وفي 1831 أنفذت الحكومة البريطانية سفينة البيجل كي تطوف حول العالم وتسبر الأعماق وتدرس الشواطئ وتقيس الأبعاد، ولكن لماذا عمدت الحكومة البريطانية وحدها دون سائر الحكومات إلى الاهتمام بهذا الموضوع؟ ما هي العاطفة الحافزة إلى هذه الدراسة التي لم تفكر فيها ألمانيا أو روسيا أو إيطاليا.
العاطفة الحافزة اجتماعية أيضا، وذلك أن الحكومة البريطانية في تلك السنين كانت تخدم الصناعة البريطانية؛ لأن السياسة على الدوام تسير خلف الاقتصاد، وكانت أسواق العالم وقفا على المصنوعات الإنجليزية؛ لأن الحركة الصناعية الإنجليزية سبقت الحركات الأخرى في جميع الأمم، فمن هنا كان الاهتمام بالبحار والملاحة والأقطار النائية، ومن هنا أيضا كانت الفرصة لداروين في أن يلتحق بالسفينة «بيجل» كي يدرس الحيوان والنبات.
ولم يكن داروين جديدا في هذا البحث «أصل الأنواع» فإن لامارك الفرنسي سبقه إليه، وهو صاحب القول بأن عنق الزرافة قد طال؛ لأنها بالمرانة التي ورثت جيلا بعد الجيل قد اشرأبت وسعت للوصول إلى الغصون العليا في الأشجار، فكأن ما يكسبه الحيوان بجهده من صفات يورث جيلا بعد جيل، بل إن جد دارون قد بحث هذا الموضوع، فكانت النظرية «في الهواء» تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها.
كان داروين شابا في الثالثة والعشرين حين شرع في رحلته على البيجل، فلما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وجد حيواناتها ونباتها يختلفان عما هما في القارات القديمة، ثم لما وصل إلى الجزر المنعزلة غرب أمريكا الجنوبية وجد أن انعزال الجزيرة يؤدي إلى انعزال الحيوان، فتكون له أشكاله التي ينفرد بها من الأشكال العامة على القارات.
وإلى هنا يكاد يتوهم القارئ أنه ليس هناك أي فضل لداروين في تعليل النظرية، فقد سبقه إليها جده كما سبقه إليها لامارك الفرنسي، ثم هناك الظروف الأخرى، مالتوس وقلة الإنتاج الغذائي إزاء تضاعف السكان، ثم تنازع البقاء وبقاء الأصلح وفناء الضعيف في المزاحمة العنيفة في لنكشير حيث الحركة الصناعية في عنفوانها.
ولكن لا! لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها، حين تشمل المعيشة والاتجاه والعادات والعواطف، هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا تغفل الشخصية؛ إذ لو لم يكن داروين ذكيا لما فكر في هذا الموضوع الخطير، ولما جعله هدفه في الحياة.
لقد قال داروين عن نفسه: «إن الحقائق تضطرني إلى الاعتراف بأن عقلي لم يخلق للتفكير».
وقد ظلم داروين نفسه بهذه الكلمات، ولكن الحقيقة أنه لم يعرف نفسه؛ لأن الواقع أنه لا يقول هذه الكلمات إلا رجل مفكر قد أسرف في التفكير وعني العناية الكبرى بغربلة الحقائق من المعارف، وعرف الصعوبة الكبرى في هذا الجهد، ولو أنه لم يكن يجهد لما قال هذه الكلمات؛ إذ إنها ما كانت لتخطر في باله.
الحقيقة الواضحة من حياة داروين أنه احترف التفكير، وأنه كان مريضا أو متمرضا في نفسه حزازة قديمة هي جرح الكرامة، هذا الجرح الذي أحدثه أبوه وغيره فيه كما نرى مثلا من وصف أبيه له بأنه سوف يكون عارا لعائلته، فقد كان لا ينام في الليل إلا بعد أرق الساعات وكان في هذه الساعات يفكر ويؤلف، فإذا جاء النهار كتب كلماته القليلة، ثم يبقى سائر نهاره مريضا، ومرضه هو هذا المرض النفسي الذي يخترعه النيوروزي ويعيش به ويستقر عليه، كأنه يقول: طلبتم مني النجاح والتفوق، وكيف أستطيع هذا وأنا مريض؟
مرض يصون الكرامة المجروحة «أنت عار لعائلتك» وفي الوقت نفسه يهيئ الفرصة للتفكير في حضانة ليلية يسميها الأصحاء أرقا، ولو أن داروين نجح وصار قسيسا أو طبيبا كما كان يشتهي أبوه لكسب العالم قسيسا أو طبيبا يمارس حرفته ويكسب منها، ولكن العالم كان يخسر عندئذ هذه العبقرية المريضة التي زعزعت الثقافة من أساسها، بل زلزلتها وعينت أهدافا جديدة للإنسان.
अज्ञात पृष्ठ