت عبارة (تحقيق وتصحيح)، وليس فيها - وللأسف الشديد - من التحقيق شيء غير اسم لشخص كتبه بعد هاتين الكلمتين، وقد يضيف تصديرا في بضعة أسطر يستهل بها الكتاب. ومثل هذا لا يمكن أن يكون تحقيقا، ولكنه في أحسن الحالين يكون نسخا للمخطوطة إن لم يكن مسخا لها، من حيث أن ما هو مقبول في المخطوطة ليس مقبولا في نسختها عند طبعها ونشرها. ومن هنا فإن ما أعرفه من شروط يجب أن تتوفر في عمل التحقيق، هي قطعا متوفرة لدى غيري من المهتمين بهذا الجانب أكثر مني. وليس الإلمام بأصول التحقيق وسعة الاطلاع في كتب التراث والتفرغ، كل الشروط أو ربما أكثرها أهمية.
ولأن زميلي صاحب الفكرة والمشروع لتحقيق (الانتصار)، ينظر إلى الكتاب بعين الفقيه المطلع الحريص على نشر الكتاب بوصفه الغاية الأولى، وبوصف ما عداها من غايات مجرد وسائل تسخر لخدمتها، فقد أقنعني بإصرار كثير، وعزم متين عبر عنهما بكلمات قليلة . قال ما خلاصته:
أولا: إن الواجب لا يخص المتفرغين للتحقيق في كتب التراث؛ لأنه واجب ديني وفكري يقع على كل شخص بحسب وعيه بهذا الواجب، وبحسب قدرته على أدائه.
وثانيا: وكما أن المبدأ أو القاعدة في أداء الواجب محددة بقوله تعالى: {لا يكلف الله نفسا إلا وسعها}.. فإن المفهوم المفروغ منه في هذه الآية، أن الأداء واجب في حدود وسع النفس وقدرتها، ولا يسقط بمجرد الاحتمال المسبق لعدم القدرة على أداء الواجب كاملا غير منقوص. فدعنا نعمل ما في وسعنا أولا، ثم نحكم عليه بالقبول أو الرفض.
पृष्ठ 10