أعلام الطريق في تطور الإنسان
حوافز التفكير في التطور
داروين والتفكير الجديد
البيئة تغير الأحياء
نشأة الكون وتطوره
خروج الأحياء المائية إلى اليابسة
هل تنقرض هذه الحيوانات الجميلة
إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
نحن خمسة في هذا العالم
الدماغ واليد واللسان
هذا الإنسان
العائلة الأبوية
أصل العقل وتطوره
الأفكار كلمات
أعلام الطريق في تطور الإنسان
حوافز التفكير في التطور
داروين والتفكير الجديد
البيئة تغير الأحياء
نشأة الكون وتطوره
خروج الأحياء المائية إلى اليابسة
هل تنقرض هذه الحيوانات الجميلة
إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
نحن خمسة في هذا العالم
الدماغ واليد واللسان
هذا الإنسان
العائلة الأبوية
أصل العقل وتطوره
الأفكار كلمات
الإنسان قمة التطور
الإنسان قمة التطور
تأليف
سلامة موسى
مقدمة
بقلم سلامة موسى
هذا الكتاب هو مزيج من العلم والفلسفة.
ونعني بكلمة العلم هنا أن الكتاب يحوي معارف جديدة عن تطور الأحياء، وهي معارف إن لم تكن يقينا كاملا فهي تقاربه.
ونعني بكلمة الفلسفة أننا حاولنا أن نتعمق هذه المعارف؛ كي نصل منها إلى تعيين الأسلوب وفهم الدلالة وتحديد الهدف في التطور.
ومجهودنا هنا أقرب إلى البصيرة والرؤيا منه إلى التحقيق العلمي والرؤية، ولا بد من البصيرة حتى للمفكر العلمي.
ولسنا نقصد من التأليف عن التطور أن يعرف جمهور القراء حقائق هذه النظرية فحسب؛ لأننا إنما نتوسل بهذه النظرية إلى أن نعمم مزاجا ذهنيا، واتجاها نفسيا، وخطة اجتماعية، نحو التغير؛ أي: نحو التطور في الشعب وفي الفرد أيضا.
وليست الحياة شيئا شاذا في المادة تستحق عقائد معينة، فإن الظواهر العديدة في هذه الكون، وليس في هذه الدنيا وحدها، تدل على أن المادة في تغير؛ أي: تطور دائم لا ينقطع، ويمكن أن نسمي حركة الذرة والجزيء، وحركات الكواكب والنجوم؛ أنواعا من الحياة.
ومع أن التطور نظرية علمية، فإننا محتاجون إلى الفلسفة حين نكتب عن التطور في المستقبل؛ أي: عن التوجيه والتعيين ورسم الأهداف لمستقبل الإنسان، وليس لدينا هنا يقين علمي وإنما نحن نسترشد بالبصيرة المثقفة والتفكير الشامل.
والشاب الذي درس التطور في الأحياء؛ نباتا، وحيوانا، لا يتمالك أن يحس إحساسا دينيا نحو الطبيعة، ثم إذا درس بعد ذلك تطور المجتمعات والأديان والعائلة والثقافة والعلم والأدب والفن والحضارات، فإنه لا يتمالك أيضا أن يحس المسئولية نحو الوسط الذي يعيش فيه، ويجب أن يؤثر فيه، للخير والشرف والسمو؛ لأنه هو نفسه قد أصبح جزءا عاملا في هذا التطور، ويمكن أن يعد التطور بهذا الفهم دينا أو مذهبا بشريا جديدا.
ولم يكن التطور في ملايين السنين الماضية ارتقاء على الدوام، كما نفهم المعني «البشري» لهذه الكلمة، ولكنه يجب أن يكون كذلك في المستقبل؛ لأن الإنسان كان في الماضي خاضعا، في ذهول، لعوامل التطور البيئية، أما منذ الآن فإن التطور هو الذي سيخضع للإنسان عن وجدان ودراية بما يتخذ من أساليب ويبين من أهداف في مصير البشر بعد ملايين السنين.
لقد كنا، قبل الطب، نمرض ونشفى بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد الطب فإننا صرنا نتسلط على المرض ونمحوه بالدواء، وكذلك الشأن في التطور، فقد كنا نتغير في الماضي بتأثير العوامل الطبيعية، أما بعد اهتدائنا إلى نظرية التطور فإننا أصبحنا قادرين على التسلط على العوامل التي تغيرنا وتؤدي إلى ارتقائنا.
وفي هذا التفكير أو التوجيه الجديد رسالة تناشد في كل منا شرفه وشجاعته.
أعلام الطريق في تطور الإنسان
أعلام الطريق هي علامات تقام على جانبيه تدل السائر على مقدار ما قطع من المسافات أو تشير إلى الانعطافات، وأعلام الطريق في تاريخ الإنسان تدلنا على ارتفاعه في مراحل تطوره.
فليس شك أن الإنسان، بالمقارنة إلى الحيوان، يعد فذا، ولكن هذه الفذاذاة لا تخرجه من المملكة الحيوانية، فإن أعضاءنا الداخلية وكذلك الأعضاء الخارجية تشابه، بل أحيانا تطابق، ما عند الحيوانات من هذه الأعضاء، فإن تركيب العين البشرية لا يكاد يختلف من تركيب العين عند السمك، وأيادينا وأرجلنا زعانف متطورة، ولا يزال هناك أسماك تسير على الأرض وعلى الشجر بزعانفها، والقلب والكبد والقناة الهضمية والجهاز التناسلي والكليتان في الإنسان لها ما يقابلها، وأحيانا يطابقها، مثل هذه الأعضاء في الحيوان .
ولكن الإنسان تفوق ورأس المملكة الحيوانية، لماذا؟
الجواب هو: الدماغ الكبير.
ولكن هنا عوامل سابقة أدت إلى الدماغ الكبير، فما هي؟
نحتاج لشرح هذه العوامل، إلى بعض التفصيل.
إلى قبل نحو عشرة ملايين من السنين كنا مثل سائر القردة التي تأوي إلى الأشجار تأكل من ثمارها وحشراتها ونحتمي على غصونها من وحوش الأرض، وانتفعنا من الإقامة، ملايين السنين، على الشجر؛ لأننا تعلمنا كيف نتسلق بأيدينا، فلم تعد اليد للمشي، وإنما صارت للتسلق، واستعمال اليد للتسلق يؤدي إلى استعمالها للتناول، كما نرى في القط والفأر والسنجاب، ولكننا أيضا كنا نجد الحياة في الليل أنفع لنا من الحياة في النهار، ولعل السبب لذلك ضعفنا وأننا لم نكن لنستطيع مقاومة أعدائنا، فصرنا نحيى حياة سرية ننام في النهار ونختبئ ونستيقظ ونسعى في الليل.
والرؤية في الظلام تحتاج إلى زيادة القوة في النظر، ولذلك اجتمعت العينان في الوجه بدلا من أن تكون في الصدغين، وهذا شأن حيوانات الليل مثل الوطواط والبومة، وأقل منها في الفأر والقط.
واجتماع العينين في الوجه لم يزد قوة النظر زيادة كمية فقط بل زادها زيادة نوعية؛ لأن تقدير المسافات يحتاج إلى العينين، أما العين الواحدة فتخطئ المسافة.
ولذلك نستطيع أن نقول: إننا انتفعنا بمعيشتنا على الشجر بشيئين:
الأول:
إعداد اليدين للتناول عن طريق التسلق.
الثاني:
جمع العينين في الوجه مثل البومة والوطواط. •••
ثم حدثت ظروف حملتنا على أن نترك الأشجار والحياة في الغابات إلى السعي على الأرض، في السهول والوديان، ولا نعرف الأسباب على وجه الحقيقة، ولكن يمكن أن نحدس، فنقول: إنه ربما قد حدث جفاف جعل الحياة في الغاية عسيرة، أو ربما ثقلت أجسامنا فلم نعد نجد سهولة في الانتقال من غصن إلى آخر.
وعلينا أن نفهم أن كل هذا قد حدث في تدرج، فصرنا ننزل من الشجر ونستطلع ما حول الغابة من سهول ووديان ونصيد الحيوانات الصغيرة بالعدو خلفها وإمساكها باليد وافتراسها.
وكنا بالطبع في ذلك الوقت نمشي على أربع أحيانا ونمشي على القدمين فقط أحيانا أخرى ؛ أي: كنا مبتدئين في الإنسانية، ولكن رويدا رويدا تعلمنا كيف نسير على أقدامنا فقط؛ لأن هذا الأسلوب الجديد في التنقل جعل إشرافنا على السهول والوديان أوسع مدى فصرنا نرى أكثر ونصيد أكثر.
ثم إن انتصابنا على أقدامنا حرر أيدينا تحريرا تاما كي نتناول بها ونمسك؛ أي: نتناول الحجر كي نلقيه على طريدتنا التي نريد صيدها، ونتناول الطريدة فنخنقها أو نمزقها للطعام.
وهنا مرحلة في التطور يجب أن نقف عندها.
ذلك أننا وجميع الحيوانات تقريبا، مجهزون بخمس حواس، منها ثلاث يمكن أن نسميها حواس المسافات.
ذلك أن حاستي اللمس والذوق لا تحتاجان إلى مسافة، ولكننا نحس على مسافة قريبة أو بعيدة، ما نسمع أو نشم أو نرى.
وحاسة الشم على أعلاها في أحياء البحر والحشرات، وفي بعض الرواضع مثل الكلب، ولكنها على أضعفها عندنا؛ ذلك لأننا كدنا نستغني عنها بالعين والأذن.
عيوننا ارتقت بمعيشتنا السابقة في ظلام الغابة وفي السعي بالليل، فلما تركنا الغابة إلى السهول والوديان وجدنا القيمة العظمى للعين؛ لأن النظر بسط أمامنا من المسافات ما جعلنا نشرف به على أكبر مساحة ممكنة من الأرض.
والسمع حاسة مسافية أيضا ولكنها أقل قيمة من النظر.
ووقوفنا على أقدامنا مع العينين جعل إشرافنا كبيرا، فصرنا نرى أكثر مما لو كنا على أربع، ورؤيتنا الكثير حولنا جعلنا نقارن ونتعقل ونجمع القليل من السمع إلى الكثير من النظر، ثم نقارن ونتعقل.
السمع والنظر أوجدا الوعي «أي الوجدان» في الإنسان.
أوجدا بداية الوعي الذي لا يكاد حيوان الشم والسمع يعرفه؛ لأن ما يعرفه هذا قليل.
الزرافة والفيل والثور والفرس أعلى منا قامة، وهي ترى أكثر منا أو على الأقل مثلنا بحاسة النظر؛ أي: الحاسة الأولى في المسافات، ولكنها لم تتطور وترتقي مثلنا، فلماذا؟ •••
هنا علم آخر في طريق التطور والارتقاء.
نحن نقف وقفة عمودية على أقدامنا، ولذلك نستطيع أن نحمل في رءوسنا دماغا كبيرا ثقيلا، ولو كنا نسير على أربع لما استطعنا أن نحمل هذا الدماغ، نحن نحمل دماغا عموديا والحيوان يحمله أفقيا.
احمل عشرة أرطال وارفع ذراعك بها عمودية فوق كتفك تجد الحمل خفيفا ولكن ابسط ذراعك أمامك أفقيا مع الحمل تجده ثقيلا.
قامتنا المنتصبة التي يسرها لنا وقوفنا على أقدامنا يسرت لنا نمو الدماغ، ووقوف هذا النمو عند أخواتنا القردة العليا الأربعة الأخرى يعود في كثير منه إلى أنها لم تنتصب تماما، وذلك أيضا لأنها لم تترك الغابة إلى الآن.
إن التطور قد أعدنا للذكاء عن طريق قدمينا قبل أن يعدنا له عن طريق رءوسنا.
وأصبحت حواس المسافات، الشم والسمع والنظر، تغذي الدماغ بالأخبار، وهذا يقارن بينها ويفرز ويميز ويتعقل؛ أي: يجد الوعي. •••
ثم ظهر عامل جديد خطير في ارتقاء الإنسان، ارتقاء دماغه؛ أي: زيادة ذكائه؛ أي: زيادة وعيه.
ذلك أنه عرف اللغة؛ أي: الكلمات.
اللغة تحتاج إلى الحياة الاجتماعية؛ إذ هي للتفاهم؛ أي: أن يفهم واحد ما يقوله الآخر؛ أي: أن اللغة ليست اختراع فرد وإنما هي اختراع جماعة.
لما خرجنا من الغابة إلى السهول والوديان كان خروجنا جماعات كي نتربص بالفريسة وكي نتجمع للدفاع، فكنا في حاجة إلى الكلمات التي تهمس أو نزعق بها للتنبيه أو التحذير.
اللغة «حاسة» جديدة، حاسة مسافية مثل العين والأذن.
ولكنها حاسة للجماعة، وهنا نجد أن الحنجرة، مثل القدمين قبل ذلك بملايين السنين، قد خدمت التطور بمعاونة اللسان.
إن كل كلمة فكرة، وتسجيل الكلمات في الدماغ هو بمثابة تسجيل الأفكار، وهذه الأفكار تتصادم وتتفاعل في الدماغ الذي يكبر وينمو كي يستوعبها.
كما تكبر العضلة بتناول الشيء الثقيل وتكرار تناوله، كذلك يكبر الدماغ بتناول الأفكار وحفظ معانيها وترتيبها.
ومع الكلمات كنا نضع بعض الأدوات للصيد، وتشكيل الأداة وصنعها وتناولها، وحركات الصيد والاجتماع للتربص، ثم اقتسام الفريسة وتمزيقها، كان كل هذا يحتاج إلى كلمات تعين كل درجة من درجات هذا المجهود، والكلمات تبعث التفكير، والتفكير يؤدي إلى تكبير الدماغ كما لو كان عضلة تكبر بالمرانة ورءوسنا الكبيرة هي التي تجعل مقامنا فذا بين الحيوانات؛ لأنها ميزتنا عليها بالذكاء. •••
ممارسة الصيد، وصنع الآلات للصيد، كلاهما أدى إلى اختراع اللغة، وكلاهما احتاج إلى اجتماع الأفراد.
ومضت حقبة كبيرة جدا، لعلها تقاس بملايين السنين، كان فيها الإنسان صيادا لا أكثر، ومعظم خرافاته جاءت من هذه الحقبة حين كان يستعين على الصيد بعقائد السحر والدين.
ذلك أن الصيد خطر، والصائد عرضه لأن يكون فريسة ما يصيد، ولذلك كان الخوف يعم الصائدين ويحملهم على التشبث بأية عقيدة تلهمهم بعض الاطمئنان.
وظهر حجاب المرأة في ذلك الوقت.
ذلك أن أشأم كلمة أيام الصيد كانت كلمة الدم؛ إذ هي تحمل معنى القتل، ولما كانت المرأة تحيض كل شهر كانت لذلك يحرم على الرجل الاقتراب منها أو حتى رؤيتها قبل الخروج للصيد حتى لا يتشاءم بالدم، وأصبحت المرأة «نجسة» أيضا، وتزداد نجاستها حين يغزر الدم كما في الولادة ومن الدم عرفت كلمة «دميم»؛ أي: الكريه الوجه.
وبقيت الشعوب التي تمارس الصيد تستنجس المرأة حتى حين ارتقت من الصيد إلى رعاية القطعان.
والصيد يؤدي إلى الرعاية.
فالصائد حين يصيد أنثى الوحش تبقى أطفالها معها حتى وهي ميتة. وقد يحملها الصائد إلى زوجته وأولاده، فتنمو وتكبر، ثم تكون تربية الحيوانات واستئناسها، ومضت قرون في رعاية القطعان والتنقل من مرعى إلى سهل، فظهر نظام القبائل واستبدل الإنسان الراعي الإيمان بإله واحد في كل مكان، بالسحر والشعوذة، ولكن هذا الإيمان بإله واحد، استحال بعد الزراعة، إلى الإيمان بالتعدد الوثني.
ثم عرفت الزراعة بعد ذلك، وقريبا جدا؛ إذ هي لا تزيد على 15 ألف أو 20 ألف سنة، والمرجح أنها نشأت في مصر؛ لأن انتظام الفيضان كان يحمل على التفكير، فيفهم الإنسان أن الماء هو الأصل في نمو النباتات، وجميع الآلهة المصرية القديمة هي آلهة الزراعة والماشية، فإن آمون يحمل قرنا «للماشية» وأوسير تخرج سنابل القمح أذنيه «للزراعة»، وهاتور البقرة «اللبن».
وباستقرار الإنسان على الزراعة ظهرت الحضارة؛ لأن الزراعة هي أولى درجات الحضارة؛ إذ هي اقتضت إيجاد حكومة للأمن العام، ثم ديانة للطمأنينة على الزرع، ثم صناعات زراعية ... إلخ.
ونستطيع أن نعين مراحل الارتقاء أو التطور البشري بهذه الأعلام التالية: (1)
حياة الإنسان في الغابة علمه التسلق على الشجر، فهيأ يديه بالتسلق للتناول والإمساك كما هيأه بعض الشيء، للمشي على قدميه. (2)
حياته في الليل أدت إلى جمع عينيه في وجهه بدلا من أن تكون كل منهما في أحد صدغيه فصار النظر أدق. (3)
لما ترك أشجار الغابة مشى على قدميه أو شرع في ذلك. (4)
كبرت فيه، وهو في السهول والوديان، حواس المسافات؛ أي: السمع والشم والنظر، وأهمها النظر. (5)
هذه الحواس زادت وعيه؛ أي: وجدانه بما حوله، فكبر. (6)
الإقامة في الوديان أو السهول تعني الصيد جماعات؛ أي: تعني الإنتاج بالتفاهم، فظهرت اللغة؛ إذ هي خاصية اجتماعية وليس فردية؛ لأن غاية اللغة هي التفاهم، والتفاهم يحتاج إلى اثنين أو أكثر. (7)
صار التعاون على الصيد يحمل على تأليف كلمات واختراع الأدوات والتفكير في الوسائل، فزاد التصور، والتصور يعني الفكرة العامة التي تشمل الأشياء أكثر مما يعني الفكرة الخاصة، وأدى كل ذلك إلى تكبير الدماغ. (8)
أدى الصيد إلى عادات وخرافات اجتماعية، منها نجاسة المرأة. (9)
كذلك أدى الصيد إلى رعاية القطعان فكان الإيمان بإله واحد. (10)
ثم ظهرت الزراعة فبدأت الحضارة الأولى. (11)
لما عمت الزراعة جزءا كبيرا من الأرض في وادي النيل، احتاجت إلى الدين والحكومة وإلى شيء من العلم «مثل تقويم السنة» وإلى الكتابة؛ لأن الغرض الأول من الكتابة كان تسجيل مقدار الدخل الحكومي من الزراعة. (12)
ظهور الكتابة أدى إلى الثقافة.
الزراعة أنتجت الحضارة.
والكتابة أنتجت الثقافة.
وبالكتابة توسع التفكير البشري ووجدت كلمات التعميم والشمول، وأصبحت «النظرية» ممكنة، وصار الذكاء مدربا على الفهم العام، ورويدا رويدا تحول البحث الديني القائم على العقائد والخرافات إلى بحث فلسفي قائم على العقل والمنطق.
حوافز التفكير في التطور
من أعظم ما أخر الشعوب العربية عن المساهمة في الموكب العلمي العصري أن فني الرسم والنحت كانا مجهولين عندها، ولا عبرة برسم هنا وهناك على قماش أو خزف؛ لأننا نعني أن يكون الرسم فنا يحيا به وله فنانون محترفون، وكذلك الشأن في النحت.
فقد ورث الأوروبيون فن النحت عن الإغريق والرومان الوثنين، وابتدعوا هم فن الرسم، ولم يجدوا مانعا من التقاليد في ذلك.
ثم حين جاء ميعاد النهضة استطاع الباحثون في علوم الإنسان والنبات والحيوان والطب والطبيعيات أن يستخدموا فن الرسم في تطوير هذه الأشياء، فتقدمت علومها بذلك، وهنا حيل بين العرب وبين متابعة هذه العلوم بهذا التحريم الذي ذكرنا لفني الرسم والنحت، ثم يضاف إلى هذا تحريم التشريح للجثث البشرية.
وهناك قصة معروفة عن اثنين من اللغويين العرب أيام العباسيين فقد تحدى أحدهما الآخر في قدرته على تسمية أعضاء الفرس، ولكن الثاني تحداه أن يعين الأسماء للأعضاء على جسم الفرس؛ إذ كان الأول قد حفظ الأسماء من الكتاب وليس من الفرس.
ولو كان العرب قد مارسوا الرسم والنحت لما كان يمكن أن تقع هذه الحادثة.
ونذكر هنا كتابا فرنسيا ألفه رجل يدعى بيلون في سنة 1555؛ أي: قبل 400 سنة، وقبل كتاب داروين «أصل الأنواع» بأكثر من 300 سنة، وقد أسماه «تاريخ طبيعة الطيور» ولم يكن في ذهنه شيء عن معنى التطور، ولكن كتابه هذا، برسومه ومقارناته بين الصور، أوحى فكرة التطور وحفز على بحثها، ونحن ننقل منه رسمين أحدهما معظم «أي الهيكل العظمي» إنسان والثاني معظم طائر وقد قابل بين الرسمين عظمة لعظمة كي يوضح أن المبنى العظمي في الإنسان لا يختلف كثيرا عن المبنى العظمي في الطائر، والحق أن المتأمل يعجب من التقابل، ولولا المنقار البارز لأنكر أنه ينظر إلى معظم طائر إزاء معظم إنسان.
وربما كان أول من لمح التطور هو «بوفون» الذي بحث هذا الموضوع، وهو على وعي؛ أي: وجدان، بقيمة النظرية في منتصف القرن الثامن عشر، فإنه عرف الأحافير؛ أي: الأحياء المنقرضة التي بقيت متحجراتها في القشرة الأرضية، فذكر أحافير النبات والفحم وأحافير السمك في الإردواز، وكتب في 1778 مقالا جاء فيه:
إن الحمار ينتمي إلى الجواد ولا يختلف منه إلا في التعديلات ... وإن الإنسان والقرد يعودان إلى أرومة واحدة مثل الجواد والحمار، وإن كل عائلة، سواء من النبات أم الحيوان، قد اشتقت من أصل عام، بل إن جميع الأحياء قد نبعت من نوع واحد مفرد، وهذا النوع، بمرور العصور، قد أعقب جميع السلالات المعروفة الآن.
وهذه الكلمات تدل على أنه كان «يؤمن» بنظرية التطور، ولكنه كان «يؤمن» فقط إذ إنه لم يستطع التعليل العلمي لتطور الأحياء ولذلك لا تعزى إليه النظرية.
وربما كان أعظم ما فتح الأذهان إلى النظرية أن لينيوس السويدي عمد إلى ترتيب النباتات لغويا، بحيث نستطيع أن نعين الاسم لنبات نجهله، وكان بتحري المشابهة والتناظر بين النباتات، ومع أن غايته كانت لغوية فإنه نص على أننا حين نسمي نباتا يجب ألا نخرج عن القرابة القائمة بينه وبين نبات آخر في التكوين النباتي.
ومع أنه لم يفكر بتاتا في التطور، ومع أنه كان يعتقد أن الأحياء النباتية مخلوقة كما هي وعلى ثبات لا يتغير، فإن ترتيبه اللغوي أدى إلى ترتيب ذهني، فبسط بذلك الميدان للتفكير التطوري ليس في النبات فقط بل في الحيوان أيضا.
وقد مات لينيوس عام 1778.
قلنا: إن بوفون قد لمح التطور، وإن لينيوس بسط الميدان بترتيبه اللغوي لأسماء النباتات، وبعد ذلك جاء لامارك الذي أعده أنا أعظم من داروين من حيث إصابته في تعليل التطور بأنه يعود إلى العادات التي يتعودها الحي؛ نباتا أم حيوانا، من تغير الوسط ومن مرانته على أن يلاءم بين أعضائه وبين هذا التغير، ثم توارث الأبناء لهذه التغييرات، وكتاب لامارك «فلسفة العلوم الحيوانية» أخرجه عام 1809؛ أي: قبل كتاب داروين بخمسين سنة تماما.
ثم جاء داروين وأخرج كتابه «أصل الأنواع» في 1859 ولم ينكر فيه أن الوسط يغير الحي، ولكنه لم يعتمد كثيرا على هذا العامل؛ إذ هو اعتمد على عوامل أخرى في التطور، هي: (1)
أن الأحياء؛ نباتا وحيوانا، تكثر بالتناسل بحيث لا تجد الغذاء الكافي لها جميعا، وعندئذ: (2)
يحدث «تنازع البقاء»؛ أي: أن الحي ينازع الحي الآخر على الطعام، والبقاء للغالب الذي يقتل غريمه، وهو يغلبه لأنه قد حصل على: (3)
ميزات وراثية على غريمه هيأت له النصر، ولكننا لا نعرف كيف نشأت هذه الميزات. (4)
هذه الميزات تتوارث، وعندئذ تتغير الأعقاب عن الأسلاف. (5)
التغير ينشأ بسيطا كما نرى في السلالات التي أحدثناها نحن في الكلاب مثلا؛ إذ إن عندنا منها 185 سلالة. (6)
إذا طال الزمن صارت السلالات أنواعا مستقلة حتى إنه لا يخصب بينها التلافح.
وأوجد داروين عبارة «تنازع البقاء»، وأوجد هربرت سبنسر كلمة «التطور»، وكلتاهما كانت أداة أو خميرة مخصبة للتفكير في القرن التاسع عشر وبداية هذا القرن، ونحن نعزو نظرية التطور إلى داروين؛ لأنه علل النظرية بتعليلات عديدة كثير منها مقنع.
ولكننا ما زلنا إلى الآن في مشكلة داروين ولامارك، وهي: هل التطور يحدث بتأثير البيئة التي تعلم الحيوان عادات كما يقول لامارك أم بعناصر وراثية نجهلها تحدث «تنازع البقاء» بين الأحياء التي ورثتها كما يقول داروين؟
الذي أعتقده أن التطور يحدث بتأثير البيئة، وأعنى بالبيئة هذا المناخ والغذاء وأسلوب العيش والأمراض والأعداء؛ لأن الحي يستجيب لكل هذه الأشياء بأن يتخذ عادات معينة في المقاومة والملائمة والرجوع والاستجابات، ثم تتكرر هذه العادات في أبنائه وأحفاده من الأجيال القادمة حتى تثبت وتصير وراثية لها أعضاء معينة تعين الوظائف. •••
وقد تأخرت فكرة التطور في الشرق والغرب معا بسبب الأديان التي نصت على قصة آدم وحواء كأنها الأصل الوحيد لظهور الإنسان، وأن من يقول بغير ذلك يعد كافرا.
ولكن القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كانا عصر النقد للأديان كما كانا عصر التسامح الذي انتهى إليه الأوروبيون وعملوا به بعد حروب دامية حطمت القيم الإنسانية وعممت البغض، ولكنها انتهت بإيثار التسامح على التعصب، وأن لكل إنسان الحق في أن يؤمن بما يشاء، فلم يعد أحد يخشى التفكير في أصل الكون أو الإنسان؛ لأن الدين يقول بنص أو رواية أو أمر يجب أن نصدقها ونطيعها.
وانتهت أوروبا، بفضل لامارك ثم داروين، إلى الإيمان بفكرة التطور، فكرة أولا، ثم عقيدة بعد ذلك وانتقلت من ميدان الأحياء في النبات والحيوان، إلى ميادين أخرى في الحضارة والاجتماع.
بل أخذت عقيدة التطور هنا مكان العقيدة الدينية وأصبحنا نفهم منها أن الأخلاق أيضا تتطور، وأن معاني الارتقاء هي أيضا معاني التطور، بل إن يعقوب صروف مؤسس المقتطف كان يسمي نظرية التطور: نظرية النشوء والارتقاء.
ومع أننا لا نستطيع أن نجزم بأن كل تطور هو ارتقاء فإن موكب الأحياء في الألف مليون سنة الماضية هو على وجه عام موكب الارتقاء من حياة الغيبوبة والغريزة في الخلية الأولى إلى حياة الوعي والعقل في الإنسان.
وقد تأخرت أقطار الشرق العربي في الأخذ بنظرية التطور وتأخرت بذلك ثقافتها، حتى إننا لا نجد إلى الآن كتابا عربيا مثلا في «تطور الأديان» أو «تطور المجتمع العربي» أو «تطور الأخلاق» ولا يمكن أن توجد مثل هذه المؤلفات المنيرة المبصرة إلا بعد أن تسلم الجماهير العربية المتعلمة بأن التطور عقيدة بل ديانة كما هو حقيقة، وهذا ما لم يتحقق إلى الآن للأسف.
ومن العجب، بل من المحزن أيضا، أن نجد الزنوج في إفريقيا الغربية يسمون أنفسهم «متطورين» إذا كانوا قد ارتقوا وأخذوا بأسلوب العيش والتفكير العصريين وانفصلوا من حياة الغابة والقبيلة التي كان يحياها آباؤهم.
هذا ما نجد بين الزنوج في إفريقيا الغربية، ولكننا لا نجد في الأقطار العربية إلى الآن «متطورين»، ولست أقصد بذلك أننا ما زلنا بعيدين عن معنى النهضة، ولكني أقصد إلى أن مغزى التطور قد فهم في إفريقيا الغربية ولم يفهم في الأقطار العربية.
ومعنى التطور هدم وبناء.
هدم لتقاليد الماضي وبناء لتقاليد المستقبل.
إن الفرخ لا يخرج من البيضة إلا بعد أن يكسرها، والبذرة لا تنمو شجرة باسقة إلا بعد أن تتفتت وتنمحي.
ودعاة التقاليد يدعون في الحقيقة إلى الجمود حتى تبقى البيضة بلا كسر والبذرة بلا تفتت، ويقابل هؤلاء دعاة التطور حيث التحرر من التقاليد والأخذ بأسلوب العيش والتفكير العصريين.
إن التقاليد تعوق التطور، والاستعمار يأكل ويشبع من الشعوب التي تجمدت بالتقاليد وسيطرت عليها الأديان التي تعلمها أن السعادة في عالم آخر وليست في هذا العالم، وأن العقيدة الدينية أهم من البترول.
والنظرة الموجزة لأقطار الشرق العربي توضح لنا كيف أن التفكير السائد يتجه نحو الماضي، وحسب القارئ، أن يذكر «الأدباء» الذين يؤلفون عن المشاكل الدينية وأشخاص التاريخ قبل ألف سنة ويعدون هذه الأبحاث أدبا أو «ثقافة» تنفع العرب.
إنها ثقافة بلا شك، ولكنها ليست الثقافة التي تحتاج إليها جماهير العرب التي تنشد القوة في المستقبل.
إن برنارد شو يتحدث عن «شهوة التطور»، وهو ينصح بتنقيح الدين مرة على الأقل كل سنة.
أي أنه يجد في الدين قواعد وسلوكا للحياة وليس قواعد وسلوكا للعالم الآخر، فيجب أن تتغير هذه القواعد وفق التطورات الاجتماعية والاقتصادية.
فعلى أبناء الشعوب العربية أن يجعلوا من التطور عقيدة بل عقيدة دينية إذا كفر بها إنسان فإنه لن يعاقب على كفره بجهنم بعد الموت، ولكنه يعاقب بالموت أو الفقر والذل وهو حي في هذا العالم.
ولو كانت لي السيطرة على الأقطار العربية لقررت ترجمة مئة كتاب عن تطور الأحياء والأخلاق والمجتمعات والأديان والصناعات والاقتصاديات ونحوها حتى يتغير العرب وحتى يأخذوا بالابتكار والاختراع والقوة والثراء بدلا من أن يلتزموا تقاليدهم ويبيعوا بترولهم بأبخس الأثمان مع أنه وقود الصناعة التي كان يمكن أن ترفعهم إلى أرقى مكانة بين الشعوب المتمدنة.
داروين والتفكير الجديد
«أنت لا تعني إلا بالصيد والكلاب، وإمساك الجرذان، وسوف تكون عارا على نفسك وعلى عائلتك».
هذه هي الكلمات التي تلقاها داروين من أبيه في وقت كان يلوح لأي إنسان يتأمل داروين أنها صحيحة، وأن هذا الشاب قد خاب الخيبة التامة، فقد تسكع في دراسات مختلفة، ولكنه لم يستقر على واحدة منها، فقد التحق بكلية الدين ثم تركها، والتحق بكلية الطب ثم تركها، وفي غضون ذلك كان يلعب، أو على الأقل كان يبدو كأنه يلعب، يخرج إلى الحقول ويجمع النباتات، ويصيد الحشرات ويقارن بين النباتات، ويفكر تفكيرا سريا كأنه يتآمر على الكون كله، كي يغيره أو يغير البصيرة البشرية فيه.
والآن بعد أكثر من مئة سنة من هذه الكلمات القاسية التي قالها أبوه عنه لا يعد داروين عارا على عائلته بل هو فخر أمته يتباهى به التاريخ الإنجليزي، وبعد نحو خمسين سنة من هذا التوبيخ الأبوي تأمل داروين حياته الماضية، ومبلغ ما أتمه من الخدمة في التوجيه.
مني للعالم فقال: «أظن أن أبي قد قسا علي بعض القسوة».
ومات داروين في عام 1882 بعد كفاح ثقافي طويل، ونحن الآن بعد وفاته بأكثر من خمسين سنة، نستطيع أن نقول: إنه أكسبنا فهما جديدا للطبيعة والكون والإنسان، وزودنا بمنهج للتفكير لم نكن نعرفه من قبل، فإن كتابه «أصل الأنواع» الذي أخرجه في عام 1859 حمل إلى القراء شيئين: أولهما معارف تكاد تكون حقائق عن أصل الأنواع في الحيوان والنبات، وأنها جميعها ترجع إلى أصل واحد أو أصول قليلة، وثانيهما منهج للدراسة هو أن الاستقرار لا يعرف في الطبيعة، أو الإنسان والحيوان والنبات في تغير مستمر.
ونحن الآن لا نبالي الحقائق أو المعارف التي شرحها داروين، ولكننا قد اتجهنا الوجهة التي عينها لنا، فنحن نفكر في التطور، ونفكر متطورين، وأصبح التطور حقيقة علمية نقيسها بالمليمتر والميلجرام في الحيوان والنبات، كما أصبح أيضا مذهبا دينيا، أو مبدأ أخلاقيا عند المثقفين، وانفسح به التاريخ البشري آفاقا إلى ملايين السنين، بل مئات الملايين خلف البشر وبعد البشر.
لقد قيل: إن جاليل حط الإنسان من عليائه، حين أعلن أن الأرض ليست مركز الكون، وأنها كوكب صغير يدور حول الشمس، ولعل الشمس أيضا نجم صغير لا يختلف عن ملايين النجوم التي نراها كل ليلة في المساء، ولكن داروين رفع الإنسان إلى هذه العلياء من جديد، وأثبت أنه لم يكن عاليا فسقط، وإنما هو كان ساقطا يعيش على حضيض الطبيعة حيوانا كسائر الحيوانات والحشرات، ثم ارتفع، وبهذه الكرامة الجديدة انتقل من أسر القدر، وأحس أنه تاج التطور، وأن له الحق في تدبير هذا العالم، وفي تعيين السلالات القادمة، بل ماذا أقول في إيجاد الأنواع البشرية الجديدة.
ومع ذلك لا أعتقد أن داروين نفسه كان يقدر الطاقة الكامنة في نظريته، ولا ينتقص هذا من عظمته، فإن تفكيرنا الشخصي يسير بقوات اجتماعية، لا نكاد نبصر بها أو نتعمق أصولها، ذلك أننا نفكر بحوافز من العواطف التي نكتسبها من المجتمع، بما يفرضه علينا من القيم والأوزان، وما يرسمه لنا من المطامع والآمال، والمجتمع يطالبنا باستجابات مختلفة تستحيل في كياننا النفسي إلى عادات عاطفية لا نستطيع الخروج منها، فنفكر في منهج خاص هو ثمرة هذا التوجيه الاجتماعي الذي لا نحسه لأنه لا يرتفع إلى وجداننا وتعقلنا.
ولذلك نستطيع أن نقول: إن نظرية داروين وجدت الحافز الأول على التفكير فيها من المجتمع الذي عاش فيه داروين، ذلك أن داروين قضى من زهرة حياته إلى نضج الشباب وإيناع الكهولة فيما بين 1830 و1860، وكان عمره وقتئذ بين العشرين والخمسين، وكانت إنجلترا في تلك السنين ترقى وتزيد بالحركة الصناعية الجديدة، فالمصانع تحتشد بالعمال من الرجال والنساء والصبيان، والثروات تنمو، والمزاحمة على أقصاها، وإنجيل النجاح يدرس، ويعبد، والسياسة تخدم الاقتصاد وتضرب الأمم النائية وتؤسس الأسواق في المستعمرات وأصبحت إنجلترا سيدة البحار؛ لأنها احتاجت إلى أكبر أسطول يحمي مستعمراتها وأسواقها التي تباع فيها مصنوعاتها الفائضة.
وعاش داروين في تنازع البقاء هذا الذي لا يفتر في لنكشير وغيره من الأقاليم الصناعية في إنجلترا.
وفي تلك السنين أيضا قرأ كتابا أحبه وتعلق به؛ لأنه وجد في نفسه الاستجابة لنظرياته بما تكون له من عواطف أحدثها الوسط الصناعي الإنجليزي، هو كتاب القسيس مالتوس عن السكان، فإن هذا القسيس كان من المحافظين الإنجليز الذين يكرهون العامة، ولا يرون فيهم سوى غوغاء، فلما انفجرت الثورة الفرنسية واستولى بها الشعب على حقوق السادة من الملوك والعظماء ثم أعلن رجالها مبادئ الإخاء والمساواة والحرية، فكر مالتوس كثيرا بحافز من عواطفه المحافظة، فأخرج كتابه عن السكان، وكان المغزى الذي قصد إليه أن هذه الآمال في الإخاء والمساواة والحرية لن تتحقق؛ لأن الدنيا لا تكفي الناس الذين يتوالدون على نظام تضاعفي 2 و4 و8 و16 ... إلخ، ولكن المحصولات لا تنتج إلا على نظام حسابي 1 و2 و3 و4 و5 ... إلخ، فإذا عاش الناس بلا مرض أو حرب أو حرمان لم تكفهم المحصولات، وإذن فالمرض والحرب والحرمان رحمة بالناس أو ضرورة لهم، وتأمل داروين هذا الكتاب الذي ألفه مالتوس عن المجتمع البشري فتساءل: لم لا ينطبق هذا الكلام على المجتمع النباتي والحيواني في الطبيعة؟ فإن الطعام لا يكفي جميع الأحياء التي تتوالد أو تتكاثر بالألوف، فهي يجب كي تعيش أن يزاحم بعضها بعضا، فتكون الحرب بينها؛ أي: تنازع البقاء، كما في لنكشير ومصانعها تماما.
وفي 1831 أنفذت الحكومة البريطانية سفينة البيجل كي تطوف حول العالم وتسبر الأعماق وتدرس الشواطئ وتقيس الأبعاد، ولكن لماذا عمدت الحكومة البريطانية وحدها دون سائر الحكومات إلى الاهتمام بهذا الموضوع؟ ما هي العاطفة الحافزة إلى هذه الدراسة التي لم تفكر فيها ألمانيا أو روسيا أو إيطاليا.
العاطفة الحافزة اجتماعية أيضا، وذلك أن الحكومة البريطانية في تلك السنين كانت تخدم الصناعة البريطانية؛ لأن السياسة على الدوام تسير خلف الاقتصاد، وكانت أسواق العالم وقفا على المصنوعات الإنجليزية؛ لأن الحركة الصناعية الإنجليزية سبقت الحركات الأخرى في جميع الأمم، فمن هنا كان الاهتمام بالبحار والملاحة والأقطار النائية، ومن هنا أيضا كانت الفرصة لداروين في أن يلتحق بالسفينة «بيجل» كي يدرس الحيوان والنبات.
ولم يكن داروين جديدا في هذا البحث «أصل الأنواع» فإن لامارك الفرنسي سبقه إليه، وهو صاحب القول بأن عنق الزرافة قد طال؛ لأنها بالمرانة التي ورثت جيلا بعد الجيل قد اشرأبت وسعت للوصول إلى الغصون العليا في الأشجار، فكأن ما يكسبه الحيوان بجهده من صفات يورث جيلا بعد جيل، بل إن جد دارون قد بحث هذا الموضوع، فكانت النظرية «في الهواء» تحتاج إلى من يرتب أصولها وفروعها ويعلل مظاهرها.
كان داروين شابا في الثالثة والعشرين حين شرع في رحلته على البيجل، فلما وصل إلى أمريكا الجنوبية، وجد حيواناتها ونباتها يختلفان عما هما في القارات القديمة، ثم لما وصل إلى الجزر المنعزلة غرب أمريكا الجنوبية وجد أن انعزال الجزيرة يؤدي إلى انعزال الحيوان، فتكون له أشكاله التي ينفرد بها من الأشكال العامة على القارات.
وإلى هنا يكاد يتوهم القارئ أنه ليس هناك أي فضل لداروين في تعليل النظرية، فقد سبقه إليها جده كما سبقه إليها لامارك الفرنسي، ثم هناك الظروف الأخرى، مالتوس وقلة الإنتاج الغذائي إزاء تضاعف السكان، ثم تنازع البقاء وبقاء الأصلح وفناء الضعيف في المزاحمة العنيفة في لنكشير حيث الحركة الصناعية في عنفوانها.
ولكن لا! لأننا مع التسليم بأن الوسط الاجتماعي أو البيئة الثقافية في أوسع معانيها، حين تشمل المعيشة والاتجاه والعادات والعواطف، هي الحافز للتفكير، فإننا مع ذلك يجب ألا تغفل الشخصية؛ إذ لو لم يكن داروين ذكيا لما فكر في هذا الموضوع الخطير، ولما جعله هدفه في الحياة.
لقد قال داروين عن نفسه: «إن الحقائق تضطرني إلى الاعتراف بأن عقلي لم يخلق للتفكير».
وقد ظلم داروين نفسه بهذه الكلمات، ولكن الحقيقة أنه لم يعرف نفسه؛ لأن الواقع أنه لا يقول هذه الكلمات إلا رجل مفكر قد أسرف في التفكير وعني العناية الكبرى بغربلة الحقائق من المعارف، وعرف الصعوبة الكبرى في هذا الجهد، ولو أنه لم يكن يجهد لما قال هذه الكلمات؛ إذ إنها ما كانت لتخطر في باله.
الحقيقة الواضحة من حياة داروين أنه احترف التفكير، وأنه كان مريضا أو متمرضا في نفسه حزازة قديمة هي جرح الكرامة، هذا الجرح الذي أحدثه أبوه وغيره فيه كما نرى مثلا من وصف أبيه له بأنه سوف يكون عارا لعائلته، فقد كان لا ينام في الليل إلا بعد أرق الساعات وكان في هذه الساعات يفكر ويؤلف، فإذا جاء النهار كتب كلماته القليلة، ثم يبقى سائر نهاره مريضا، ومرضه هو هذا المرض النفسي الذي يخترعه النيوروزي ويعيش به ويستقر عليه، كأنه يقول: طلبتم مني النجاح والتفوق، وكيف أستطيع هذا وأنا مريض؟
مرض يصون الكرامة المجروحة «أنت عار لعائلتك» وفي الوقت نفسه يهيئ الفرصة للتفكير في حضانة ليلية يسميها الأصحاء أرقا، ولو أن داروين نجح وصار قسيسا أو طبيبا كما كان يشتهي أبوه لكسب العالم قسيسا أو طبيبا يمارس حرفته ويكسب منها، ولكن العالم كان يخسر عندئذ هذه العبقرية المريضة التي زعزعت الثقافة من أساسها، بل زلزلتها وعينت أهدافا جديدة للإنسان.
كان داروين يكرر كلمة مألوفة بين أصدقائه هي «معدتي الملعونة» والترجمة السيكلوجية لهذه الكلمة هي: أريد أن أقعد وأتكاسل وأفكر ولا يساعدني على هذه الحال إلا معدة ملعونة تزكيني وتسوغ لي الكسل والتفكير والتأليف.
وهذا الكسل من أعجب صفات داروين، وهو صفة المريض النيوروزي الذي يكره النشاط ويرفض المعالجة لأي عمل؛ لأنه يخشى النقص؛ أي: لأنه يخشى أن يقصر عن التمام، فقد بقي داروين نحو ثلاثين سنة وهو يفكر في التطور، ولكنه لا يخرج كتابه عنه ولا يكتب مقالا، ثم حدث حادث أزعجه فانتفض منه، هو أن وولاس كان في بعض الجزر التي تقع في الجنوب الشرقي من آسيا يجمع الأزهار والحشرات ويحنطها ويبعث بها إلى الجمعيات العلمية، وكان مشغولا بالموضوع نفسه؛ أي: التطور، وكان يعرف أن داروين مشغول به أيضا فأرسل إليه رسالة علمية يشرح فيها رأيه في هذا الموضوع، وصعق داروين إذ وجد أن وولاس قد سبقه إلى تعليل التطور بأن الطعام قليل في الطبيعة، وأن التوالد كثير بين أنواع الحيوان والنبات، فلا بد أن يكون هناك تزاحم؛ أي: مسابقة من أجل الطعام، وفي هذا التزاحم أو المسابقة لا يبقى غير الأقوى الأصلح للبقاء.
وسارع داروين إلى إبلاغ الهيئات العلمية في إنجلترا عن رسالة وولاس، وشرع هو أيضا يؤلف كتابه «أصل الأنواع»، ونستطيع أن نتخيل داروين في حزنه ونزاهته معا، ولكن وولاس بعد ذلك بسنين اعترف بأن العالم كسب ولم يخسر بتزعم داروين لهذه النظرية؛ لأنه كان أوفى منه معرفة وأنصع بيانا وأدق منطقا.
وأخرج داروين كتابه «أصل الأنواع» في 1859 فتغيرت الرؤية والرؤيا البشريتان.
وكثير من النظريات التي غيرت التفكير البشري تبدو غاية في السهولة والبساطة، حتى ليتساءل الناس: كيف جهل السالفون هذه النظرية على وضوحها؟
فإن داروين يتحدث عن الحمام والكلاب وغيرها مما يربيه الناس وكيف استطاعوا أن يخلقوا العشرات والمئات من السلالات الجديدة، وما استطاعه الإنسان في مئات السنين القليلة قد استطاعته، وأكثر منه الطبيعة في ملايين السنين الماضية، حتى أخرجت الأنواع فضلا عن السلالات، فهناك في الغابات والبحار والجبال والسهول إنتاج محدود من الطعام، ولكن هناك توالد يتضاعف بين الحيوان والنبات ولا يمكن أن يكفي الطعام هذه الملايين بل ملايين الملايين من النبات والطعام، فلا بد إذن من أن تتنازع الأفراد لأجل البقاء؛ أي: لأجل الحصول على الطعام، وقد يكون السبب للتفوق في هذا التنازع ثم البقاء خفيا، هو كما في النفس الأخير في صراع يدوم الساعات، أو في القدرة على الجوع أو العطش، أو في طرق الحماية للنسل، أو في القدرة على التطفل، أو في الجرأة والبطش.
وما دام كل فرد يولد مختلفا عن الآخر في الحيوان والنبات، فإن هذا الاختلاف ينطوي بلا شك على ميزة أو عجز، فهو يساعد في الحال الأولى على البقاء والانتصار في معركة الحياة، وهو يهيئ له الهزيمة في الحال الثانية، ولا نعرف الأسباب لهذا الاختلاف، ولكننا نشاهده ونعلم به، ولذلك لا بد أن يستمر التغيير جيلا بعد جيل، فإذا تراكمت التغيرات أحدثت السلالات الجديدة، وإذا زاد الاختلاف بين السلالات ظهرت الأنواع الجديدة.
وعلى هذا يجب أن نسلم بأن الأحياء؛ نباتا وحيوانا، ليس الآن كما كانت قبل مليون أو مئة مليون سنة؛ لأنها دائمة التغير والتطور، وليس الاستقرار والثبات طبيعة الأحياء؛ لأن التغير والتطور هما طبيعتها، ونستطيع أن نستنتج أنه ما دام لنا تاريخ ماض في التطور فسوف يكون لنا تاريخ قادم أيضا تتغير فيه الأحياء.
وهذا هو المغزى الخطير الذي انتهى إليه قراء داروين، وهو أن الحياة في بوتقة لم تتجمد قط، وأن البوتقة لا تزال تصهر وتخرج عناصرها ومركباتها، وهذا هو التوجيه الجديد الذي سدد داروين عقولنا إليه، ونحن في بداية هذا التوجيه الذي يخشى كثير منا مغزاه؛ لأنه يحمل في طياته مشروعات بشرية خطيرة.
لقد عالج داروين تطور الأحياء، وحاول تعليل التطور ونجح إلى حد ما في هذا التعليل، ولكنه لم ينجح كل النجاح، وذلك لأن عواطفه الاجتماعية التي اكتسبها من المزاحمة الصناعية التجارية في لنكشير، ومن كفاح الإمبراطورية لخطف الأسواق، وإذلال الأمم، هذه العواطف هي التي حملته على أن يكبر من شأن التنازع، تنازع البقاء، وحال بينه وبين رؤية التعاون في الطبيعة؛ لأن الواقع أن البقاء عن طريق التعاون بين الحيوان والنبات أكبر وأوسع من البقاء عن طريق التنازع.
ونحن نعرف الآن كثيرا؛ أي: أكثر مما كان يعرف داروين، ولكن لداروين فضل التوجيه وتعيين الخطط للبحث، وأنه زودنا برؤية بشرية جديدة، فقد نقلت نظرية التطور من الأحياء في الطبيعة إلى الناس في المجتمع، وصار من المألوف أن نجد دراسات منظمة عن الأخلاق والأديان وفق النظرية التطورية ما كنا لنراها لولا داروين.
وانبسطت للبشر آمال في المستقبل، وتغير معنى الارتقاء البشري؛ لأننا نقلنا هذا المعني من وسط الإنسان إلى الإنسان نفسه، بل أصبح التطور فنا نمارسه في إيجاد سلالات جديدة من القطن أو القمح أو الفاكهة وقد اجترأ هتلر وأعوانه على أن يفكروا في سلالات بشرية جديدة.
البيئة تغير الأحياء
لم يكن داروين أول من دعا إلى مذهب أو نظرية التطور؛ فقد سبقه إلى ذلك «لامارك» و«بوفون» وهما فرنسيان من رجال النهضة الثانية أو الاشتعال الذهني الثاني في أوروبا.
والاشتعال الذهني الأول هو ما يسمى النهضة الأوروبية فيما بين عامي 1450 و1550 ومعظم رجاله من الإيطاليين، وإليهم ينتمي من جاء في أعقابهم «بيكون» الإنكليزي، و«ديكارت» الفرنسي.
ولكن هناك اشتغالا ذهنيا ثانيا سطح نوره في جميع أرجاء أوروبا هو النهضة الفرنسية التي بدأت بفولتير وروسو وديدرو وانتهت بالثورة الكبرى.
وكان لامارك وبوفون من العلميين الذين حرروا أذهانهم ورفض هؤلاء العلميين قصة الخلق كما روتها التوراة وعمدوا إلى استقراء الكائنات، وكانت ثمرة تفكيرهم أن الأحياء تطورت من أصل أو أصول قليلة، وأن أعظم العوامل لهذا التطور - بل يكاد يكون العامل الوحيد - أن الحي الذي يعيش في بيئة تطالبه بعادات معينة تقتضيه جهدا، يورث هذه العادات أبناءه رويدا رويدا وجيلا بعد جيل إلى أن يظهر جيل ثبتت فيه العادة وصارت جزءا من كيانه الفسيولوجي - كالزرافة تعتاد مد العنق إلى الغصون العالية أو الأعشاب البعيدة على الأرض فتنشط العضلات ويطول العنق بالمجهود الفردي - ثم تتوالى هذه العادة جيلا بعد جيل فإذا بنا نصل بعد إلى جيل قد تطورت فيه الأعناق فطالت.
أو اعتبر الجمل، فقد اعتادت أسلافه أن تبرك ويتصادم جلدها بالحصى الجارحة، وكما يحدث لنا أن يؤدي ضيق الحذاء إلى تقسية الجلد كذلك أدت الحصى إلى تقسية الجلد في مواضع اللمس للحصى، ثم انتهت هذه العادة بأن صارت وراثية ينشأ بها صغار الجمال ولها ثفنات خشنة.
وكان هذا التعليل كافيا للتسليم بصحة التطور، ولكن أوروبا لم تكن قد وصلت إلى نقطة الإيمان بهذه النظرية، وقد كان جد داروين «أرازموس داروين» يعتمد على وراثة العادات، ولكن جاء حفيده تشارلز داروين فأخرج كتابه «أصل الأنواع» في عام 1859 واستعرض فيه شأن العادات أو كما كان يقال وقتئذ «الصفات المكتسبة»، وجعل جل اعتماده على تنازع البقاء والانتخاب الجنسي.
وكان منطق داروين واضحا يجذب بل يفتن العقل، فقد ضرب مثلا بالحيوانات المدجنة كالحمام والأرانب والكلاب، وقال: إننا ندجنها؛ أي: نجعلها دواجن ونختار تلك الصفات التي نريد استبقاءها ونشرها فنقصر التناسل على الأفراد التي امتازت بها، ونحن نرى مئات من السلالات التي أوجدناها في الدواجن نرى صفة ما فنستلقح أفرادها حتى تكثر هذه الصفة، وفي الوقت نفسه نستبعد غيرها مما لم تحز هذه الصفة فتنقرض.
وما يحدث بين الدواجن المستأنسة يحدث أيضا في حيوان الغابة ونباتها المتوحشين؛ أي: تظهر صفة جديدة لا نعرف سبب ظهورها، فإذا كانت تعين على البقاء؛ لأنها تزيد الملائمة، بقيت وتفشت، وإذا كانت تضر صاحبها مات هو وانقرض.
كان هذا جل اعتماد داروين في تعليل التطور، ولكنه أيضا التفت إلى ما يسمى «الانتخاب الجنسي» عازيا إلى الحيوان اختيارا فنيا في الجمال والذوق، والتفت قليلا جدا، إلى ما أشرنا إليه وهو العادات والصفات المكتسبة، فقال: إنها تورث ولكن بعد أجيال عديدة، حتى لا نستطيع أن نعتمد على أثرها في التغير والتطور.
وانتشرت نظرية التطور في أوروبا وأصبحت كلمة التطور ترادف كلمة «الداروينية» منذ عام 1859، حتى إذا كانت سنة 1885؛ أي: بعد ثلاث سنوات من وفاة داروين أخرج «فايسمان» البيولوجي الألماني كتابه المعنون ب«نظرية استمرار المادة الوراثية». •••
وفشت هذه النظرية كما لو كانت عقيدة ووقفت البحث نحو أربعين أو خمسين سنة في وراثة الصفات المكتسبة، وأحالت الوراثة إلى ما يشبه الحظ أو القدر الأعمى، فكانت بمثابة الجبرية العلمية، نحن والحيوان نولد وبنا كفايات للكفاح والبقاء أو للموت والانقراض، ومهما جهد آباؤنا ومهما نالوا من كفايات في حياتهم فلن نستطيع الانتفاع بهذه الكفايات؛ لأن طفل الحيوان يولد من الخلية المنوية، وهذه الخلية تعيش حياة مستقلة عن الجسم، جسم الطفل ثم الصبي ثم الشاب ثم الشيخ، وهي تظهر منذ أول التكوين للجنين؛ إذ نجد خليتين إحداهما تلك التي ينمو بها الجسم الحيواني والإنساني والأخرى تلك التي تتخصص للتناسل، وهذه تبقى خادرة كأنها نائمة إلى سن الشباب إلى حين تشرع في التكاثر وتؤدي إلى التناسل، وما يحدث للجسم إذا من ضعف أو جهد أو قطع ذراع أو أي عادات يعتادها الحيوان أو الإنسان، كل هذا لا يؤثر في الخلية المنوية؛ لأنها إنما تقطن الجسم فقط وتتغذى بالدم الذي يجري فيها ولكنها لا تتأثر به.
وإذا مهما يعيش الإنسان في وسط سيئ ومهما يكتسب في هذا الوسط السيئ من عادات مؤذية قد تحيله إلى مجرم أو وحش فإن أبناءه سيخرجون وهم غير متأثرين بحياة الشر والإجرام التي عاشها.
وهذا هو عكس ما كان يفهمه «لامارك» وسائر التطور بين الفرنسيين؛ إذ كانوا يقولون بأن العادات التي تعودها الحيوان والبراعة التي كسبها في حياته تنتقل رويدا رويدا إلى أعقابه؛ أي: أنها تبدأ وظيفية ولكنها تنتهي عضوية؛ كالزرافة تمد عنقها كي تنال الغصون العليا أو الأعشاب البعيدة عن الأرض، فلا تزال هي وأعقابها يفعلن ذلك بضع مئات أو عشرات المئات من السنين حتى تنتقل الوظيفة «مد العنق» إلى العضو «العنق الطويل».
وقد استفظع الأدباء والفلاسفة هذا المذهب، مذهب داروين، فحملوا عليه، وكان أولهم صموئيل بطلر، وكان أعظم من برنارد شو، وذلك لأن لهذا المذهب زاوية اجتماعية هي أنه مهما نشرنا من تعاليم وتربية فلن تتأثر الأجيال القادمة، فكأن في القول باستقلال الخلية التناسلية تبريرا لأي عسف يقع بالجيل الحاضر بل لإهمال هذا الجيل من ناحية تثقيفية أو تمدنية.
كان هذا موقف الأدباء والفلاسفة، أما العلميون فقد استسلموا عند الصدمة الأولى لفايسمان، وقالوا: هذه نظرية قد قامت على التجربة فيجب أن نسلم بها وننتظر تجارب أخرى تنقضها، إلا هربرت سبنسر الذي صرح بأنه ليس هناك ما يعلل التطور غير العادات المكتسبة، والتجارب في الوراثة تقتضي انتظار مئات الأجيال المتعاقبة.
ولكن المشاهدة تقوم مقام التجربة، ولذلك شرع العلميون يستقرئون النبات والحيوان في أوساطها الطبيعية كي يعرفوا إذا كانت العادات الجديدة التي يكتسبها كي يلائم بين كفاياته وبين وسطه تورث أم لا؟
وإنما قلنا: «أوساطهما الطبيعية» لأن داروين أسرف في الالتفات إلى الأوساط غير الطبيعية التي نحدثها نحن للدواجن، فقد رأى أن الدواجن كالحمام والدجاج والخراف والماشية بل حتى الإخوة تختلف، ولا نستطيع تعليل هذا الاختلاف، ولكننا نفرض حدوثه في الغابة وفي السهل والجبل والبحر والنهر، ونقول: إن هذا الاختلاف قد يعمل لبقاء القرد أو لفنائه، ومن هنا تنازع البقاء ثم التطور بتجمع صفات ناجحة نافعة لبعض الأفراد وبجعلها تعيش وتتناسل فتكون السلالة الجديدة بعد ذلك النوع الجديد.
ولكن اتضح لهؤلاء الباحثين أن ما يحدث للدواجن لا يحدث للأوابد؛ أي: لتلك الأحياء المتوحشة التي تعيش في الغابات ... إلخ.
وذلك لأن التدجين، بما فيه من حياة غير طبيعية، يفسد الحي نباتا كان أو حيوانا، وهذا الإفساد هو بمثابة المرض الذي لو نشأ مثله بين الأوابد لماتت؛ لأن هذه التغييرات الكثيرة في أفراد الدواجن إنما هي استجابة الحيوان لغذاء سيئ أو لحبس يمنع الحركة، أو هي استجابة النبات لسماد كثير، وفي الطبيعة لا تحدث هذه الاختلافات والتغيرات الكثيرة، ولو حدثت لأبادت الأحياء؛ إذ هي ضد مصلحتها وبقائها.
ونحن الآن على مسافة تزيد على ستين سنة من نظرية فايسمان، ولذلك نستطيع أن ننقدها، وأحسن الناقدين لها في تطور الحيوان هو الأستاذ فريدريك وود جونز، فإن كتابة «العادة والوراثة» هو الرد الحاسم على فايسمان، وهو أيضا إحياء لنظرية «لامارك»؛ أي : تعليل التطور بأن الأبناء يرثون عادات الآباء أو بكلمة أخرى أن الصفات المكتسبة تورث.
وأول ما يلتفت إليه وود جونز أن الخلايا التناسلية التي يزعم فايسمان أنها مستقلة تؤثر في الحي نموا وشكلا كما نرى مثلا في الخصيان الذين لا تنمو لحاهم وشواربهم بعد قطع خصاهم، وكذلك يتغير النمو في بعض أعضائهم، وهذا لأن قطع الخصيتين يحرم الجسم من هورموناتهما فلا ينمو النمو السوي.
فإذا نحن سلمنا بأن الجسم يتأثر بالخلايا المنوية، فلم لا تتأثر الخلايا المنوية بالجسم؟
ثم يجب أن نعود إلى الخلايا البدائية مثل الأميبة، فإننا نجد هنا أن الأميبة هي جسم تندغم فيه الوراثة مع النمو؛ لأنها هي خلية واحدة فما يؤثر في النمو يؤثر أيضا في الوراثة، بل إننا نستطيع أحيانا أن نعالج الخلية البكتيرية التي تحدث مرضا ما بحيث نستنتج منها سلالة تنقسم وتتكاثر، وهي خلو من القدرة على إيجاد المرض، وهذا مألوف في العالم البكتريولوجي.
ومعنى هذا أن الصفات المكتسبة تورث في الأحياء التي يتألف كل فرد منها من خلية واحدة.
ثم نحن نعرف أن التكاثر ممكن أن يحدث في النبات الذي يمتاز ببذور مثل اللبخ، وذلك بأن نزرع أجزاء من سيقانها التي تنمو كما لو كانت قد نمت من البذور ... ومعنى هذا الاستقلال المزعوم بين جسم الحي وبين الخلية اللغوية غير صحيح؛ لأن الجسم يؤدي عمل الخلية المنوية في الوراثة.
وهناك مثلا البيجونيا التي يمكن أن نزرع أوراقها فتنمو كما لو كانت بذورا، والبيجونيا نبات مزهر؛ أي: أن لها بذورا؛ أي: خلايا تجمع العناصر الوراثية، ونحن نزرع «الككتوس»
Cocrus
أي: التين الشوكي من السيقان وليس من البذور، والألواح في الككتوس هي السيقان، والإبرهي الأوراق.
وهناك أيضا حيوانات غير الأميبة، مؤلفة من أجسام كبيرة تحمل خلايا جنسية مثل الحيوان «الهيدرا»
Hydra
فإن التكاثر يمكن أن يتم فيها على طريقة التكاثر في اللبخ والبيجونيا؛ أي: أننا نقطع جزءا صغيرا من لحمها فينمو إلى الحيوان الكامل كما لو كان قد نشأ من الجراثيم المنوية.
ومعنى هذه الأمثلة: الأميبة والهيدرا واللبخ والككتوس، أن العناصر الوراثية ليست محصورة في خلايا وراثية مستقلة بل إنها تنتشر في جسم الحي كله، ولذلك يجب أن نستنتج أنه إذا تعود الحيوان أو النبات من هذه الأربعة التي ذكرناها وهي تمثل عشرات الألوف من الأحياء؛ إذا تعود عادات استجاب لها لتغيير غذائي أو جوي، فإن هذه العادات التي ستغير جسمه ستغير أيضا سلالته؛ لأن سلالته هي بعض جسمه قد نمت من الورقة أو الساق في النبات أو من خلايا الجسم في الحيوان.
وهناك نرى بكل وضوح أن الانفصال المزعوم بين الخلية الجسمية والخلية الوراثية غير صحيح - وأن الاثنتين تندمجان في أحياء كثيرة - بل هناك أكثر من هذا وأبرز في الدلالة، فإن ماتيسين العالم الروسي نشر كتابا في كياف سنة 1901 قال فيه: إنه استطاع أن ينزع مبيض الأرنبة، ثم نما مبيضان آخران مكانهما، ثم قام بذلك العالمان الأمريكيان كاسيل وفيليبس بنزع المبيض في الأرانب أيضا فعادا إلى النمو وصح الحمل الذي تكون من مبيضين جديدين، وفي سنة 1925 أثبت دافنبور ذلك أيضا في الفئران.
أي أن الأرانب والفئران مثل الهيدرا والأميية والبيجونيا واللبخ تتناسل عن طريق النمو من خلال الجسم، وإن كانت الحال في الأرانب والفئران تقتضي نمو المبيضين من جديد.
بل إن وود جونز يذكر أن هناك عددا غير صغير من النساء قد نزع جزء كبير من مبايضهن مع بعض الأنابيب الفالوبية ثم استطعن بعد كل ذلك أن يحملن، ومعنى هذا أن الخلايا التناسلية قد تنشأ في الإنسان من خلايا الجسم غير التناسلية كما يحدث في الهيدرا والفأر، ولذلك نستنتج أن نظرية، أو بالأخرى عقيدة، فايسمان في انعزال الخلايا المنوية الوراثية أو استقلالها الفسيولوجي ليست صحيحة، وأن المبدأ عام في النبات والحيوان وهو أن الخلايا المختصة بالوراثة تنشأ من خلايا الجسم نفسها، ثم - وهذا هو ما تكبر قيمته الاجتماعية في الإنسان - إنه لقاء التأثير الذي تحدثه الخلايا المنوية في الإنسان، كذلك هناك تأثير آخر تحدثه خلايا الجسم في هذه الخلايا المنوية، وبكلمة أخرى، أن حياتنا وما نكابد فيها من رجوع واستجابات للوسط الذي نعيش فيه تعود فتؤثر في الخلايا الوراثية وتغير للخير أو للشر في أعقابنا؛ أي: أن الصفات المكتسبة تورث. •••
كل هذا الذي ذكرت هو مقدمة الموضوع، ولكن هذه المقدمة مع ذلك أطول من الموضوع، ففي النصف الأول من هذا القرن اسم رجل عظيم يدعى ميتشورين “Michurin”
يحتفل الروس بمرور مئة سنة على ميلاده، واسم ثان هو ليسنكو “Lissenico”
الذي لا يزال حيا يتلقى من الروس والصين وسائر الشعوب التي دخلت في نظام الاتحاد السوفيتي الاحترام والإكبار كما يتلقى السباب من كثير من «العلميين» في الأمم الغربية وخاصة بريطانيا والولايات المتحدة.
هذان الرجلان أرصدا حياتهما لشيء واحد هو أن ما يقال عن الوراثة وجمودها بقانون مندل وبأن خلاياها خاصة مستقلة عن جسم الحيوان والنبات، وبأن الصفات المكتسبة أو العادات المتكررة في حياة الفرد لا تورث؛ هذا القول هراء لا أصل له في الطبيعة.
وتجارب هذين العالمين في النبات فقط وليست في الحيوان، ولكن ليس هناك أدنى فرق في العوامل الوراثية بين النبات والحيوان.
وما هي تجاربهما؟
أستطيع أن أحصرها في مبدأين:
الأول:
تربية النبات على عادات جديدة في غذائه ونموه وهوائه وتربيته، وهذه العادات ترثها أعقابه فيحدث التغيير بظهور سلالات جديدة.
والثاني:
زعزعة الوراثة المنينة في النبات بشيء من التهجين حتى يستطيع التخلص من الروابط أو القيود الوراثية السابقة وينطلق في الأخذ بالبيئة الجديدة.
ولنبدأ بالمبدأ الثاني قبل الأول.
عوامل الوراثة قوية، فإذا شئنا أن ننزعها حتى يتقبل الحي؛ حيوانا كان أم نباتا، وسطا جديدا ويأخذ بعاداته البيولوجيا الحيوية فإننا نعمد إلى تهجينه، كأن نطعم النبات بفرع من النبات الآخر، هذا الفرع يتغذى من الأم التي تختلف عن أمه الوراثية فتتزعزع كفاءته الوراثية ويعود خضوعه للوسط الجديد أكبر وأعمق مما لو كان سليما خالصا في وراثته.
وعندئذ، وهنا المبدأ الأول، نأخذ هذا الفرع الذي تربى على أم أخرى غير أمه، أو نأخذ البذور التي نشأت عليه فتزرعها؛ نزرع البذور أو الغصون التي نشأت ونمت على الغصن الذي طعمنا به الشجرة ثم نربيه، نربي البذور أو الغصن وذلك بأن ننقله من وسطه الأول أو وطنه الأول الذي عاش فيه قرونا فنزرعه في مكان ينأى عنه بنحو ثلاث مئة كليو متر، وهذا المكان أدفأ أو أبرد أو أرطب أو أجف، وهنا يتعلم النبات حياة جديدة.
ثم نأخذ البذر أو الغصن الناتجين فنزرعهما في بيئة تبعد نحو مئة أو مئتي كيلو متر وهلم جرا.. وبعد مرور بضع سنوات نجد عندنا نباتا جديدا أو ثمرة جديدة لم يكن لها وجود من قبل.
وبهذه الطريقة استطاع ليسنكو الذي ورث هذا الفن عن ميتشورين أن يزرع القمح بالقرب من القطب الشمالي، وكذلك البرسيم والقنبيط والكرنب وعددا كبيرا من البقول والخضر.
واستطاع، وهنا موضع العجب، أن يتقدم بزراعة القطن المصري إلى مسافة 1500 كيلو متر نحو القطب الشمالي. •••
ودلالة هذا البحث الخطير أن الوسط الاجتماعي، الذي يشمل التعليم وتربية الأطفال ونظام الزواج والارتزاق والأخلاق والأمراض والطعام والسكنى؛ كل هذا يؤثر في عادات الفرد ويستنبط منه كفايات أو يقتل فيه كفايات، وقد كنا نحسب، بما زعمه فايسمان، أن كل هذا لن يؤثر في الأعقاب القادمة لأن الخلايا الوراثية مستقلة منعزلة في أجسامنا كما نعيش نحن في مساكننا، أما الآن فإننا مضطرون إلى التسليم بأن ما نكسبه من بيئاتنا يؤثر في أعقابنا؛ فإذا كنا مثلا نعيش في بيئة نتزاحم فيها ونتحاسد ويكافح بعضنا بعضا من أجل العيش فإن ما نحس به من عواطف كريهة في هذا التزاحم والتحاسد سوف ينتقل غرائز ثابتة في سلالتنا القادمة؛ لأن مجهودنا في هذا التزاحم هو الآن وظيفي ولكنه سيستحيل عضويا في سلائلنا القادمة، كما ابتدأ اشرئباب الزرافة إلى الغصون العليا وظيفة فقط ثم استحال عضوا في استطالة العنق، وهذا العنق لا يحتوى غير سبع فقرات، ولكنه استطال باللحم والعصب ... إلخ.
وعلى العكس، إذا كنا نعيش في بيئة تعاونية تطالبنا بالحب والرفق والتعاون وتستنبط منا أجمل الفضائل، فإن ما نمارسه عندئذ كوظيفة يستحيل بعد أجيال إلى غرائز عضوية؛ فيعيش أبناؤنا بعد آلاف السنين وهم يتعاملون بالحب والرفق والتعاون.
والصفات المكتسبة تورث ، ولذلك يجب أن نسأل: ما هي الصفات التي نكتسبها في مجتمعنا الحاضر؟ وهل نحب أن ترثها عنا الأجيال القادمة؟ ... أم نكره ذلك.
وإذا كنا نكره هذا الميراث فيجب أن لا نمارسه.
وقد وجد الاستعماريون من الأوروبيين أن نظرية فايسمان في الإكبار من شأن الوراثة والانتقاص من قدر البيئة مبررا لسيادتهم الإمبراطورية على الشعوب الشرقية؛ لأن هذه النظرية تفرض الكفاءة أو النقص البشري بعوامل وراثية تكاد تكون غيبية لا تفهم.
وإذن فرقي الأوروبيين ليس ناشئا عن بيئتهم الصناعية المدنية، وكذلك لا يرجع انحطاط الهنود، مثلا إلى بيئتهم الزراعية، وإنما يرجع الرقي هنا والانحطاط هناك لعوامل وراثية تشبه القضاء والقدر، ولذلك فليس هناك ضرورة لترقية الأحوال الاجتماعية عند الهنود؛ لأن انحطاطهم ليس بيئيا وإنما هو وراثي أساسي لا يعالج.
وأيا ما كان فهذا الإيمان الجديد بانتقال العادات والصفات المكتسبة من الأسلاف إلى الأعقاب قد نقلنا من جبرية الوراثة إلى حرية التوجيه والتدريب للنوع البشري بتعيين عادات التعليم وأساليب العيش ونظم المجتمع حتى تنتفع بها السلائل القادمة من البشر. •••
من داروين زعيم نظرية التطور إلى ميتشورين العالم النباتي الروسي الذي احتفلت المجامع العلمية أخيرا «1855» بمرور مئة سنة على ميلاده.
داروين اعتمد على حقيقة جوهرية نسلم بها جميعا وهي أن الأبناء يختلفون عن الآباء، وأن هذا الاختلاف إما فضيلة تعمل للبقاء، وإما رذيلة تعمل للفناء، في ميدان تنازع البقاء.
ثم جاء فايسمان فقال: إن العناصر الوراثية لا تتأثر بالأم؛ أي: بالجسم الذي تقيم فيه؛ إذ هي فيه بمثابة فرد يقيم في غرفة.
إذن لماذا يحدث التطور؟
لم يجب داروين عن هذا، ولم يجب فايسمان، لا، بل لقد أجاب فايسمان وإجابته هي هذه: هنا شيء سري خفي، لعله روح يختبئ داخل الخلايا الوراثية لا نراه ولا نعرف ماهيته.
وبكلمة أخرى كلاهما قال: لا أعرف.
والآن فهمنا وتعلمنا من ميتشورين أن البيئة هي التي تخلق السلالات الجديدة، ثم تتركز الصفات الجديدة في السلالة، وعندئذ تعود قوى جديدة منفصلة.
فهمنا من ميتشورين: لماذا تتطور الأحياء.
فهمنا كيف أن أنواعا من البقر الذي كان يمشي على اليابسة قد نزلت إلى البحر قبل نحو 30 أو 40 مليون عام فصارت تتدرب على السباحة حتى صارت أذرعها زعانف كما ترى في القياطس من العنبر إلى الدلفين، وكذلك الشأن في السلاحف بل إننا نعرف الآن حيوانات لا تزال تجمع بين اليابسة والبحر، وكل هذا تم بالتعود الذي يكتسبه الابن عن الأب.
إن الوسط يغيرنا ويطورنا، ونحن قادرون على خلق سلالات ثم أنواع جديدة من النبات والحيوان.
نشأة الكون وتطوره
عندما نتأمل السماء في ليلة صافية حالكة نجد مئات النجوم الباهرة وآلاف النجوم المثبتة كما لو كانت رملا أو ضبابا، وإذا كنا في الخلاء وجدنا هذا الرمل أو هذا الضباب على عرض كبير وعلى استطالة تبدو لنا كما لو كانت استدارة، نرى نصفها فقط من آفاق الجنوب إلى آفاق الشمال.
هذه المجموعة من النجوم تسمى المجرة، ويسميها الفلاحون عندنا «سكة التبانة» وما نراه فيها من نجوم إنما هو جزء صغير جدا مما تحتويه؛ إذ تبلغ نجومها مئة ألف مليون، وشمسنا إحدى هذه النجوم.
وفي الكون من المجرات نحو مئة ألف مليون مجرة.
والكون كله؛ أي: مجراته بشموسها وكواكبها، مؤلف من عناصر قليلة لا تكاد تزيد على مئة عنصر عرفنا منها 98 على أرضنا، أبسطها وأخفها هو الهيدروجين، وأعقدها وأثقلها هو الأورانيوم.
وليس في الأرض عناصر لا توجد في النجوم، كما ليس في النجوم عناصر لا توجد في الأرض، ويسهل علينا أن نعرف عناصر النجوم؛ إذ هي غازات تحلل أضواؤها بالموشور وتقف على العناصر المؤلفة منها، ولكن هذا لا يسهل بشأن الكواكب؛ إذ إن عناصرها ليست غازات ولكننا نعرف أن الكواكب مشتقة من النجوم «الشموس» فنوقن أن عناصرها هي عناصر الشموس.
وليس في شمسنا عنصر لا نعرفه على الأرض، وقد حدث أننا عرفنا غازا في الشمس أسميناه باسمها وهو هليوم «هيلو = شمس» ثم لم تمض سنوات حتى عرفناه في الأرض وصنعنا منه بلونات تطير؛ لأنه من أخف الغازات.
فالكون وحدة، هو بمثابة النجم الواحد قد ارفضت أجزاؤه فصارت ملايين النجوم والكواكب.
ما معني أن يكون جسم أثقل من جسم؟
ما معنى أن يكون عنصر أثقل من عنصر؟
إن الاتجاه العلمي في وقتنا ينحو نحو التوحيد فيقول: إن القوة المغناطيسية والقوة الكهربية والجاذبية والضوء والحرارة والكتلة كلها صور مختلفة للمادة.
والقوة هي المادة، والقوة وزن فقط.
فإذا كانت ساعتك فارغة ثم ملأتها كي تدق الثواني في 24 ساعة فهي أثقل عندما تكون مملوءة عما كانت عندما كانت فارغة؛ إذ هي تحتوى قوة.
ولا تستطيع أن تميز في الوزن بين ساعة مملوءة وساعة فارغة لضعف القوة التي أحدثناها بملء الساعة، ولكن يمكن أن نفهم أو نتصور معنى الثقل في الأورانيوم بأنه مضغوط مشدود كما لو كان فخا قد شد للاقتناص، في حين أن الهيدروجين غير مضغوط ولذلك الأول ثقيل والثاني خفيف.
والقنبلة الذرية تصنع من أثقل العناصر، من الأورانيوم، الفخ المضغوط، الساعة المملوءة، الذي ترفض كسارات ذراته في الفضاء، وينتج من ارفضاضها حرارة كبيرة جدا.
والقنبلة الهيدروجينية تصنع من أخف العناصر؛ أي: الهيدروجين، ولكن هذا العنصر لا يرفض وإنما يقتحم بأجزاء أخرى من الذرات فينشأ منه الهليوم الذي قلنا: إننا عرفناه في الشمس قبل أن نعرفه على الأرض، وفي أثناء الالتحام يفقد جزءا من الوزن فتنشأ حرارة كبيرة جدا، هي حرارة الشمس.
الشمس تتحول من الهيدروجين إلى الهليوم.
لماذا لا تحترق الأرض مثلما تحترق الشمس بالقنبلة الهيدروجينية؟
لأننا لا نحرق الهيدروجين بالذات وإنما نحرق مثالا قريبا منه. •••
الهيدروجين هو اللبنات التي بني منها الكون؛ أي: بنيت منه نجومه وكواكبه. وعناصر الكون والأرض في تطور تسير من البسيط إلى المركب.
من الهيدروجين الخفيف إلى الأورانيوم الثقيل.
قلنا: إن الكون قد بني من الهيدروجين؛ أي: أن هذا العنصر هو الذي صنع من اللبنات التي يحتاج إليها البناء، ولكن اللبنة هي شيء منظم، فماذا كان قبل هذا التنظيم؟
الذي نعرفه ويكاد يشبه اليقين أن أعضاء هذا الكون «أي 100 مليون مجرة، وكل مجرة تحتوى 100 مليون شمس مع كواكبها»، هذا الكون قد نشأ في لحظة واحدة، ولذلك جميع ما فيه من نجوم، على وجه عام، تستوي في أعمارها، بل كذلك أيضا جميع ما فيه من كواكب على وجه عام أيضا.
كان الكون كتلة واحدة قبل نحو خمسة آلاف مليون سنة فقط، ثم انفجرت هذه الكتلة فنشأت منها المجرات بشموسها وكواكبها.
ولا يزال الانفجار مندفعا لم يهدأ.
ما هو الكون؟
نحن نفهم أو بالأحرى نعتقد أنه نجوم وكواكب.
ولكن هذا خطأ؛ لأن الكون خواء، وهو أشبه بالكرة الأرضية قد صارت بلونا مثل البلون الذي يلعب به الأطفال، وهو خواء ليس في داخله غاز أو أي مادة أخرى، ولكن على سطحه المصنوع من الكاوتشوك الخفيف تدب مئات الألوف من ملايين النمل.
وهذا النمل هو المجرات التي تحتوى كل منها 100 ألف مليون نجم، وهي نفسها 100 مليون مجرة. •••
كيف نشأ الكون؟ أو بالأحرى كيف ينشأ الكون بنجومه وكواكبه ثم كيف يموت ويتبدد ثم كيف يعود فيتجمع وينفجر مرة أخرى نجوما وكواكب؟
يمكن أن نجيب على هذا السؤال في ضوء ما نجد الآن.
نحن نجد أن النجوم البعيدة تنأى عنا، وسيأتي يوما تختفي فيه فلا نراها.
ونحن نستنتج من اندفاعها في الفضاء بأن أرضنا وشمسنا ومجرتنا كلهن أيضا في مثل هذا الاندفاع.
نحن في تفرق، في تشتت، ولكن أعضاء مجرتنا يمسك بعضها بعضا بجاذبيتها كما لو كانت مشدودة بحبال، ولذلك تسير معا فلا نجد نجما يبتعد عن نجم ولا نحس أننا في اندفاع؛ أي: في انفجار؛ أي: في ارفضاض، منذ الانفجار الأول.
وهذه النجوم التي قلنا: إنها تنأى عنا ويحمر لونها ويضعف بعد التلألؤ والقوة ليست من مجرتنا وإنما هي من مجرات بعيدة موغلة في الفضاء.
وشمسنا في الفترة الحاضرة من تاريخ الكون هي في طور البناء، من الهيدروجين إلى الهليوم، ومن هنا حرارتها حرارة القنبلة الهيدروجينية.
ولكن سيأتي اليوم حين ينتهي الهيدروجين فيها، وعندئذ تتقلص الشمس.
القنبلة الذرية تمدد وارفضاض، والقنبلة الهيدروجينية تقلص والتحام.
والحرارة التي تحدث من التقلص أكبر كثيرا من الحرارة التي تحدث من التمدد ومن هذا التقلص ستنشأ العناصر الثقيلة التي تشع على الأرض جهنم من الحرارة فتحرقها.
ولكن إحراق الأرض لن يتم قبل نحو خمسين ألف مليون سنة، وربما أكثر، وعندئذ تتبدد الأرض ذرات في الفضاء.
لا، ليس ذرات، وإنما كسارات الذرات.
وما يحدث في شمسنا وأرضنا يحدث في جميع الشموس «النجوم» والكواكب، والأغلب أنه سيحدث في وقت متقارب.
وعندئذ يمتلئ الكون بكسارات الذرات فلا يكون فيه نجم أو كوكب.
وفي ألوف الملايين من السنين تتجمع كسارات الذرات بقوة الجاذبية؛ إذ هي مهما ضؤلت أجسام، وبتجمعها تتألف الذرات، ثم تتجمع الذرات كتلة هنا وهناك، والكتلة الكبيرة تجذب الكتلة الصغيرة.
ثم يعود الكون كله كتلة واحدة من الذرات.
ولكن هذه الكتلة لضخامتها «لا تطيق نفسها» إذ هي لا تتوازن، وحقولها المغناطيسية والكهربية تتفاوت، وهي في تقلصها تنتج قوة كبيرة جدا فتؤدي بها إلى الانفجار ... أي: أن هذه الكتلة الكونية تكون بمثابة عنصر الراديوم الذي لا يتماسك، ثم يزداد ضغط ذراته حتى ينفجر.
وقد حدث هذا الانفجار لكوننا الحاضر بمجراته وشموسه وكواكبه قبل خمسة آلاف مليون سنة. •••
إن لكل نجم، في الأغلب، كوكبا أو بضعة كواكب، فهل هناك أحياء من نبات وحيوان وإنسان على هذه الكواكب؟
الجواب: قطعا توجد نباتات وحيوانات بل قطعا يوجد بشر مثلنا ذلك أن هناك ألوف الملايين من الكواكب التي تستمد حرارتها وضوءها من شموس تقع على مسافات تضارع أو تقارب المسافة التي تفصل أو تصل بيننا وبين الشمس، وفي هذه الحال تنشأ الأحياء عليها وتصل إلى درجات التطور التي وصلت إليها الأرض.
وهل يمكن أن نصل إلى هذه الكواكب؟
نعم يمكن، وكل ما نحتاج إليه أن نخرج من جاذبية الأرض؛ أي: أن القذيفة التي سنركبها تخرج أولا من منطقة الهواء، وهذا أشق ما في الرحلة؛ لأن الهواء جسم مقاوم، ثم بعد ذلك نخرج من جاذبية الأرض بقوة الاندفاع الأول، ومتى تركنا جاذبية الأرض فإن قذيفتنا التي نركبها ستسير في الفضاء كما لو كانت حجرا يسقط من سطح منزل إلى أسفله، ويمكن أن نسير في هذا الفضاء شهرا أو سنة أو عشر سنوات بلا أي مجهود سوى قوة الاندفاع الأول من الأرض.
والعبرة هنا بتنظيم القذيفة وتموينها بالطعام والشراب والغازات التي تحط على كوكب آخر.
ولكن إذا سرنا مع منطقنا فإننا نحتاج إلى أن نقول: إن هذا الذي نفكر فيه بشأن استعمار الكواكب يمكن أيضا أن يكون البشر الذين نشئوا في هذه الكواكب نفسها يفكرون فيه بشأن الأرض؛ إذ إننا جميعا من عمر واحد.
وفي حكومات فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا مصالح تبحث وتستعد للرحلة الأولى لاستعمار القمر، والانتقال من القمر إلى الكواكب الأخرى سيكون الدرس الثاني للرحلة الفضائية الكوكبية.
هل الحياة مادة؟ هل لها أساس مادي؟ •••
حسبنا أن نشير إشارة خاطفة إلى الحياة والأحياء هنا من حيث علاقتها بهذا التصور الجديد للكون، وليس من حيث مظاهرهما المختلفة وتطور الأحياء وكيمياء النمو والتكاثر.
إن أعظم ما يجعل الناس ينفرون من القول بأن الحياة مادة أن للإنسان عقلا ولا يمكن في زعمهم أن يكون العقل مادة.
المجرة أو «سكة التبانة» عند فلاحينا المصريين، يزيد عدد نجوم المجرة على مئة ألف مليون نجم، شمسنا واحدة من هذه النجوم وفي الكون من المجرات نحو مئة ألف مجرة. «الرنة» أو غزال المناطق القطبية، و«الزرد»؛ أي: الحمار الوحشي في إفريقيا الوسطى، حيوانان يكادان ينقرضان من العالم فلا يبقى منهما إلا الأعداد القليلة التي تزين حدائق الحيوانات.
الرنة: غزال المناطق القطبية
سمكة السيلاكانت التي اكتشفت حية منذ سنين قليلة في البحار الواقعة شرق إفريقيا الجنوبية، عمر هذه السمكة خمسون مليون سنة، وكان قد عثر على أحافيرها متحجرة قبل هذا وظن أنها انقرضت.
تتميز «السيلاكانت» برأس غير ملتصق بالظهر مما يجعله غير مجمد الحركة، وبمثانة تختزن فيها الهواء، وهي لا تخرج إلى اليابسة، ولكنها تسير بزعنفتيها السفليتين على قعر البحر، وهي تشبه في هذا سمكة «البيربوفتلم» التي تتسلق جذور شجرة الكورميدا النامية عند الشواطئ.
يعيش الطرشبر في غابات فليبين وهو لا يزيد في الوزن على نصف رطل أو أكثر قليلا، ولكنه وحش يفترس الزواحف الصغيرة في الليل، فهو يسعى في الليل وينام في النهار، ومن هنا سعة عينيه ووضعهما الأمامي، هو إيماءة لنا إلى الجد الأعلى الذي سبق ظهور القردة والإنسان قبل ملايين السنين.
اتساع عيني «البومة» ووضعهما في الوجه بدلا من الصدغ هو سبب نفور الإنسان وتشائمه منها.
ولكننا نعرف أن الأرض تربط القمر بالجاذبية وتعين حركته كما لو كانت تسوقه في طريق لا يتجاوزه، وكذلك الشمس تربط الأرض بالجاذبية وتعين الفلك الذي يدور فيه مع أن بين الاثنين، الشمس والأرض آلاف الملايين من الأميال، فما هي هذه الجاذبية، وهل تعود إلى شيء غير عادي في الشمس والأرض؟
إن الطاقة الكهربية والمغناطيسية والجاذبية من الخواص الطبيعية التي لا نجد فيها مادة محسوسة ولكننا نستنتج أنها جميعا تعود إلى المادة.
والعقل أحد خواص المادة حين نسميها جسما حيا، وعندما نقول: إنه غير مادي فقولنا هذا لا يزيد على قولنا: إن المغناطيسية أو الجاذبية الكهربية غير مادية.
إن للأحياء خواص كثيرة منها الحركة والتنفس والتمثيل، ولكننا عندما نتأمل اللهب نجد أنه يحتاج إلى الأوكسجين مثلنا؟ وكلانا يحيا به كما يموت فور انقطاعه عنه.
وكلانا يمثل المواد البروتينية والنشوية «وأحيانا الخليوزية» والسكرية والشحمية ويحيلها إلى حرارة، وما دامت هذه المواد حاضرة فإن اللهب يبقى حيا إلى الأبد.
وفي ضوء التصوير الجديد للكون يمكن أن نقول: إن كل مادة تحتفظ بطرازها، بأن تأخذ وتعطي لما حولها، تعد حية، فالنجم يعد حيا، بل كذلك الكواكب، وأحسن ما قيل عن الحياة بلغة الشعر التي تعتمد على أساس العلم: «إن الحياة نسيج يحوكه الضوء من الهواء».
ونحن نحاول التفسير الذري أو الجزئي للمواد، وفي ضوء هذا التفسير نجد أن الفيروس الذي يحدث لنا الزكام مثلا يقف بين ما نسميه مادة وما نسميه حياة، ذلك أن الفيروسات قد يتألف أحدها من جزيء واحد أو عدة جزئيات حتى لنتردد في القول بأنها من المواد أم من الأحياء .
خروج الأحياء المائية إلى اليابسة
بعض الأحياء المائية يخرج من الماء ويسير قليلا أو كثيرا، على الطين أو التراب أو الرمل، مثل السرطان والجنبري وبعض الأسماك.
ونحن بالطبع لا نعني هنا تلك الحيوانات التي كانت على اليابسة ثم نزلت إلى البحر وجعلته وطنها مثل اللجاة من الزواحف التي لا تزال إلى الآن تبيض على اليابسة، ومثل اللبونات «الرواضع» كالدولفين والفقمة وسائر الفياطس العديدة التي هي أقرب إلى البقر منها إلى؛ أي: حيوان آخر.
وإنما نعني تلك الأحياء التي نشأت في الماء، ثم خرجت أو حاولت الخروج إلى اليابسة.
وجميع الأحياء على اليابسة كانت بالطبع في الماء قبل أن تتطور وتستطيع الحياة على اليابسة، وهي في هذا الانتقال احتاجات إلى شيئين: (1)
أن تتغير خياشيمها التي تتنفس بها من خلال الماء إلى رئة حتى يمكنها أن تحصل على الهواء مباشرة، وليس من خلال الماء. (2)
أن نستطيع التحرك على اليابسة كأن تستعمل عضلاتها أو زعانفها التي كانت تسبح بها في التنقل على التراب أو الطين أو الرمل.
ونحن نلاحظ في السرطان «أبو جلمبو» أنه يخرج في الليل إلى الساحل ويجول فيه بل يعدو أحيانا، ولكنه إذا وجد الخطر عاد إلى البحر، وهو يحفر لنفسه وكرا في الرمل يختبئ فيه، فإذا كان الصباح وبزغت الشمس عاد إلى البحر أو اختبأ في وكره.
وهو يتنفس بخياشيم مثل السمك، ولكن هذه الخياشيم تمتاز باشتجارها واشتباكها وصفائحها بحيث يمكن اختزان الهواء فيها، ثم هو لا يخرج إلا عندما تزول الشمس؛ أي: يزول الحر وتكثر الرطوبة حتى لا تجف خياشيمه.
وكثير من السمك له هذه القدرة؛ إذ إن خياشيمه كثيرة الاشتجار والاشتباك بحيث يمكنها اختزان مقدار كبير من الهواء، فإذا خرجت من الماء استعملت هذا المختزن، وهذا هو شأن القرموط الذي يبقى طويلا خارج الماء.
ولكن هناك أسماكا أخرى تختزن الهواء في مثانة تقع تحت السلسلة الفقرية، وهي بمثابة المستودع للهواء، والأغلب أن الأصل في هذه المثانة هو فساد الهواء في الضحاضح والمنافع الوخمة؛ فإن السمكة هنا تختنق بالغازات السامة التي تنشأ في هذه الوخامة، فهي تختزن مقدارا كبيرا من الهواء في مثانتها للاستعاضة به عن الهواء الفاسد.
ثم هناك أسماك تستخدم هذه المثانة في تخفيف أجسامها أو تثقيلها وقت الحاجة إلى الارتفاع أو الهبوط في الماء ببسط هذه المثانة أو تقليصها.
أما الحركة فوق اليابسة فأسهل شأنا للسمك؛ لأن الزعنفة التي تدفع الماء للسباحة تستطيع أيضا أن تدفع الرمل أو الصخر للنقل عليها، وبالطبع تختلف الأسماك هنا في هذه المقدرة، فإن الإنكليس «ثعبان السمك» يتنقل بعضلات بطنه، وزعانف البيريوفتلم من القوة والمرونة بحيث يمكنها أن تقطع نصف كيلو متر بها على الرمل.
والحلقة التي تصل بين سلسلة التطور في البحار وسلسلة التطور على اليابسة هي الضفدع، وهي تمثل لنا في حياتها وتدرجاتها، كما لو كانت تريد تعليمنا، كيف تحيى في طفولتها وهي سمكة لها خياشيم للتنفس في الماء وزعانف للسباحة، ثم كيف تستحيل إلى ضفدع لها يدان وساقان بأصابع للمشي على اليابسة ورئة لتنفس الهواء.
وقد ظهرت الأسماك منذ حوالي 400 أو 300 مليون سنة، وكان معظمها يعيش في مياه الغدران والأنهار والمناقع وكان يكثر على سواحل البحار الكبرى حيث الغذاء أوفر.
وكثير من هذه الأسماك قد انقرض، ولكن كثيرا منها، مع بدائيته الواضحة مثل السمك للمبري، لم ينقرض، وأحيانا نجد أحافير بعض السمك ثم نجد هذا السمك نفسه لا يزال حيا.
وليس في هذا تناقض، فإن سمكة السيلاكانت، التي لا تزال حية، عرفت أحافيرها التي دفنت وتحجرت منذ ستين مليون سنة وكانت كثيرة، ولكن عندما نصل إلى الطبقات الجيولوجية التي تعود إلى 50 أو 60 مليون سنة نجد أن هذه الأحافير قد زالت أو أوشكت.
وزوالها لا يعني أنها انقرضت، وإنما يعني أنه حدثت ظروف جعلت هذه السمكة تنتقل من مكانها الأصلي إلى أماكن منزوية بعيدة حيث يقل الأعداء.
وهذه السمكة، السيلاكانت، التي وجد منها إلى الآن اثنتان حيتان ثانيتهما في ديسمبر سنة 1953 هي البشيرة الأولى لخروج الحيوان من الماء إلى اليابسة، فإنما تحتوى على قائمتين أماميتين تستطيع أن تسير بهما على الرمل، وهي تسير بهما الآن على قعر البحر، ثم تحتوى، وهذا أخطر، على مثانة هوائية هي الأصل للرئة لحيوان اليابسة.
وهناك أسماك كثيرة تستطيع السير على قعر النهر أو البحر كما نرى في الجرنار، فإن هناك نحو أربعين نوعا من هذا السمك تستطيع كلها السعي على الطين؛ لأن جزءا من زعنفتيها الأماميتين قد استحال إلى ما يشبه الأصابع، ولكنها بعيدة عن أن تبلغ مقام السيلاكانت في التطور نحو حيوان اليابسة.
وكذلك هناك أربعة أو خمسة أنواع من الدبنوئيات؛ أي: التي يزدوج تنفسها، فهي حين تكون في الماء تتنفس بخياشيم في الماء، فإذا جف الماء تنفست بما يشبه الرئة، وتحفر لنفسها حفرة في الطين ثم تتحوى وتبقى فيه في سبات نحو ثلاثة أو خمسة شهور حتى يعود الماء فتعود إلى السباحة والتنفس بخياشيم.
وفصيلة الدبنوئيات لا تسعى على الطين أو الرمل، وفي النيل واحدة من هذه الأسماك الدبنوئية.
أما السيلاكانت فكانت تمتاز بالميزتين: القدرة البدائية على اختزان الهواء في مثانة تومئ إلى الرئة، ثم القدرة على السعي على الطين أو الرمل.
ونحن من سلائل السيلاكانت أو سلائل أبناء عمومتها.
وبخروج الأسماء إلى اليابسة ظهرت البرمائيات مثل الضفادع.
ثم ظهرت الزواحف الكبرى التي انقرضت ومنها الديناصور ولم يبق من هذه الزواحف سوى الثعابين والحيات والعظايا والسلاحف واللجا، ولكن منها أيضا التماسيح والسلاحف والورل.
ومن الزواحف ظهر فرعان كبيران، أحدهما اللبونات؛ أي: الرواضع التي نحن منها، والآخر الطيور.
هل تنقرض هذه الحيوانات الجميلة
إذا تأملنا العالم في حاله الحاضرة من إنسان وحيوان ونبات وتساءلنا أيهما جميعا عرضة للانقراض لما كان هناك شك في جوابنا بأن أكثر الأحياء عرضة للانقراض هو الإنسان، وذلك بفضل ما اخترعه من قنابل ذرية وأخرى هيدروجينية، وهذا إلى غازات سامة وميكروبات قاتلة.
الإنسان في أيامنا أكثر عرضة للانقراض من أي حيوان آخر، وليس شك أنه سيقتل معه ملايين من الحيوانات التي نكبت باستئناسه لها والتي تعيش في مدنه وقراه، ولكن لجميع هذه الحيوانات أصول وأقارب في الغابات والجبال التي لن تصل إليها في الأغلب قنابلنا؛ ولذلك مهما بلغ قتلاها في العدد فإنها لن تنقرض.
ولكن إذا تركنا الإنسان وحيواناته المستأنسة فإنه يبقى علينا أن نتأمل عوامل البقاء والانقراض في الحيوانات الأخرى، وأكبر ما يهدد هذه الحيوانات بالفناء في عصرنا هو الإنسان نفسه، وقد استطاع في المائة سنة الماضية أن يبيد طائر الدؤدؤ من جزيرة موريتيوس «بالقرب من مدغشقر»، وهو طائر ينتسب إلى الحمام ولكنه كان يزيد في الوزن على الدندي؛ أي: الديك الرومي، وكذلك أباد الإنسان نعامة كانت تعيش في نيوزيلانده.
وإلى قبل نحو ثلث قرن كان الصيد مباحا في جميع الطيور، وكانت سيدات أوروبا على شغف عظيم بوضع الريش الزاهي في قبعاتهن، فألح الصيادون على صيد الطيور الجميلة حتى كادت تنقرض، ثم سنت القوانين لحمايتها كما أن إقلاع السيدات عن هذه العادة الوحشية في تزيين قبعاتهن بالريش قد جعل الفرصة متاحة لهذه الطيور لأن تتكاثر وتعود أسرابها إلى ما كانت عليه.
ولكن السيدات ما زلن يتخذن الفراء للمعطف، ويلح الصيادون في كندا وسيبيريا على صيد الثعالب والدببة البيضاء للحصول على فرائها، ولذلك يخشى انقراضها وإن تكن في كلا القطرين قوانين تحظر صيد الإناث كما تحظر استعمال الأشراك التي قد تقع فيها الأنثى مثل الذكر.
ومع ذلك هناك الدواء الذي يوحيه الداء.
فإن الخوف من انقراض الثعالب البيض قد أوحى إلى تجار الفراء تربية هذه الثعالب في حدائق وأقفاص واستنتاج سلالاتها ونجحت هذه التجربة، كما أن إخواننا السودانيين، يصيدون النعام هذه الأيام لكنهم يربونه كما نربي نحن الدجاج، وقد استأنس الفنلنديون الغزال المعروف باسم الرقة.
ولو كان هذا ممكنا في سائر الحيوان لما كان هناك خوف من الانقراض، وهنا بالطبع لا ننسى أن في جميع الأقطار المتمدنة حدائق للحيوانات الوحشية التي تربى لإمتاع الجماهير وتنويرها، ولكنها قليلة لا تكفل بقاء الأنواع، ثم هناك هذا العقم الذي يصيب حيوانات هذه الحدائق؛ إذ إن كثيرا منها لا يلد وهو في القفص، وإذا حمل أجهض.
والفيلة أكثر الحيوانات تأنقا في التوالد، فهي مثلا مستأنسة في الهند، ولكنها لا تتلاقح إلا إذا تركت الإناث في الغابة بعيدا عن الحضارة، فتبقى الأنثى نحو أسبوعين تكون قد عرفت فيها الذكر، ثم تعود أو تعاد إلى صاحبها حيث تلد بعد مدة الحمل الطويلة.
وعوامل الانقراض في الطبيعة عديدة ونجد منها في تاريخ الحيوان أمثلة مروعة، فقبل نحو مئة أو ثمانين مليون سنة كانت أرضنا، في اليابسة والبحار والهواء، تعج بالملايين من أنواع مختلفة من الزواحف الكبرى، انقرضت جميعها.
ولا يعرف أحد لماذا انقرضت والخيط في هذا الموضوع لا ينتهي وربما كان ما نستبعده في خيالنا هو أقرب التعليلات إلى عقولنا، وهو أن الأرض وجدت هي والمجموعة الشمسية في مكان من المجرة التي تنتسب إليها عم فيها البرد وشمل الأرض، فلم تتحمله الزواحف الكبرى ولذلك نشأ بعدها، من صميم أجسامها، نوعان يتسمان بغطاء يقي الجسم من البرد هما الطيور بريشها واللبونات أو الرواضع بأصوافها وشعرها ووبرها.
ولكن هذا حدث فقط وإن يكن أحسن الأحداس.
والخوف من انقراض الحيوانات قد بعث حكومة إفريقيا الجنوبية على إيجاد حرم تبلغ مساحته أكثر من مليوني فدان يحرم فيه صيد الحيوانات، ولذلك تجد هناك الأسود والنمور والفيلة وأفراس النهر والكركدن والجاموس والغزلان والزراف والحمر الوحشية «الزرد» والقردة، وكذلك المئات من أنواع الطير، تجد الحماية التي تكفل لها البقاء، وهذا الذي قامت به حكومة جنوب إفريقيا الجنوبية هو بر الإنسان بالطبيعة والحيوان.
ولكن هذه الحكومة التي تحمي الحيوان لا تحمي مع ذلك سيد الحيوانات وهو الإنسان الزنجي الذي يلقى منها كل احتقار.
إمارات الوحشية في حيواناتنا الداجنة
اهتدى الإنسان منذ أزمان بعيدة إلى إدجان بعض الحيوانات وهو يستخدمها الآن لأغراض شتى: للحمل وللمطعم والملبس، فنحن نستخدم الفرس والحمار للحمل ونستخدم الثور في جر المحراث أو غيره من الأثقال، ونأكل لحمه ولحوم الخراف والمعز ونستعمل أصوافها في ملابسنا.
وإذا نحن نظرنا إلى هذه الحيوانات من الوجهة البيولوجية وجدنا في أخلاقها وفي خلقتها دلائل الوحشية القديمة، كما نلحظ أيضا الأسباب التي جعلت الإنسان يختارها، ويدجنها دون غيرها من الحيوانات.
فأول ما يلحظه الإنسان في هذه الحيوانات أنها كلها اجتماعية؛ أي: أنها تعيش مجتمعة أسرابا، فالخيل والحمير والثيران والخراف والمعز والفيلة والكلاب كانت تعيش عيشة اجتماعية، وهذا ما يسر للإنسان تذليلها وسهل عليها عشرته؛ لأن الحيوان الاجتماعي يختلف عن الحيوان الانفرادي «مثل الأسد والضبع» بقدرته على التفاهم مع إخوانه وإدراكه لحقوق الغير والطاعة لرئيسه عند اللزوم والنظر إلى مصلحة السرب أو القطيع العامة، وهذا ليس في الحيوان الانفرادي كالنمر والضبع، فإنها لانفرادها في معيشتها لا تعرف كيف تعامل أفراد نوعها، فإذا تقابل أسدان اعتركا في الحال وقتل أحدهما الآخر.
والإنسان لم يدجن الأسد والضبع والنمر ونحوها من الحيوانات الانفرادية؛ أي: التي تعيش منفردة، أو لم يستطع إدجانها؛ لأنها لا تدرك معنى الاجتماع وطرق المعاملة وحقوق الغير كما يدركها الحيوان الاجتماعي كالفرس؛ إذ هو ينظر إلى الإنسان مثل ما ينظر إلى فرس آخر، فهو يعرف من حياته الاجتماعية القديمة أنه لا يحسن به عض أخواته أو رفسها أو الاعتداء على طعامها أو عصيان أمر رئيسه، والإنسان يستفيد من هذه الأخلاق فيذلله ويركبه.
والفرس حيوان سهول ويظهر أنه نشأ في جزيرة العرب أو في أرض تماثلها في قلة خصبها وانبساط أرضها؛ لأنه إذا أكل احتف ما أمامه احتفافا كأنه معتاد رعي النباتات والجذور الضئيلة ولا يخرج لسانه ويجز العشب جزا كما تفعل البقرة؛ لأن البقرة كانت تعيش قديما في الغابات فكانت تلتقط غذاءها بلسانها من أوراق الأشجار الكثيفة، ولذلك تجد فلاحنا يربط الخيول والحمير وراء البقر والجواميس، فإذا رعت البقرة جانبا من المرعى، ربط فيه الفرس فيحتف ما يبقى فيه.
ولا شك في أن سرعة الخيل كانت سلاحها الأكبر أمام أعدائها ولو كان الفرس حيوان غابات لما اعتاد هذه السرعة في الجري، وهذا يدل على أنه كان يعيش في السهول، ولا شك أيضا في أن الذئاب كانت العامل الأكبر في إيجاد هذه المزية فيه؛ لأنها تكاد تكون العدو الوحيد له في مواطنه، فكانت دائما تطارده وتفترس كل بطيء يتأخر عن القطيع فلا يبقى ويتوالد إلا السريع، فالذئب سبب سرعة الخيل، ثم إن ضرع الفرس صغير مع أن ولدها يحتاج إلى كمية من اللبن توازي الكمية التي يرضعها العجل من أمه أو أكثر منها، والسبب في ذلك أن المهر لا يرضع إلا قليلا في مواعيد متقاربة، وذلك أولا لأنه يلازم أمه دائما ولا يفارقها، وثانيا لكي لا يملأ بطنه فيبقى خفيفا قادرا على اللحاق بأمه وقت هجوم العدو عليها، والحال عكس ذلك في البقر فإنها تخفي ولدها في خميلة أو دغل بعد أن تشبعه وتسرح النهار كله بعيدا عنه، وعند رجوعها يكون قد اشتد عليه الجوع فيحتاج إلى لبن كثير، وهذا كان السبب في كبر ضرع البقرة الذي استفاد منه الإنسان.
وإذا قارنت بين حوافر الفرس وأظلاف الثور وجدت أن أظلاف الثور مشقوقة، والسبب في ذلك أن الثور كان يعيش في الغابات حيث الوحل والتراب الندي، فبقيت قدمه مشقوقة لكي تتسع حينما يرفعها فيسهل عليه نزعها من الوحل، ولو كان مثل حافر الفرس لالتصقت بالوحل وعاقته عن الجري، فحافر الفرس مصنوع للرمال الجافة وأظلاف الثور للتراب الرطب وللوحل الذي يكون عادة في الغابات.
والحمار يماثل الفرس في تركيبه وهما قريبان بيولوجيا، ولهذا يمكن المزاوجة بينهما غير أن نسلهما يكون في الغالب عاقرا، وأهم ما يستغربه الإنسان في الحمير كراهتها للسير في الماء، وقد فسر أحدهم ذلك بأن الحمير نشأت في البلاد التي يكثر التمساح في أنهارها، فكراهة الحمار للماء آتية من هذه الذكرى، فهو أبدا يرى بغريزته شبح عدوه في الماء. وسلاح الثور قرناه وقوتهما على النطاح، وقد استثمر الإنسان هذه الخاصة واستعمله للجر؛ لأن الجر والنطاح من قبيل واحد فالثور هو حامل نير المحراث يفعل ما يفعله مع أعدائه عند العراك، ولهذا السبب نظن أننا نخطئ في وضع النير على رقبته وكان الأولى أن نقرنه برأسه كما يفعل الفلاحون الألمان، فإن قوة الثور في رأسه عند قرنيه وجميع عضلات رقبته معدة لتقوية رأسه.
ومما يلاحظ أن الثور يكره اللون الأحمر ويهتاج عند رؤيته، والسبب في ذلك على ما يرجح الباحثون هو توهمه وجود الدم، فإنه من الملاحظ أن الجواميس الوحشية إذا رأت جاموسا مجروحا بينها تثخنه نطاحا حتى تقتله أو تبعده عنها وقد يظهر أن هذا العمل فظيع.
ولكن يرجح أن الغرض منه هو إبعاد الثور المجروح لكي لا يبقى الوحش الذي جرحه متابعا له في سيره، فالقطيع يطرده ويبعده عنه لكي يبعد عنه الوحش الذي يتأثره، كأن الجواميس تقول للوحش: «خذه واتركنا»؛ أي: أن الانتخاب الطبيعي قد جعل هذه الحيوانات تطرد الجريح عنها لفائدة المجموع.
والكلب من الحيوانات التي أدجنها الإنسان قديما، وهو ذئب بخلقه وخلقه، ولذلك تنجح المزاوجة بينهما دائما ولا يكون نسلهما عاقرا كالبغل، ومعنى ذلك أن قرابة الذئب والكلب أشد من قرابة الفرس والحمار، وإذا نظرت إلى الكلاب وهي تتعارك أو تتهارش رأيت أن الكلب يعامل إخوانه الكلاب مثلما يعامل الإنسان، فقوانين القطيع الاجتماعية - لأن الكلاب كانت تعيش قطعانا - هي نفس القوانين التي يراعيها الكلب عند معاملته لصاحبه، فهو ينظر إليه كأنه كلب شديد الحيلة يمشي على رجليه وينظر إلى أهل البيت الذي يسكنه كأنهم أفراد قطيع واحد، ولذلك يدافع عن أصحابه ويدفع أعداءهم كأنهم أعداؤه ويقاتلهم إلى حد الموت.
ولغة الكلب من أبين لغات الحيوانات، فهو يوقوق عند الخوف ويضغو عند الجوع ويهر عند ابتداء القتال وينبح إذا أراد أن ينادي إخوانه، ولا شك في أن هذه الأصوات كانت تفيده قديما؛ لأنه لضعفه كان لا يصيد إلا مجتمعا، فهذه الأصوات تدل سائر القطيع على مراد الكلب المصوت.
وللكلب حركات لا تقل عن الأصوات في الدلالة على ما في نفسه، فهو إذا أذعن وأقر بذنبه واستصفح استلقى على ظهره وأرخى ساقيه وصمت، يفعل ذلك أمام صاحبه إذا لوح أمامه بالعصا كما يفعله أمام كلب كبير إذا رأى الشر في عينيه، وذنب الكلب آلة تفاهم بينه وبين إخوانه فهو يبصبص به عند التذلل والطلب ويرفعه عند الغضب، وإذا جرى جذبه إلى ما بين ساقيه، قيل: والغرض من ذلك أن لا يمسك به عدو يتأثره، فهذه الأصوات والحركات تدل دلالة واضحة على أن الكلب كان اجتماعيا؛ لأنه لا فائدة منها لحيوان انفرادي لا يحتاج إلى إخوانه ولا تحتاج هي إليه.
والحيوان الانفرادي الوحيد الذي يعيش مع الإنسان هو القط ولا يخفى أن القط ليس حيوانا أنيسا، وغاية ما يفعل أنه يأوي إلى بيوتنا كما تأوي إليه الفيران والعصافير ويمتاز عنها بقلة خوفه، فهو لا يصاحب أحدا وإذا انتقل سكان البيت الذي يسكنه لم يذهب معهم بل بقي فيه، وإذا رأى صاحبه يتشاجر مع غيره بقي هادئا لا يتحرك لمساعدته، وإذا رأى قطين يتعاركان تركهما وذلك لأنه انفرادي بطبعه لا يفهم اصطلاحات الاجتماع وآدابه كالكلب، وقد رأينا في الملاعب من يعلم الخيل والحمير والكلاب والمعز ألعابا شتى ولكننا لم نر أحدا أفلح في تعليم قط لعبة ما، وذلك لأن القط لا يفهم أصول المعاملة من طاعة وجزاء ومكافأة واشتراك وغير ذلك مما تفهمه الحيوانات الاجتماعية؛ لأن ذلك من مقتضيات الاجتماع والتعليم.
ولون القط يدل على أنه كان حيوان غابات؛ لأنه يماثل ظل أوراق الأشجار على الأرض، فكان يحتمي وهو وحش بهذه الألوان ويختفي بواسطتها عن أعين أعدائه وفرائسه، ويظهر لنا أن الألوان الزاهية أو البيضاء أو السوداء التي ترى بها القطط أحيانا حديثة العهد؛ أي: أنها حدثت فيها بعد إقامتها في البيوت بين الناس وعدم احتياجها إلى الاحتماء باللون.
ومما يلاحظ أن صغار القطط وهي في وكناتها تفح كالثعبان وأكثر صغار الطيور تفعل ذلك أيضا وهي في عشائشها، وغرضها من ذلك فيما يظن هو طرد العدو بإيهامه أن في الوكنة أو العش ثعبانا ساما؛ لأن الثعابين أعداء ألداء لأكثر الطيور والحيوانات اللبونة ولذلك فإن هذه تخافها طبعا وغريزة من غير تعلم. وتقليد فراخ الطيور والقطط للثعابين يعتبر من العوامل البقائية المهمة في حياتها.
والخروف آنس الحيوانات، ولو باد الإنسان من الأرض فجأة لما عاشت بعده أسبوعين؛ لأن الخروف أصبح أعزل لا يحسن شيئا من أصول القتال ومبادئه، فإذا ارتفعت عنه حماية الإنسان ورعايته لم تبق عليه الحيوانات المفترسة ولم يستطع مقاومتها، وقد يمكن أن يعود الفرس والكلب والثور إلى الوحشية التامة فتكافح الوحوش الضارية، ولكننا لا نظن أنه يمكن للخروف أن يفعل ذلك.
والخروف حيوان اجتماعي محض، ومما يلاحظ فيه أنه في عدوه يقتفي أثر سابقه بالضبط ولا يحيد قيد شبر عنه، مثال ذلك أنه قد يقفز خروف فوق قناة فترى أن بقية خرفان القطيع تفعله بالضبط من غير روية أو تعلم، وهذا ليس بالأمر الهين، كما يظهر لأول وهلة فإذا اجتمع مئة رجل وأرادوا أن يقفزوا فوق قناة لم يستطيعوا ذلك إلا بعد أن يفكر كل منهم ويقيس بعقله المسافة التي يجب أن تقفز ودرجة التحفز التي يجب أن تهيأ قبل القفز، ولكن الخراف تقفز بداهة بغير روية، والسبب في ذلك على ما نظن هو حاجتها قديما إلى تقدير الأشياء التي من هذا القبيل بداهة وسريعا؛ لأن الخروف حيوان جيلي، بدليل وجود أبناء أعمامه المتوحشة الآن في الجبال، فهو يحتاج في جريه إلى تتبع قائده بسرعة وخفة حتى لا يدركه العدو المطارد.
والخنزير من الحيوانات التي أصبحت في يد الإنسان آلة ميكانيكية أو معملا كيماويا لتحويل المادة النباتية إلى مادة حيوانية فإنه سرعان ما تصل الأعشاب إلى كرشه وتتحول شحما ولحما.
والسبب في ذلك أن الخنزير كان يسكن قديما الأقاليم الباردة حيث يتجرد وجه الأرض من النباتات وقت الشتاء، ودليل ذلك أن الخنزير البري من سكان تلك الأقاليم إلى الآن، وكان الخنزير ينزوي وقت الشتاء فيقضي نحو ستة أشهر بغير طعام، ولهذا السبب نشأت فيه تلك الشراهة الخارقة تبعثه دائما للتفتيش والتنقيب عن الطعام؛ لأنه كان يضطر إلى اختزان كمية كبيرة من الشحم في جسمه ليتغذى بها وقت الشتاء على نحو ما يفعل النحل في اختزان العسل، والعسل والشحم يكادان يكونان مادة واحدة، والفرق بينهما أن النحل يخزن عسله في بيوت معدة لذلك حتى إذا جاء الشتاء أكله، أما الخنزير فيخزن شحمه في جسمه .
ومن الحيوانات التي ذللها الإنسان واستولدها للذبح المعز، وأهم ما نلاحظه فيها خفتها في الحركة وقدرتها العجيبة على المشي في الحافات الضيقة أو المستدقة؛ فإنك قد ترى أحيانا عنزتين تروحان وتغدوان تمرحان وتتواثبان على حائط عال لا تزيد تخانته على ربع متر أو أقل، والسبب في ذلك أن المعز كانت تعيش قديما على قمم الجبال وتحتاج إلى الوثوب والالتجاء إلى القمم المستدقة لامتناعها على الحيوانات المفترسة، ومصداق ذلك أن الوعل والأيل يفعلان ذلك وهما من جنس المعز ويمثلان الآن عيشتها الوحشية القديمة، وكثيرون من أصحاب الملاعب يستفيدون من هذه الخاصة في المعز ويدربونه على المشي على الحافات الدقيقة مما يدهش لغرابته المشاهدون.
والجمل من الحيوانات التي يظهر في خلقها وخلقها تأثير الوسط الذي عاشت فيه قديما، فهو حيوان صحاري ورمال قليلة المراعي والمياه، ومن يراه يمشي في شوارعنا الموحلة أو المرشوشة يشعر أن الخف صنع للرمال، والجمل مشهور بصبره على العطش وقدرته على اختزان ما يكفيه من المياه مدة طويلة، وهو صبور على الجوع أيضا؛ لأن في سنامه كمية وافرة من الغذاء يتقوت بها عند قلة الطعام، فهو من هذه الوجهة مثل الخنزير غير أنه لا يفرق شحمه مثله على جميع أعضائه بل يجمعه في أعلا ظهره، وهذه كلها خصائص توافق الصحاري التي كان يعيش فيها.
ومن أراد أن يلمح لمحة من حياة الجمل الوحشية فلينظر إليه وهو يأكل الحسك والأشواك فإن شغفه الشديد بها يدل على تأصل ذوقه لهذه النباتات الصحراوية، فإن الصحاري لا تنبت لقحل أرضها وقلة الغيث فيها غير هذه الأشواك، وكانت الجمال قديما تفتش عنها وتتغذى بها، وما زال فلاحنا للآن إذا شعر بضعف شهوة الجمل في أكل البرسيم أو الفول، وهما من الأطايب لمثل هذا الغذاء، يأخذه إلى حيث يجد هذه الأشواك فيرد إليه شهوة الأكل بها.
والفيل أكبر الحيوانات التي ذللها ا لإنسان، ولو لم يكن اجتماعيا في حياته الوحشية لما استطعنا تذليله، فإن الأسد أضعف منه قوة ولكننا لم نتمكن من تذليله؛ وذلك لأنه لا يعرف طرق المعاملة مثل الحيوانات الاجتماعية، ولا يعرف معنى العقاب والطاعة والمكافأة، ويشعر إذا قربنا منه بالعداء وشهوة الافتراس، أما الفيل فينظر إلينا كما ينظر إلى إخوانه الفيلة فيعرف ما له وما عليه ويميز بين العقاب الخفيف عند الخطأ الطفيف والعقاب الشديد عند الخطأ الكبير.
نحن خمسة في هذا العالم
نحن خمسة ليس لنا سادس، قد افترقنا منذ أكثر من مليون سنة ولكننا ما زلنا نذكر قرابتنا وندل عليها بالوجوه وسائر الأعضاء، وكذلك بالاتجاهات الذهنية أو العاطفية.
نحن البشر، ثم الشمبنزي، ثم الغوريلا، ثم الأورانج، ثم الجيبون.
وليس لنا سادس، نحن خمسة نتسم بوجوه بشرية وبأذناب متقلصة قد اندغمت في ظهورنا حتى صارت لا تبرز كأننا لم نكن قط بأذناب، وقد عشنا آلاف القرون على الأشجار. ونحن البشر، مع الغوريلا، قد تركنا الأشجار ونزلنا على اليابسة، ولكن صغار الغوريلا لا تزال إلى الآن، إذا أظلم الليل، تصعد إلى غصون الشجر وتنام عليها، أما آباء هؤلاء الصغار فتبني على الأرض تحت جذوع الشجر ولا تصعد، أما الشمبنزي فلا يزال يساوي بين الشجر والأرض، ساعة هنا وساعة هناك، أما الجيبون فلا يزال يتعصب للشجر ولا يكاد يتركه، ولكن الأورانج ينزل من وقت لآخر ويسير على الأرض.
ونحن والجيبون طرفان، نحن نتعصب للأرض ولا يكاد أحدنا يفكر في الصعود إلى أغصان الشجر سوي صبياننا للعب والعبث، وفي الطرف الآخر الجيبون الذي يتعصب للشجر وهو بهلوان يذرع الغصون بذراعيه بنفس السهولة التي نسير نحن بها على الأرض، حركته تتبلور في ذراعيه كما تتبلور حركتنا في ساقينا.
والجيبون هو صرخة نائية في قرابتنا التطورية، ولكن هناك ما هو أنأى.
ذلك أننا قبل أن نكون خمسة كنا عشرات، بل ربما كنا مئات نتفرق في القارات القديمة ونعيش على الأشجار وكانت أجسامنا صغيرة؛ لأن الحيوان الضخم يجد أن الغصون لا تتحمله ولذلك سرعان ما ينزل إلى الأرض، ألا ترى أن اثنين من هؤلاء الخمسة، وهما الإنسان والغوريلا، قد تركا الشجر واستقر أحدهما على الأرض وكاد الثاني أن يستقر؟ والأورانج يكاد يساوي الإنسان في الثقل ، ولكنه لا يزال يلتزم الشجر؛ لأن قدميه لا تليقان للمشي، كما سنرى.
قبل نحو عشرين أو ثلاثين مليون سنة كنا قد بدأنا حياة جديدة على هذا الكوكب، وكنا قد اهتدينا إلى اختراع جديد نمتاز به على تلك الزواحف الضخمة التي كانت وباء على العالم، ذلك أننا كنا نلد ولا نبيض، فكانت الحراسة ثم العناية بالأطفال كبيرتين، وفي الوقت الذي كانت تنقرض فيه الزواحف؛ لأن بيضها لا يجد الحراسة كنا نحن نعيش وننازعها البقاء؛ لأننا كنا نعنى بالأطفال ونحرسها.
وكنا صغارا في الحجم نترجح من وزن الفأر إلى وزن الثعلب، وقد لجأنا إلى الأشجار كي نفر من هذه الزواحف الضخمة، وكانت خفة أجسامنا تساعدنا على الفرار، حتى إذا بدأت هذه الزواحف في التناقص، ثم الانقراض، شرع بعضنا يجد أن الأرض مأمونة وأنه يستطيع النزول حيث يسعى في حرية وانطلاق، فكانت أسلاف الحيوانات الجديدة المتخصصة كالفيلة والخيل والكلاب والبقر.
أما نحن فبقينا صغارا في حجم الفأر أو القط، ولا يزال الليمور في أيامنا، ثم الطرسير، يصرخان بنا عبر الملايين من السنين إلى الأصل الوضيع الذي نشأنا منه، وكلاهما من حيوانات الليل التي تفتح أعينها في الظلام وتحاول النظر في النبشة والعتمة ولذلك تجمعت العينان عندهما في الوجه دون الصدغين، كما هو الشأن في سائر الحيوان، وإلى الآن نرى أن البومة والوطواط قد اجتمعت العينان لكل منهما في الوجه ينظر بعينين لشيء واحد في وقت معا، في حين أن سائر الحيوانات النهارية؛ أي: التي تسعى في النهار طيرا كانت أو لبونات، تقنع بالرؤية للشيء الواحد بعين واحدة في الصدغ.
ولهذا السبب نجد بيننا وبين البومة وكذلك الوطواط شبها مزعجا نكرهه ونفر منه، وأصله هو هذا الجمع بين العينين في الوجه، فنحن الخمسة وكذلك الطرسير والليمور ثم كذلك البومة والوطواط، من حيوانات الليل، قد احتجنا إلى الدقة وإحكام الرؤية، فجمعنا العينين في الوجه حتى ننظر الأشياء بهما معا لا بعين واحدة.
ونحن الذي نعيش في أنوار المدن التي تتلألأ بالمصابيح الكهربائية لا تكاد تحس أخطار الظلام ومخاوفه التي يحسها الفلاح في الريف، والتي تزداد ألف ضعف في الغابة، ومن هنا قيمة الرؤية السديدة بعيني الوجه.
والإقامة على الشجر تستدعي اليقظة في الليل كثيرا، ويبدو أننا أسرفنا في هذه الإقامة حتى صار السعي في الليل دون النهار عادتنا، فكان هذا التخصص في النظر، في حين أن سائر الحيوانات، أسلاف الكلاب والقطط والفيلة والبقر، تركت الشجر قبل أن تتخصص، فبقيت عيونها جانبية؛ أي: بقي كل منها «أعور» ينظر بعين واحدة كما كانت تفعل الزواحف الكبرى، أما نحن فلم نترك الشجر إلا بعد أن تخصصنا، ومع ذلك لم يترك الشجر تماما غيرنا نحن البشر، أما سائر الأربعة فلم تتركها تماما إلى الآن، حتى الغوريلا لا تزال تسمح لأولادها بالتسلق والنوم على الغصون في الليل.
وهناك ما يرجح أن جميع اللبونات «التي ترضع أطفالها» نشأت أولا على الشجر، وكانت صغيرة الأحجام تتحملها الغصون في تنقلها ووثبها، ولم يكن مفر من هذا؛ لأن الزواحف الكبرى، التي كان العالم موبوءا بها في كل مكان، كانت تحول دون ظهور اللبونات على الأرض، ولا تزال الأحافير القديمة التي ينتمي إليها الفيل والفرس صغيرة الحجم، فالفيل القديم، وقد وجد في الفيوم، لا يزيد على حجم الحمار، والفرس القديم، وقد وجد في أمريكا، لا يزيد على حجم الفأر؛ أي: أن اللبونات الضخمة كانت في الأصل صغيرة؛ لأنها كانت تعيش على الشجر، ولكنها لم تبق مثلنا المدة الكافية؛ لأن تجمع عينيها في وجوهها ولأن تتخصص أيديها للتناول.
نحن خمسة في هذا العالم ... الإنسان، والغوريلا، والشمبنزي، والأورانج أوتان، والجيبون ... وهؤلاء صعاليك من أبناء عمومتنا. «الغوريلا» أكبر القردة العليا جسما وأقواها ... يعيش قطيعها فيما يشبه النظام العائلي ... يعرف الانتقام، والاحترام، والوقار. «الشمبنزي» الذي يعيش على أشجار إفريقيا ... ماهر ... مفراح ... لعوب ... فيه كثير من الذكاء، وشيء من الخبث.
الأورانج أوتان الذي يعيش على أشجار جزيرتي سومطرة، وبورنيو ... يعني الاسم في لغة أهل بورنبو «إنسان الغابات» ... وهم يعتقدون أنه يمكنه أن يتكلم، ولكنه يتعمد الصمت خشية أن يستخدمه الإنسان ويسترقه. «الجيبون» هو أبعد القردة العليا عن الإنسان، وأصغرها جسما وأطولها ذراعين ... ليس في يديه من الإبهام سوى العجز ... وليس له ذنب ...
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني ...
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني ...
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني ...
انفعالات إنسانية مختلفة على وجه غير إنساني..
هيكل عظمي لطائر، وهيكل عظمي لإنسان ... نشر الاثنين عالم فرنسي يدعى «بيلون» سنة 1555؛ أي: قبل 400 سنة، وقبل كتاب «داروين» أصل الأنواع بأكثر من 300 سنة ... لولا المنقار البارز لأنكرنا أي اختلاف.
هياكل عظمية «من اليمين لليسار» للإنسان، الغوريلا، الشمبنزي، الأورانج أوتان، الجيبون ...
إنسان وزاحفة كبرى منقرضة «للمقارنة»، كانت أحجام هذه الزواحف هائلة، وأشكالها مختلفة، وقد تسلطت على الأرض ملايين السنين، ثم انقرضت ...
ونزلنا صغارا من الشجر، وقد كسبنا من الإقامة عليه عيني الوجه وكذلك اليد، فلما استقر بنا المقام على الأرض كبرت جثتنا كما كبرت جثة الغوريلا الذي لا يصعد على الشجر سوي صغاره، وأيضا لأننا صرنا نتناول باليد، استغنينا عن الذنب، بل ربما كنا استغنينا عنه قبل النزول إلى الأرض؛ لأن هذا هو الشأن حتى في الجيبون الذي يسلك سلوك البهلوان على الغصون، والذي نظن أنه لذلك كان يجب أن يحتاج إلى الذنب، ولكن المرجح أن الأيدي قد قامت مقام الأذناب حتى ونحن على الشجر.
والفرق بيننا وبين الأربعة الأخرى أننا لم نتخصص مثلها على الإقامة في الشجر، حتى الغوريلا التي تركت الشجر الآن قد تركته متأخرة؛ لأن قدميها لا تصلحان للسير كما تصلح أقدامنا، ولأن إبهام القدم يواجه الأصابع ولا يستوي معها في صف كما هي الحال عندنا.
وأبعد الخمسة منا، وهو الصرخة النائية لحياة قديمة اشتركنا فيها، هو الجيبون، وهو آسيوي يعيش في الأقاليم الشرقية الجنوبية من آسيا وكذلك في سومطرة وبورنيو، وهو يختلف عن الأربعة الأخرى من حيث إن له صوفا بدلا من الشعر الذي تتسم به، وكذلك يتسم هو بتضخم إستي كما هو الشأن في بعض القردة ، ولكن من الباحثين من يقول: إن هذا التضخم الإستي عام بين الخمسة حتى الإنسان، وإن الفرق بينهما درجي فقط، وبشرته سوداء مثل الزنوج، ومن هنا يجب أن نشك في قيمة الضوء من حيث إنه الأصل في البشرة السوداء؛ لأن هذا الجيبون يكسو بشرته صوف يحميها من الضوء، ومع ذلك هي سوداء، ولا بد أن هناك أسبابا أخرى لسواد البشرة عند زنوج البشر وعند الجيبون.
والجيبون هو أصغرنا جميعا من حيث الوزن والقامة، فإن قامته لا تزيد على تسعين سنتيمترا، وهو ضامر البطن، ونحن الأربعة بالمقارنة به، نعد مستكرشين، وهو أبرعنا في الانتقال بذراعيه كما نحن أبرع الخمسة في الانتقال بالساقين، وهو حين يتعلق بالغصون لا يستعمل إبهامه، بل أحيانا يقنع باستعمال إصبعين للتعلق كأن إصبعه خطاف، ولذلك لا يقبض على الغصن ولكنه يتعلق بانحناء خطافي في الأصابع، وأنيابه طويلة مؤثلة بخلاف الحال عند الأربعة الأخرى؛ لأن الأنياب عندها قصيرة مسحاء لا تنتهي بإبرة حادة، وهو ألوف، ولكنه عندما يعاشرنا لا يتمالك من الاختلاس؛ لأن ذكاءه يتجاوز أمانته.
ووطنه الأعم هو الشجر الذي لا يتركه سوى ساعة أو ساعتين في النهار، وهو يمشي ينتصب على قدميه.
أما ثاني الخمسة فهو الأورانج الذي يعيش في سومطرة وبورنيو في الأقاليم التي يعيش فيها الجيبون، هو الحيوان الانفرادي بيننا نحن الخمسة؛ لأننا اجتماعيون نعيش كلنا جماعات، إلا الأورانج فإنه ينفرد على الشجرة، وأنفه وفمه يبرزان وشعره أحمر، ولكن لحيته بطريركية سابلة برتقالية اللون، وهو يسير على الأرض في بطء وحذر، وهذا لأن إبهام قدمه الذي يخلو من الظفر أحيانا يواجه أصابعه؛ أي: أن قدميه مثل يده، وذراعاه طويلتان وساقاه قصيرتان بعكس الحال عندنا نحن البشر، وبين قواعد أصابعه أغشية، وأصابعه لا تقبض على الغصن ولكنها تتعلق به كالخطاف كما يفعل الجيبون، وصغار الأورانج كصغار البشر تتعلق وتتدلل وتصيح وراء الأم، بل هنا يجب ألا يفوتنا أن صغارنا نحن الخمسة تتشابه كثيرا في تفاصيل الجسم والوجه والأخلاق.
وكل من الأورانج والجيبون يتناول الماء بيده ثم يشرب من يده؛ أي: أنهما لا يلعقان، ودماغ الأورانج لا يختلف عن دماغ الإنسان إلا من حيث الحجم.
أما ثالثتنا فهو الغوريلا، ووطنه إفريقيا، في الأقاليم النبياء من الكونجو، وهو أثقلنا؛ إذ يبلغ وزنه 500 أو 600 رطل، وهو شجري ما دام في طفولته وصباه، فإذا كبر لم يكد يعرف الشجر، وهو في الوجه من حيث حركة الأعضاء ولحظة العين بشري السحنة، وقدمه مستوية، وهو حين يعدو يتساوى مع الإنسان في السرعة أو يكاد يسبقه، وهو حين يقعد يأكل كل ما حوله من أوراق الشجر، ولذلك كان بطنه ضخما كأنه بهيم، وهو يسير جماعات كل 20 أو 30 معا، وعندما يقعد ليستريح على أليته يضم ذراعيه مكتوفتين على صدره، وهو ينام على ظهره أو جنبه ويتوسد ذراعه، وهو مثل الأورانج يثبت للخصم ولا يفر.
أما الشمبنزي، وهو أقرب الخمسة إلينا نحن البشر، فيستوي عنده الشجر والأرض؛ إذ هو يتسلق كما يمشي، وهو إفريقي مثل الغوريلا، وهو ينتصب في القامة أو يكاد، ولذلك يتعلم الانزلاج ويمارسه في طرب وخفة، ويعيش مثل الغوريلا في غابات إفريقيا الغربية، وهو يسير جماعات كل منها نحو ثمانية أو عشرة، ويأكل الفواكه، ولا يبالي أن يعيش بجوار القرى، ولكنه إذا أحس أن أحدا يتجسس عليه ترك مكانه إلى آخر، ولا يزيد وزنه على مئة رطل، وهو بالمقارنة إلى الأورانج يعد انبساطيا يفرح بالاجتماع ويلعب وينشط إلى المرح بخلاف الأورانج الذي يعد انطوائيا يعيش منفردا ولا يكاد يعرف معنى للمؤانسة، والشمبنزي سريع إلى التعلم، فهيم يتناول طعامه بالملعقة، وعندما يعاشرنا يكتسب منا أخلاقا بشرية، فإن الندم يبدو عليه عندما يخطئ عمدا أو عفوا، ولكنه عندما يسن يؤثر الانفراد ويتجنب المزاح، وكثيرا ما يصلع، فيتخذ سحنة بشرية.
أما نحن البشر فنختلف الاختلاف الأكبر عن هذه الأربعة المتقدمة من حيث إن حجم الدماغ عندنا أكبر مما هو عندها، وأيضا من حيث إن إبهام اليد تواجه الأصابع ولذلك نحسن القبض والتناول أكثر منها، وقد تركنا الشجر تركا تاما، ولا يقاربنا في هذا سوى الغوريلا ، والقدم عندنا مقنطرة نمشي على أرساغنا ثم نندفع فوق أصابعنا، في حين أن أقدام الأربعة الأخرى مسطحة، ولذلك لا يسهل عليها المشي كما يسهل علينا، لكن أذرعتنا لا تزال طويلة، مما يدل على أننا عشنا كثيرا على الشجر، ودماغنا يكبر دماغ الغوريلا بثلاثة أضعاف، ويجب ألا ننسى أن القامة المنتصبة العمودية عندنا هي التي هيأت لنا حمل هذا الدماغ الثقيل؛ لأننا نحمله حملا عموديا فلا يرهقنا، ولم نكن نستطيع أن نحمله لو كنا نمشي على أربع، والفم والأنف يتراجعان عندنا؛ لأن اليد تقوم بالتناول بدلا من الفم، والأنف أصبح صغير القيمة؛ لأن العين جعلتنا تستغني بالنظر - أو نكاد - عن الشم، وزيادة الحجم في نظر الطبيعة ليست ذات قيمة كبيرة، كما ترى هذا إذا اعتبرت الكلاب، فإن بينها كلب سان برنار الذي يزيد وزنه على ثلاثين رطلا، وكلب لولو الذي قد لا يبلغ رطلا أو رطلين، ودماغنا، وهو أعظم ما يميزنا من هذه الأربعة الأخرى، يزيد أضعاف ما هو عند الغوريلا أو الأورانج أو الشمبنزي، وليس هذا شيئا عظيما؛ لأننا والأورانج سواء من حيث التشريح المخي بلا أدنى اختلاف.
ولنا جميعا وجوه متشابهة، فنحن الخمسة نبدو للعالم بوجوه تتشابه؛ لأن العينين تتقاربان، ولنا أيد للتناول، وجميعنا قد استغنينا عن الأذناب، ولكن ما تبقى من الذنب عندنا أكبر مما تبقى منه عند الأربعة الأخرى، وجميعنا نمشي على أقدامنا بفروق، بعضنا قد ترك الشجر بعض الوقت، وأحدنا «نحن» قد ترك الشجر كل الوقت.
قال هوكسلي: «إن الإنسان يشبه هذه الأربعة الأخرى، كما يشبه كل واحد منها الآخر، وهو يختلف عنها كما يختلف كل واحد منها عن الآخر» ثم يقول: «إن الفروق الجسمية التي تفصل الإنسان من الغوريلا والشمبنزي ليست عظيمة إلى الحد الذي تبلغه الفروق بين القردة العليا والقردة الدنيا».
والفروق بين البشر كبيرة، فإن أنف الزنجي الأفطس وأنف السويدي الأشم يختلفان اختلافا عظيما، وكذلك بشرة الزنجي السوداء وبشرة الأوروبي البيضاء قد أحدث الاختلاف بينهما الثاني للأول آلافا من السنين، والصيني أملط أو يكاد، والأوروبي شعراني وأحيانا نجد على بعض الأجسام البشرية زغبا صوفيا، يكثر في فرنسا وإيطاليا بين الفتيات له لمسة حريرية جاذبة وحبذا الإنسان يعود فيكتسي بهذا الصرف الناعم ويستغني به عن الملابس، وبعض هذه الفروق يمكن تعليله بالمناخ، مثال ذلك أن السويدي أو النرويجي الذي يعيش في مناخ بارد بالقرب من القطب يجب أن يكبر أنفه وتضيق المسالك الداخلية فيه حتى لا يفجأ الهواء البارد رئتيه، أما الزنجي الذي يعيش في إفريقيا الحارة فينفطس أنفه وتتسع مسالكه الداخلية حتى يجتازها الهواء بسرعة وبلا عائق، والهواء الحار يتمدد فيحتاج الزنجي كي يحصل على حاجته من الأكسجين إلى مقدار من الهواء يزيد على المقدار الذي يحصل عليه الأوروبي.
ولكن مع جميع هذه الاختلافات بيننا نحن البشر ما زلنا نوعا واحدا يتفرع إلى سلالات عدة يتم بينها التلاقح ولا يؤدي إلى نسل من «البغال» العقيمة.
والفروق بيننا وبين القردة الأربعة الأخرى كبيرة، وأهمها بالطبع هو المخ، ولكن هذا المخ ما كان ليصل إلى ضخامته الحاضرة بل ما كان لينمو في الذكاء لولا اللغة التي جعلت التفكير الدقيق ممكنا، ولولا اليد التي جعلت الحضارة ممكنة بما لها من إبهام يجيد التناول، فميزتنا الكبرى على القردة الأربعة الأخرى ليست المخ الكبير وإنما هي اللغة واليد.
الدماغ واليد واللسان
وجد البشر، منذ شرعوا يفكرون، أنهم في حاجة إلى الإيمان بغيبيات تقوم مقام الاقتناع بالمنطق؛ لأن وسائل المنطق لم تكن مكملة لديهم، ولذلك سلموا أو آمنوا بأشياء كثيرة، بما أسموه «ما وراء المادة»، ومهما يكن اختلافهم في هذه الغيبيات فإنهم أجمعوا على اتخاذ عقائد ارتضوها ووجدوا فيها طمأنينة أو وسيلة للخير والعدل.
وما دامت معارفنا ناقصة فإن منطقنا يبقى ناقصا، ولذلك نحن نلجأ من وقت لآخر إلى غيبيات نضع فيها البصيرة والحدس مكان التعقل والمعرفة، فنحن مثلا نجد في التطور «نظرية» تقدم البراهين الناصعة على حقيقتها، ولكننا ننظر إليها من زاوية أخرى باعتبارها «مذهبا» لا نعتمد فيه على الحقائق ولكن على العقائد، وليس دستورنا في هذا المذهب هو المنطق ولكنه البصيرة.
إني «أعتقد» أن موكب التطور منذ ملايين السنين إلى الآن وبالنقطة التي وصل إليها الإنسان، يجيز لنا أن نقول: إن غاية هذا التطور هو الوجدان؛ أي: أن نتعقل هذه الدنيا أو هذا الكون تعقلا موضوعيا يتجاوز انفعالاتنا الذاتية؛ أي: أن نفهم الدنيا على حقيقتها الخارجة عنا وليس وفق إحساسنا الداخلي بها.
ونحن هنا إزاء غيبيات جديدة، ولكن البرهان فيها لا يقتصر على العقائد؛ لأن المعارف تتحيز جزءا كبيرا منها، فنحن البشر لا نختلف من الحيوان من حيث إننا نعرف الأشياء وإنما من حيث نعرف أننا نعرف، وهذا هو الوجدان، وهو الذي يحملنا على التعقل ومحاولة الفهم في استقلال من ذاتيتنا، ولذلك نعتقد أيضا أن تطورنا القادم سوف ينحو نحو الزيادة في الوجدان حتى نصل إلى المطابقة، فلا نخطئ المعرفة بحركات الذرة أو أجزائها، بل نتجاوز ذلك أيضا إلى أن نحس إحساسها ويصبح وجداننا كما لو كان «حاسة كونية»، حتى إذا كنت على الأرض «وجدت» ما يجري في نجوم المجرة وجدان المعرفة والإحساس الموضوعي.
ولست أشك أن هناك من يعترض بأن ما لدينا من حقائق لا يجيز هذا الإسراف في الأمل، وجوابي أني هنا إزاء غيبيات ولست إزاء حقائق.
اعتبر مثلا هذا الانقراض التام للزواحف الكبرى التي ملأت هذه الدنيا نحو ثلاثين مليون سنة أو أكثر. ثم اسأل لماذا انقرضت جميعها؟
لا نستطيع أن نجيب على هذا السؤال بالمنطق والمعرفة، ولكننا نبصر من خلال التطور باعتباره مذهبا فنقول: إنما انقرضت؛ لأنها انحرفت عن غاية التطور وهي العقل الوجداني بحيث كان هدفها التضخم اللحمي أو الجسمي، فقد كان البرونتوسور، وهو أحد هذه الزواحف، يزن 37 طنا، ولكن دماغه لم يكن يزيد على أوقيتين، ولو أن دماغه قد نما على قياسنا البشري لوجب أن يبلغ 2072 رطلا؛ أي: نحو طن؛ لأن المخ عندنا يبلغ جزءا من أربعين من وزن الجسم؛ أي: إذا كان وزننا «120» رطلا كان وزن المخ ثلاثة أرطال تقريبا.
وكان الانحراف عظيما في الديناصور وهو أحد هذه الزواحف بل أرقاها، فإن تخضم جثته احتاج إلى مركز عصبي آخر غير الدماغ الذي في رأسه، فتكون هذا المركز، وهو دماغ آخر، في أسفل ظهره، وكذلك كي يختص بإدارة ساقيه اللتين كانتا تحملان هذه الجثة الضخمة، وكأن الغاية من التطور قد أصبحت حركة الحيوان وليست فهمه للدنيا.
والدماغ البشري يعد على وجه عام أكبر الأدمغة في العالم، وصحيح أن دماغ الفيطس يزيد علينا بمقدار ستة أضعاف، ودماغ الفيل يزيد علينا بمقدار ثلاثة أضعاف، وهناك دماغ الكنار، ذلك العصفور المغرد الذي يبلغ دماغه جزءا من اثني عشر من وزن جسمه؛ أي أنه بالمقارنة إلى جسمه أكبر من دماغ الإنسان، ولكن يجب ألا ننسى أن دماغ الطفل البشري عقب ولادته يبلغ في الوزن سبع جمسه، والدماغ البشري بالمقارنة إلى الجسم البشري أكبر من دماغ الفيل ودماغ الفيطس بالمقارنة إلى جسميهما، والمرجح أن هناك ضرورات تشريحية، أكثر مما هي فسيولوجية، تجعل دماغي الفيل والفيطس كبيرين، كما هي الحال أيضا في دماغ الطفل ودماغ الكنار، وأن هذا الكبر ليس برهانا على طاقة كبيرة في الذكاء.
ولكن مع كل هذه الاعتبارات يجب ألا ننسى أن الموكب العام للتطور كان نحو الزيادة في الدماغ، ومن هنا إيماننا بأن غاية التطور هي الفهم والتعقل.
على أن هناك عوامل كثيرة جعلت دماغ الإنسان ينمو ويتضخم إلى حد الشذوذ الذي هو فيه؛ إذ ليس شك أننا نعد شاذين في هذا التضخم بالمقارنة إلى الحيوانات، وهذا الشذوذ يتضح أكثر عندما نعرف أن المجانين من البشر، سواء أكان جنونهم نيوروزا أو سيكوزا، يترجح عددهم بين عشرة ملايين وعشرين مليونا، هذا المجنون هو البرهان على أن وجداننا لا يزال جديدا في هذا العالم؛ أي: أنه لم يستقر في كياننا النفسي، ولكنه برهان أيضا على أننا قد أسرعنا الخطى نحو الغاية وأننا في هذا الإسراع نهرول ونسقط.
وقد كانت اليد من أعظم العوامل التي عملت على تكبير الدماغ البشري؛ لأنها آلة فنية للتجسيم جعلت التعبير ممكنا وزادت خيال أسلافنا وجرأتهم على الاختراع، وكان التفاعل بين الدماغ واليد تفاعل المهارة والذكاء، وكانت اليد هي التي تحمل الحجر والعصا للدفاع أو الهجوم، وهي التي تجمع الحطب للنار، وهي التي تصنع الآنية الأولى للحضارة الأولى.
ولكن اللسان كان أعظم من اليد في تكبير الدماغ؛ لأنه عين المعاني بكلمات تربطها في حدود لا تتجاوزها كيما تهيئها للطلب والخدمة، وإذا كانت اليد آلة الحضارة التي اخترعنا بها الأدوات فإن اللسان هو آلة الثقافة التي جمعنا بها المعارف للفهم والتفكير، وكلنا نعرف أن الإنسان قد عاش ملايين السنين وهو من حيوانات الليل التي تسعى في الظلام، وأنه لهذا السبب نقل عينيه من صدغيه إلى وجهه كما هي الحال في الوطاويط والبوم، وأن وسيلتنا للاتصال بالعالم قد أصبحت العين، بل العينين معا بدلا من الأنف، وأن هذا كان كسبا عظيما للذكاء.
ولكن هذا السعي بالليل هبط بنا على شيء جديد زاد ذكاءنا وهو اللغة، فإن العواطف البدائية ترتسم على وجه الحيوان حول الفم والشفتين والعينين والأنف، بل إننا أحيانا نعين العاطفة باليد أو اليدين معا، فإذا كنا في الظلام عجزنا عن إبداء عواطفنا بهذه الحركات، ولكن العاطفة عندما تشتد أو تحتد تحملنا على الصراخ أو الصياح أو غير ذلك كما يفعل الكلب أو القط، فإذا تحركت أعضاء وجوهنا في الظلام لعاطفة محتدة مثلا فإنه تخرج من حناجرنا أصوات تلائم هذه العواطف، وهذه هي اللغة.
ولكن لولا الظلام الذي كنا نعيش فيه، في حياة الليل التي كنا نحياها، وبرهانها جمع العينين في الوجه؛ لولا ذلك لما احتجنا إلى اللغة؛ لأن الظلام كان يمنع التفاهم بحركات اليد أو الوجه التعبيرية وقت الغضب أو الخوف أو الافتراس أو الهجوم أو الدفاع، كانت الأصوات تخرج وفق التعبير لهذه العواطف وكانت تؤدي للأذن ما كانت تؤديه للعين وقت النهار، مثال ذلك أن الحيوان، أحد أسلافنا، كان يفتح فمه وقت الرعب من وحش قادم، فإذا كان نور النهار فتح فمه وهو صامت، وكان رفيقة يفهم ويتعاون الاثنان على الدفاع أو الهرب، ولكن إذا كان الليل فإن الحيوان يفتح فمه ويخرج صوتا يلائم هذا الرعب فيقول: آه.
ونرتقي من ذلك إلى أن تقول: إن أحد أسلافنا كان يجب أن يعبر مثلا عن معنى الشيء العالي فيرفع «في النهار» شفته السفلي إلى فوق فقط، فإذا كان الظلام رفع شفته إلى فوق أيضا ولكنه يخرج صوتا يوافق هذه الشفة المرفوعة مثل: فوق بالعربية و
Haut
بالفرنسية و
High
بالإنجليزية، وهي نفسها الكلمة الفرنسية.
فإذا أراد أن يعبر عن معنى الشيء السفلي فإنه في النهار يعقد شفته ويمدها إلى أسفل ولا يتكلم، ولكنه إذا كان الليل فإنه يصيح مع عقد شفته إلى أسفل فيقول: تحت بالعربية و
bas
بالفرنسية و
low
بالإنجليزية.
وهكذا نشأت اللغة البشرية؛ أي: أنها التعبير الصوتي وقت الظلام لحركات الشفتين حتى تسمع الأذن حين تعجز العين عن الرؤية.
واعتبر كلمات: كريه، بغيض، مقيت، قذر، وسخ، اشمأز، وبالفرنسية
Mal، Mauvais, Degout, Sal.
وبالإنجليزية
Dirty, Disgust, Silly, Bad
فإنها جميعها في اللغات الثلاث أصوات تخرج من حركة واحدة من امتداد للشفتين للكراهية والاشمئزاز.
وقد كان ماكس مولر يقول: إننا لا نستطيع أن نفكر بلا كلمات وإلا إذا لم تكن هناك كلمة، فيجب أن تكون هناك إيماءة أو رمز كما هو الشأن عند الخرس، والسيمائية، أو علم المنطق اللغوي، يسمى نفسه علم الرموز أو الإيماءات، بمعنى أن الكلمة هي إيماءة أو رمز.
وتجد السيكلوجية السلوكية أن التفكير هو الكلام الصامت؛ أي: أننا نفكر بكلمات ولكننا لا ننطقها، وظني أن الحجة قوية هنا عند السلوكيين، ولا عبرة بأن يبقى من تفكيرنا نحو واحد أو اثنين في المئة لا يجري بكلمات، وإنما يجري غامضا مائعا بإيماءات أخرى حتى يستقر على كلمات.
وبؤرة اهتمامنا هنا هي أن اللسان تفاعل مع الدماغ؛ أي: أن الكلام تفاعل مع الذكاء، فنما كلاهما؛ أي: أن الدماغ تضخم في جزئه الأعلى الأمامي الخاص بالتفكير كما أن اللسان حذق النطق، وكثرت كلماتنا؛ أي: كثرت أفكارنا، وأصبحت لنا ثقافة؛ أي: أفكار موروثة.
ولا نستطيع أن نسير في هذا المنطق إلا إذا سلمنا بأن عادات الآباء يرثها الأبناء؛ أي: أن الجهد الذي أنفقه أسلافنا في التعبير باللسان قد كان وظيفيا في أدمغتهم ثم صار عضويا في أدمغتنا، وسار التطور بيننا على نحو ما سار في الزرافة، حين كانت أسلافها تمط أعناقها للوصول إلى الغصون البعيدة، ثم صارت أعقابها ممتازة بأعناق طويلة لا تحتاج إلى المط، فنحن كذلك، كان أسلافنا ينطقون في جهد ويعقلون المعنى في دماغ صغير، ثم صرنا نحن نمتاز بدماغ كبير لا يحتاج إلى جهد كي ننطق ونفهم الكلمة.
وأعظم ميزاتنا اللغوية سيكلوجية؛ لأنها رفعت التفكير من مرتبة العواطف الغامضة المضطربة المندفعة إلى مرتبة الوجدان المتزن الإرادي الاختياري، ونحن الآن حين نجد شخصا نيوروزيا؛ أي: قد تغلبت وطغت عليه عاطفة ما من الحزن أو الأسف أو الخوف أو حتى الطموح والعدوان وقد اضطرب وعجز عن السلوك السوي، نحلل عاطفته الهوجاء هذه بالكلمات التي تزيد وجدانه؛ أي: تزيد فهمه الموضوعي وتخرجه من الفهم الذاتي، فيشفى ويعود سويا.
أي أن اللغة هي التي فصلت تماما بيننا وبين الحيوانات؛ لأن كل حيوان يعد في معنى ما، نيوروزيا؛ أي: مستسلما لعاطفته، ذاتيا في تفكيره، أما نحن فإن اللغة قد رفعتنا إلى الوجدان الموضوعي الذي جعل التفكير العلمي؛ أي: التفكير الدقيق، ممكنا.
فإذا سئلنا: ما الذي جعل الدماغ البشري يكبر إلى هذا الحد الشاذ بالقياس إلى الحيوان قلنا: إنه اليد أولا، ثم اللسان؛ أي: اللغة ثانيا؛ أي: التفاعل بينها جميعا، وقد كنا قبل ثلاثين أو أربعين سنة نهمل شأن اللغة في تكبير الدماغ وزيادة الذكاء باعتقاد أن اللغة شيء مكتسب أو عادة يتعودها الجيل، ثم يشرع الجيل التالي في تعلمها وأنها لا قيمة لها لهذا السبب في التطور، ولكننا الآن نؤمن يقينا، وبالتجربة، أن العادات التي يتعودها الأسلاف يرثها الأبناء، ولذلك فإن عادات أسلافنا في النطق بكلمات قد حركت الدماغ وزادت نموه ونضجه، وورثنا نحن هذا النمو والنضج في أدمغة كبيرة.
نحن نتعلم اللغة أو بالأحرى التفكير باللغة كما يتعلم الطائر الطيران، وكما أن الطيران خاصة، بل الخاصة الأولى للطيور كذلك التفكير باللغة هو الخاصة الأولى للإنسان ، ولكننا نحن والطيور ما زلنا نتعلم هاتين الخاصيتين في الطفولة، ولكن هذا التعلم لا يعني أن الطيران ليس من طبيعة الطيور أو أن اللغة ليست من طبيعة الإنسان، فإن جسم الطائر قد أعد بالجناحين للطيران، ودماغ الإنسان قد أعد للتفكير باللغة، وبعد آلاف السنين سوف تولد فراخ الطيور فتطير بلا تعليم وتدريب، كما أن أطفالنا سوف يولدون أيضا بعد آلاف السنين وهم يتحدثون؛ أي: يفكرون باللغة، منذ الشهر الأول من الميلاد.
هذا الإنسان
يصطلح المؤرخون الأوروبيون على تسمية العصور التي تقع بين 500 و1000 للميلاد بالعصور المظلمة، ذلك لأن العقل البشري خبا وأوشك أن ينطفئ، فكانت أوروبا في ظلام الجهل لا ترى رؤية بالعقل والأدب والعلم، وبقيت في الظلام إلى بدايات القرن الحادي عشر حين بزغ النور على أضعف ما يكون، ولكنه ما زال يتجمع حتى انفجر في القرن الخامس عشر.
فإذا انتقلنا من التاريخ البيولوجي وجدنا أيضا «عصورا مظلمة» فقبل نحو 70 أو 80 مليون سنة عم العالم ظلام، كأن الحياة في الاعتبار البشري قد أخفقت وسدت على نفسها طريق الرقي؛ ذلك أن الأحياء انتهت إلى أنواع من الحيوان يطلق عليها في أيامنا اسم الزواحف التي لا تزال هياكلها باقية في المتاحف، بل كذلك بيضها، تشبه إلى حد كبير التماسيح والعظايا، وكانت في الحجم تترجح بين الكلب والفيل، بل كانت تزيد أحيانا على الفيل، وكانت تعيش في كل مكان في الغابات والأنهار والسهول والجبال والبحار، وقد انقرضت لأسباب لا تزال مجهولة، ولم يبق منها، بعد تطورات مختلفة جعلتها بعيدة عن الزواحف القديمة، سوى تلك الزواحف الصغيرة والكبيرة في أيامنا، وهي لا تحيا إلا تلك الحياة السرية، تختبئ من الأحياء الأخرى وتخشى الافتراس، وتسعى في الظلام وتنجحر في النهار.
وعاشت هذه الزواحف الكبرى نحو ثلاثين أو أربعين مليون سنة، وكأن التطور قد تجمد بها، وكأن اتجاه الطبيعة نحو الإنسان بإيجاد العقل قد انحرف، فلم تعد الغاية نمو العقل، بل أصبحت نمو الجسم.
ومن قبل ذلك بملايين السنين تجمد التطور بإيجاد الحشرات التي اتجهت وجهة أبعد ما تكون عنا؛ إذ قنعت بالغريزة كأنها من الشجر حتى إن برجسون، في نزعة غيبية مسرفة قال: إن في الحياة طريقين أحدهما طريق الغريزة، وقد قطعته الحشرة إلى نهايته، والآخر طريق العقل ونحن البشر في طريقه لما نبلغ نهايته، ولو أن برجسون كان قد عاشر أيام الزواحف الكبرى لوصل إلى مثل هذا الفرض أيضا، ولكن الحياة «موسوعية» تحاول وتجرب وتبيد الأحياء الفاشلة، وتتحسس الوسائل الصغيرة لتجاربها الكبيرة.
وانقراض الزواحف الكبرى مجال للحد والتأمل، فلعلها انقرضت؛ لأنها كانت كبيرة الحجم عملاقية التركيب، ونحن نعرف أن العمالقة الشاذين الذين يولدون بيننا من البشر يعقمون؛ أي: لا يتناسلون، والفيل أكبر الأحياء على اليابسة لا يلد إلا مرة كل 35 سنة، ولكن هذا التعليل لا يكفي؛ لأنه كان بينها زواحف قدر الكلب أو الحمار أو الفرس، وهناك من يقول بأن التغيير المناخي قد أبادها؛ أي: أن الدنيا بردت فجأة ودخلت في عصر جليدي، فلم تتحمل هذه الزواحف المناخ الجديد، ولكن هذا بعيد؛ لأن التطور كان أحرى بأن يسعفها بفراء أو ريش بدلا من أن يتركها لتنقرض، وأخيرا هناك من يقول بأن اللبونات الجديدة كانت تأكل بيضها وتحول دون تناسلها، وهذا حدس لا أكثر.
ولكن بعد نحو 30 أو 40 مليون سنة من هذا الكابوس الذي جثم على العالم نجد أمارات العصر الجديد أو النهضة البيولوجية، فمن ناحية نجد الطيور ومن ناحية نجد اللبونات، وليس في أيامنا طيور قديمة تحتوى مناقيرها على الأسنان، ولكن بقاياها أو أحافيرها توجد في المتاحف، أما اللبونات القديمة فلا يزال بعضها حيا حتى في أيامنا، فإنها تبيض ولا تلد، ثم هي مع ذلك ترضع أولادها بطريقة بدائية؛ إذ يتشقق البطن ويخرج من شقوقه سائل دموي لبني تلحسه الأطفال، وهذا هو الرضاع البدائي كما نراه في حيوانين هما البلاتيبوس في أستراليا والنمال أو آكل النمل في أمريكا الجنوبية.
وظهور الطيور هو خطوة كبيرة جدا في التطور؛ لأن الإحساس عند الطائر انتقل من الأنف إلى العين، فإلى ظهور الطيور كانت جميع الأحياء، في البحر واليابسة، تسعى الطعام والأنثى بالأنف، ولكن ميدان الشم صغير محدود، أما ميدان العين فيتسع إلى الآفاق ويزيد الملاحظة والمقارنة فيزيد الذكاء.
وحوالي 30 مليون سنة قبل عصرنا نجد أحياء من اللبونات الجديدة تعيش على الشجر وتعتمد على عيونها، وهي مضطرة إلى ذلك غير مختارة؛ لأن المجال للشم على الشجرة صغير جدا، ولكن هذه اللبونات لم تكن مسلحة بالريش لكي تطير بالأجنحة وتنجو بنفسها أو تنتقل بها من شجرة إلى أخرى، ولذلك احتاجت هذه اللبونات الجديدة إلى أن تعتمد في التنقل على الأغصان أو الانتقال من شجرة إلى أخرى على أيديها.
وأبعد إيماءة إلى أصلنا هو الليمور، وهو أنواع كثيرة تختلف أحجامها من حجم الفأر إلى حجم الثعلب، وهو حيوان ليلي يسعى في الظلام ثم يختبئ وينام في النهار، ولأنه ليلي جمع عينيه في وجهه مثل البومة التي تصيد في الليل، ووجهه غير بشري، فإن أنفه يجتمع بفمه في فقم بارز، وشفته العليا مشقوقة، ومنطقة أنفه وفمه رطبة كالبقر وهو يستعمل يديه الاثنتين، لا الواحدة للتناول، وقد يتناول طعامه أحيانا بفمه، وهو من أقدم اللبونات كما يدل على ذلك أنه يعيش في شرق آسيا وشرق إفريقيا «في مدغشقر» ولا يعيش فيها بينهما؛ أي: أنه نشأ قبل الانفصال الجيولوجي بين هاتين القارتين، هذا الانفصال الذي يملأ ثغرته الآن المحيط الهندي.
وهذا الليمور هو إيماءة أولى للإنسان، ولكن ما أحقرها من إيماءة! فإنه لا يزال يحتفظ بذنبه، وذكاؤه يقل عن ذكاء الكلب، ومخه أمسح بلا تلافيف.
وليس من شك في أننا نحن البشر قد قضينا فترة طويلة من تطورنا على الشجر اكتسبنا بها جملة أشياء ما كنا لنكسبها لو أننا قمنا بالبقاء على اليابسة، ذلك أن الشجر علمنا وعودنا التسلق باليدين، فلم تعد يدانا للمشي فقط بل صارتا أيضا للتسلق، وبهذا التسلق نفسه تهيأت اليدان للإمساك والتناول، ثم كسبنا بالمعيشة على الشجر الاعتماد على العين بدلا من الاعتماد على الأنف، فزاد وجداننا؛ أي: درايتنا بالوسط الذي نعيش فيه؛ لأن الحيوان الذي يسعى بأنفه ويسترشد بالشم لا يدري إلا البقعة التي هو فوقها أو القليل مما حولها، ولكن الحيوان الذي يقعد على غصن الشجرة أو يرتفع إلى غصونها العالية يرى بعينيه جملة كيلو مترات محيطة بالشجرة، ونحن هنا كالطير، ولكننا نمتاز على الطير من حيث إن أيدي الطير صارت أجنحة، أما أيدينا فبقيت للتسلق ثم للتناول.
وإذا كان الليمور إيماءة أولى، فإن الطرسير إيماءة ثانية، فإنه حيوان يتفق مع الليمور من حيث أنه ليلي كالبوم، والبومة لأنها تصيد في الظلام أو الغبشة، تحتاج إلى أن تكون عيناها في وجهها، لا في صدغيها كالحمامة أو الدجاجة؛ لأنها تحتاج إلى التمييز الصحيح للأشباح بعينين اثنتين تريان معا، ولا بد أننا قضينا فترة طويلة من تطورنا ونحن نسعى في الليل على الشجر، كما هو الشأن في الليمور والطرسير، وهذه الفترة هي التي جمعت عينينا في وجهنا ونقلتهما من صدغينا، فصرنا ننظر إلى الأشياء بعينين نظرا كاليدسكوبيا؛ أي: أن الصورة التي تنقلها إحدى العينين تراجعها العين الأخرى وتصححها وتنقل ظلالها، فتتجسم الرؤية، وهذا المنظر الكاليدسكوبي هو ما يطمع في تحقيقه هذه الأيام المشتغلون بالأفلام السينمائية؛ أي: أنهم يرغبون في تجسيم الصور حتى لا تكون فتوغرافية فقط، وجميع الحيوانات، باستثناء القليل، كالإنسان والقردة العليا، وطيور الليل، تنظر النظر الفتوغرافي بعين واحدة في أحد الصدغين، فالرؤية عندها غير مجسمة، أو غير متقنة.
ولكن حياتنا على الشجرة أكسبتنا ميزة أخرى لا تقل عن ميزة الاعتماد على العين؛ أي: على العينين معا، دون الاعتماد على الأنف، هي ميزة استخدام اليد للتناول، فإن التسلق على الشجر يهيئ اليد والأصابع للتناول؛ لأننا تعلمنا من القبض على الغصن كيف نقبض بعد ذلك على العصا أو الحجر، وكيف نتناول الثمرة باليد وننقلها إلى الفم بدلا من أن نمد شفتينا إلى الثمرة، وساعدنا هذا على وضع جديد للوجه البشري؛ لأن الفكين تراجعا للوراء ورقت الشفتان، فصار لنا وجه مستقيم عموديا ولا يبرز منه الفكان من أسفل، وساعدنا هذا بعد ذلك على أن نتخذ الوضع العمودي لأجسامنا بدلا من الوضع الأفقي الشائع بين الحيوانات.
اعتبر مرة أخرى الميزات العديدة التي نلناها من حياة الشجر: (1)
إن عقلنا أصبح عقل العين بدلا من عقل الأنف، عقل الآفاق البعيدة والمقارنة الكثيرة، وما زلنا نقول: ما رأيك؟ يجب أن تتبصر، وهذا هو التفكير العيني. (2)
واكتسبنا أيضا القامة العمودية، وكان تسللنا على الشجر هو التدريب الأول لذلك. (3)
اكتسبنا من الشجر استعمال اليد لتناول الطعام وغيره بدلا من استعمال الفم. (4)
واكتسبنا هذا الوجه البشري الذي لا يبرز فيه الفكان؛ لأننا لم نعد نتناول الطعام بالشفتين.
ولكن حياة الشجر علمتنا أيضا أخلاقا جديدة، ما كنا لنصل إليها لو أننا بقينا على اليابسة، منها عناية الأم بأطفالها أو هذه الأمومة البشرية في التزامها لأطفالها مدة طويلة، وكذلك اعتماد الأطفال على الأم، وهذه المدة الطويلة قد هيأت الفرصة للتربية.
ذلك أن سكنى الشجر لغير الطيور خطرة على حيوان لبون لا يطير إذا هاجت الريح وضربت الغصون، أو إذا تسلق ثعبان وحاول أن يأكل الصغار، وهي أخطر على الأطفال الذين يجب أن تحرسهم الأم وتدأب في المحافظة عليهم من السقوط أو من عادية الوحش، وهنا الفرصة العظيمة للنمو العقلي مدة الطفولة.
ونستطيع أن نصف الإنسان منذ بداياته الأولى بأنه حيوان عيني، لا حيوان أنفي، وأنه أيضا حيوان عمودي لا حيوان أفقي، وأنه أيضا حيوان يدوي.
ولكن هذه البدايات نجدها جميعا في الليمور الذي تنأى أصوله إلى ماض سحيق، برهاننا عليه أنه كان يعيش قبل الانفعال الجيولوجي بين إفريقيا وإندونسيا حيث لا يزال هو إلى الآن يقيم في هاتين المنطقتين: مدغشقر وإندونيسيا.
ولكن هذه بدايات فقط في الليمور لأنها غير تامة، فإن عينيه لم يتقاربا التقارب البشري، وهو لا يزال يمشي على أربع مع القدرة على الوقوف والتسلق، فإذا انتقلنا من الليمور إلى الطرسير، وهو حيوان ليلي كالبومة وجدنا تقارب العينين، ووجدنا ميزة أخرى هي أنه لا يمشي ولكنه يثب على قدميه كما نثب نحن حين نكون مقيدين، وهذا الوثب قد انتفعنا به؛ لأنه نقل عبء الجسم من أصابع القدمين إلى رسغيهما، فكانت القامة العمودية.
وظهر الطرسير، في تجاربه البشرية الأولى، من أقل من ثلاثين مليون سنة، وكنا نحن هذا الطرسير ننظر في الظلام كالبوم ونشب على رسغينا، ونأكل كل شيء بلا تخصص كما نفعل الآن، فلم نقتصر على الثمر ولم نقتصر على الحشرات، فنحن من حيث الطعام «موسوعيون» لا نتخصص.
والطرسير مع ذلك حيوان سحيق؛ لأن الفرق بينه وبين الغوريلا أكبر جدا من الفرق بين الغوريلا وبين الإنسان، فإن مخه لم يغط إلى الآن مخيخه كما هو الشأن في القردة العليا.
ولأمر ما نجهله نزل الإنسان الأول، وهو شيء بين الطرسير والقرد، إلى اليابسة، ولعل السبب في نزوله من الشجر أنه تضخم فكبر جسمه وثقل ولم تعد الأغصان تتحمله أو لم يعد هو يجد الخفة في التنقل عليها، واستطاب الإقامة على اليابسة حيث الأمن فيها على الأطفال مكفول؛ لأن سقوط الأطفال من الشجر كان من الهموم العظيمة التي كان يعانيها أسلافنا قبل ملايين السنين، واستطاع أن يسعى على اليابسة، يسعى بالوثب أولا ثم بالمشي ثانيا بالاعتماد على الرسغين.
ولكنا لما تركنا الشجر كانت أذنابنا لا تزال عالقة بنا، بل هي لا تزال كذلك في العصعص الذي يجمع عندنا من الفقرات ما يكفي لذنب محترم يليق لأي حيوان على الشجر، ويتعلق بالغصون، وكل ما نحتاج إليه كي نسترد أذنابنا قليل من اللحم والجلد ... ولكن إقامتنا على اليابسة أغنتنا عن الأذناب؛ لأن اليد كانت قد تحررت فصارت تتناول وتذب الهوام وتقتل الحشرات، وفي حيوان مثل الإنسان قد استقر على أن يعيش على اليابسة، يعود الذنب عبئا يجب التخلص منه وقت القتال، وكان لا بد من زواله.
وكان لا بد من أن نترك الشجر، أولا للأمن الذي ذكرنا؛ لأن حياة الصغار على الغصون كانت عرضة لأخطار السقوط، وثانيا لأن غذاءنا من الأثمار لم يعد يكفينا، وخاصة لأن الأثمار ليست دائمة؛ إذ هي موسمية، وكسبنا من اليابسة جملة أشياء:
أولها: أن اليد التي كانت قد كادت تتخصص في القبض على الغصون قد أصبحت مكلفة واجبات جديدة في التناول، فتطورت الإبهام حتى صارت كأنها يد أخرى تواجه الأصابع الأربع لا تقف معها في صف كما هو الشأن في الأورانج أوتان الذي لا يزال ملازما للشجر، فهو يحسن القبض على الغصن والتعلق به، ولكنه لا يحسن التناول للحجر أو العصا، ثم اكتسبنا القامة العمودية للمشي.
وقد احتجنا في هذا الانتقال من الشجر إلى اليابسة، ومن القامة الأفقية إلى القامة العمودية، إلى رباطات جديدة تربط أمعاءنا حتى لا تسقط، ولكن هذه الرباطات لم تتأصل في طبيعتنا إلى الآن، كما نرى مثلا من هذا المرض البشري، والبشري فقط؛ أي: الفتق، حين تنهار الأمعاء عند الرجل وتسقط في الكيس أو حين تفتق صرة المرأة وتخرج، فإن هذا المرض لا يمكن أن يصاب به كلب أو بقرة أو فأر، نصاب نحن به للقامة العمودية التي اتخذناها، ولما نحقق جميع أدواتها التي تحميها وتبقيها في صحة وسلامة، وقد وقعنا بهذا الوضع العمودي في تناقضات داخلية؛ لأن ضيق الحوض عند الرجل يقيه من الفتق ولكنه في الوقت نفسه يجعل الولادة عسيرة عند المرأة، ثم أدى هذا الوضع العمودي إلى زيادة العبء على القلب الذي نشأ للوضع الأفقي، ولذلك فإن أقدامنا تبرد، وتنشأ لنا الدوالي؛ أي: أن الأوردة تتورم في الساق لعجز القلب عن جذب الدم من تحت إلى فوق، ثم يمرض القلب لزيادة المجهود عليه في رفع الدم من القدم إلى الرأس.
العين، واليد، والإبهام، والرسغ، هذه الأربعة نقلتنا من طور الحيوان إلى طور الإنسان، وهيأت لنا حالا جديدة أو وضعا جديدا استطعنا به أن نجعل الرأس كبيرا يتسع للمخ الكبير الذي كسا المخيخ بل طغى عليه، ولولا هذه الأربعة لما استطعنا أن نصل إلى الوجدان والذكاء والمعرفة ثم الحضارة والرقي؛ لأن المخ البشري، بالمقارنة إلى الجسم، هو أكبر مخ على هذا الكوكب، ولولا أن قامتنا عمودية لما استطعنا أن نحمله ولو كان هذا المخ البشري في رأس الذئب أو الفرس لكسر عنقيهما؛ لأنهما يحملانه حملا أفقيا لا عموديا.
ولكن مخا كبيرا بلا عينين تنقلان إليه أخبار الوسط لا قيمة له؛ إذ لن يجد المادة التي تحمله على التفكير والمقارنة والاستنتاج؛ أي: الذكاء، ثم كذلك مخ بلا يد تصنع الأدوات والآلات لن يؤدي إلى اختراع حضارة، ثم كل هذا لم يكن مستطاعا لو لم نقف على أرساغنا؛ أي: على كعوبنا وقفة عمودية تتحمل عبء المخ الكبير، ثم بعد ذلك اللغة التي قطعت ما بيننا وبين الحيوان ورفعتنا إلى السماء.
العائلة الأبوية
العائلة هي أصل المجتمع، وهي أيضا أصل من أصول المعرفة والذكاء، وقد كتب كثيرون عن أصل العائلة ولكن خيرهم في هذا الميدان هو روبرت بريفولت صاحب كتاب «الأمهات» الذي سيبقى سنين كثيرة مرجعا لبحث هذا الموضوع.
العائلة أصيلة في جميع اللبونات، ولكنها تختلف في درجتها؛ إذ ليس هناك حيوان، مهما انحط، يخلو من معنى العائلة؛ ذلك لأن الأم ترضع أطفالها وقتا ما قد لا يزيد على أسابيع في بعض الحالات وقد يبلغ سنة أو يزيد، وما دام هناك رضاع فهناك أم تجتمع بالأطفال التي تلتف حولها وتحتمي بها وتنصت لإشارتها، فهناك عائلة في معنى ما، ولكنها عائلة سريعة الزوال لأن الأطفال لا تكاد تنتهي من الرضاع حتى تترك الأم.
على أننا يجب ألا نستهين بهذه المدة التي يقضيها الأطفال مع الأم، فإن الزواحف التي سبقت ظهورنا نحن اللبونات كانت تبيض وكانت عنايتها كلها مقصورة على البيض حتى إذا انفقأ تركت الأطفال، وكان على كل طفل عندئذ أن يسعى مستقلا لا يعرف له أما فضلا عن أب فلم يكن هناك مجال لأن يتفاهم مع أمه: يعبر عن رغبته أو نفوره وعن خوفه أو جوعه، وجميع هذه العواطف تحرك الذكاء الاجتماعي؛ لأن هذه الأم نفسها مضطرة إلى أن تنقل إلى هؤلاء الأطفال إحساساتها أيضا وتدعوهم إلى تقليدها في الهرب والهجوم والأكل وسائر السلوك ونحن هنا إزاء عائلة مصغرة قد يتعلم الأطفال فيها عدة أسابيع كما في الفئران أو عدة أعوام كما في الزرافة والفيل والبقرة، وفي هذه الأسابيع أو السنين يتعلم الأطفال ثقافة الأسلاف، ثم يتفرق الجميع عقب الرضاع إذا كان الحيوان انفراديا كالقطط، أو تجتمع الأفراد جماعات إذا كان الحيوان اجتماعيا كالبقر.
ومحض انتقال الحيوان من أن يبيض إلى أن يلد قد رفع الذكاء لأن الزواحف العصرية لا تعرف أولادها؛ إذ هي تتركها عقب انفقاء البيض، فالأولاد لا تتذكى بالاجتماع والتفاهم مع الأم، أما اللبونات فتمتاز بالرضاع وما يلازمه من تربية وتذكية.
ولكن مدة الرضاع ليست كافية للوصول إلى درجة ممتازة في التربية وتحريك الذكاء، وقد اضطرتنا إقامتنا نحن على الشجر إلى أن نحتمي بالأم من أخطار السقوط من الأغصان، فطالت طفولتنا إلى السنين بدلا من الشهور، وازددنا بذلك تربية وذكاء، حتى إذا كبرت أجسامها وثقلت وأصبحت الإقامة على الأغصان خطرة تركنا الشجر إلى الأرض، ولكن بقيت لنا هذه الميزة وهي أن طفولتنا تمتد مع الأم، وربما مع الأب، إذا لم يكن هذا الأب نزقا يجري مع أهوائه ويبحث عن الطريف من الجمال في نسوة أخريات.
والقردة الدنيا، مثل البابون الذي نراه في شوارعنا، يقتصر فيها معنى العائلة على مدة الرضاع، وكبار ذكرانها تستولي على الإناث وتترك صغار الذكران بلا إناث فتفشوا الشذوذات الجنسية بينهما كما تفشو بين البشر حين يحرمون النساء.
ولكن القردة العليا، الجيبون والأورانج، والشمبنزي والغوريلا تعرف العائلة بما يقارب الأسلوب البشري، فإن الأب يلزم الأم والأطفال، ويعيش الجميع معا سنوات إلى أن يبلغ الصغار سن الشباب فتستقل وتتفرق.
ومجتمعنا البشري البازغ، كان بلا شك شبيها بالمجتمع القردي العالي كما نراه بين هذه الأربعة التي ذكرناها، الأب والأم والأولاد يجتمعون حتما مدة الرضاع وبعد الرضاع بضع سنوات ثم يتفرقون أو يبقون، والأب أول من يهجر؛ لأنه قوى رائد يتطلع إلى الإناث الأخرى، والرضاع يربط الأطفال بالأم أكثر مما يربطهم بالأب، بل لولا العلاقة الجنسية بين الأب والأم لما كان هناك ما يربط الأطفال بالأب.
فإذا ترك الأب الأطفال وأمهم، أو إذا مات، بقي الأطفال مع الأم، وهنا منشأ الحب البشري، ونحن نحب أمهاتنا بعاطفة تختلف عن العاطفة التي نحب بها زوجتنا أو عشيقتنا؛ لأننا هنا نجد حبا جنسيا، أما هناك فنجد حبا بشريا، وقد يثب هنا أحد السيكلوجيين الفرويدبين يزعم أن حب الطفل لأمه جنسي كما هو مركب أوديب عند فرويد.
ولكن هذا خطأ فادح من فرويد؛ لأن الحب الجنسي في صميمه افتراس وأكل ونهم، يدل على هذا أن كثيرا من الأحياء يختلط فيها الافتراس بالتعارف الجنسي كما نرى في العناكب والعقارب حين تأكل الأنثى الذكر بعد الاجتماع، وأحيانا قبله إذا استطاعت، ويحدث أحيانا كثيرة أن الذكر من الحيوانات العليا يقاد إلى الأنثى في حدائق الحيوان للتقليح، ولكنه بدلا من أن يلقحها يفترسها، والعض مألوف في الاجتماعي الجنسي، وهو إيماءة الأكل، والكلمة الفرعونية التي تدل على الأكل هي نفسها التي تدل على القتل، والكلمتان العربيتان «قتل» و«أكل» قريبتان، والنهم إلى الأنثى يشبه النهم إلى الطعام، والاجتماع الجنسي يتم أحيانا بين الذكر والأنثى بلا أدنى حب.
وكثيرا ما توقظ عاطفة الغضب على الزوجة وضربها والتغلب عليها، العاطفة الجنسية، وهذا معروف بين الطبقات الدنيا من العامة، بل كثيرا ما يحدث في الأحلام أن يتخذ العدوان لون التعارف الجنسي، وفي الأميبة الأولى يجري الحب «الجنسي» بالاندغام؛ أي: تندغم إحدى الخلايا في الأخرى كما لو كانت كل منهما تأكل الأخرى.
وليس كذلك الحب من الأطفال لأمهم أو من الأم لأطفالها؛ لأننا هنا نجد شيئا آخر غير العدوان والافتراس والنهم والأكل نجد الرحمة والحنان والرقة والعطف. •••
والعائلة الأولى هي عائلة الأم؛ لأن الأب لم يكن يرضع الأطفال، فكان غريبا عنهم حين كانت الأم حميمة العلاقة بهم، وقد مضى على الإنسان آلاف السنين وهو لا يعرف القيمة الفسيولوجية للاجتماع الجنسي بين الرجل والمرأة، ولذلك كانت الأم هي كل شيء في العائلة ولا تزال في اللغات كلمات تدل على ذلك، منها كلمة «ذوي الأرحام» للقرابة، وكذلك كلمة «حياة» التي اشتقت من الحيا وهو عضو التناسل في المرأة، ولا تزال هناك شعوب باقية إلى عصرنا تعتقد أن الأب ليس له أدنى تدخل في حمل المرأة، وأن هذا الحمل يأتي للمرأة من أرواح البحر التي تنصب على رأسها في الليل ثم تهبط أجنة من الرأس إلى الرحم، وكتاب مالينوفسكي «الحياة الجنسية بين المتوحشين» هو وصف مسهب لأحد هذه الشعوب في ميلانيزيا في الجنوب الشرقي من القارة الآسيوية، ولم يعرف الإنسان قيمة الرجل في التناسل إلا بعد أن استأنس الحيوانات وصار يستكثر منها بالتلقيح.
فالأم هي التي أوجدت العائلة البشرية للرباط الطبيعي بينها وبين الأطفال وهو الرضاع، وبقي البشر ملايين السنين، ثم بعد ذلك مدة غير قصيرة في عصور الحضارة الأولى، وهم يعتقدون أن الأم هي الأصل الوحيد للتناسل، حتى كانوا يصنعون تماثيل للحيا «أصل الحياة» ويحملونها على أجسامهم عوذة أو تميمة تقيهم من الموت؛ لأن هذا العضو الذي ولدنا منه هو أصل الحياة، فما دمنا نحمل تمثاله من طين أو حجر فإننا لن نموت، وهناك ما يرجح أن الودعة قد امتازت بخصائص سحرية لهذا السبب؛ أي: لأنها تشبه الحيا، وقد انحدرت إلينا الودعة وانحطت مكانتها فلم تعد لها غير خصائص غيبية في الحظ والطالع عند العامة، كما لا يزال يحملها الصبيان لمنع العين.
ويدلنا التاريخ القديم لكل أمة تقريبا على أن الانتساب للأم كان شائعا، والأسماء العربية القديمة تدل على هذا أيضا، والأقارب في العصور القديمة هم عائلة الأم؛ أي: الأخوال وليسوا عائلة الأب، والولد في التاريخ القديم كان ينتمي إلى أخواله وليس إلى أبيه أو أعمامه بل كانت القبائل تنتسب إلى النساء دون الرجال، وقد وصف مالينوفسكي الذي أشرت إليه القرابة في النظام الأمومي وأوضح أنها للأخوال، وأن الأب يعد غريبا.
وقد وصف هيرودتس شعوبا كثيرة بدائية النظام الاجتماعي ووجد فيها هذا النظام الأمومي؛ أي: أن الأم هي الأصل للعائلة، وهناك ما يدل على أن العائلة المصرية القديمة كانت أمومية، ولعل الضد عند العرب هو بقية هذا النظام.
والإنسان البدائي الذي لم يستقر على زراعة بل كان يعيش جائلا يبحث عن الجذور والأثمار ويصيد صغار الحيوان، هذا الإنسان كان شيوعيا بدائيا يجد في الغابات والسهول ملكا شائعا لنوعه ليس لأحد اختصاص بجزء منه، وفي هذا الحال تقتصر العائلة على الأم وأولادها، وليس للأب سوي قيمة الرفيق الصديق الذي يمكن الاستغناء عنه.
ثم ينشأ النظام الأبوي للعائلة بعد ذلك؛ أي: حين تتألف القبائل وتحتاج إلى الغزو والقتال؛ لأنه هنا ترتفع قيمة الرجل لكفاءته في الغزو والقتال وتنخفض قيمة المرأة، ولعل أول الغزو كان لسبي المرأة وفي هذه الحال؛ أي: حين تسبى المرأة، يتغير النظام العائلي، فبدلا من أن يكون أموميا يعود أبويا، فإذا نشأت القبيلة لأجل السبي الجماعي أو إذا كانت الغاية من الغزو خطف الخراف أو الأبقار المدجنة فإن مركز المرأة ينحط كثيرا في العائلة، وهي وقت الغزو تؤخر وتحمى وتعود عبئا على الرجال؛ إذ هم يخشون أن تغزى هي وتسبى، وعندئذ يتأكد المركز العالي للرجل في العائلة وتخلص صفتها الأبوية.
وصفات الحرب هي الآن صفات الرجولة، والسبي يؤدي في النهاية إلى الضرار؛ أي: إلى تعدد الزوجات، كما كان النظام الأمومي للعائلة قبل ذلك يؤدي إلى الضد؛ أي: تعدد الأزواج.
ولذلك نستطيع أن نرجح أن النظام الأبوي للعائلة لم ينشأ إلا بعد أن تألفت القبائل للغزو، بسبي المرأة أولا، ثم خطف الدواجن ثانيا، وما دام هناك دواجن فلا بد أيضا من غزو المراعي ثم الشروع في امتلاك الأرض، وكل هذا يجوز أن يحدث قبل الاهتداء إلى الزراعة.
ثم ظهر عنصر آخر تغير به نظام العائلة البشرية، ذلك أنه عندما اهتدى الإنسان إلى الدين كان أول إيمانه، وهو بعد في نظام القبيلة، أن هناك ربا يحمي قبيلته دون سائر القبائل، ثم كان الغزو لسبي المرأة يجري بين قبيلة وأخرى كما يجري لخطف الماشية أو للمرعى، فأصبح الزواج بأبناء القبيلة الأخرى سنة مألوفة إن لم تجر بالسبي جرت بما يشبه السبي من تعويض المهر، ونشأ من ذلك كراهة الزواج الداخلي، فلا يتزوج الأخ أخته بل لا يتزوج من قبيلته، وصار لكل قبيلة «طوطم» هو شعار القبيلة الذي يمنع الزواج بين أعضائها.
وللتلخيص نقول: (1)
إن العائلة البشرية الأولى هي عائلة الأم دون الأب؛ أي: العائلة العامة بين اللبونات والقردة العليا، والأب هنا هو صديق مرافق، وقد يهجر العائلة في أي وقت، ثم إن النظام العائلي «وبؤرته الأم» لا يبقى إلا ريثما يتم نضج الأطفال. (2)
عندما عرفت القبيلة، ثم عرف سبي المرأة وغزو الماشية والمرعى، ظهر نظام العائلة الأبوية، الأب هو السيد؛ لأن المرأة التي تسبى لا يمكن أن يكون لها سلطان في العائلة، بل هي تستعبد. (3)
لما تماسك نظام القبيلة بعض الشيء اهتدت إلى الدين بإيجاد طوطم تنتسب إليه وترتبط به، وهو يمثل في أغلب الأحيان حيوانا مألوفا أو بريا، وفي الأكثر طيرا تعزى إليه حماية القبيلة وإكسابها الشجاعة للنصر. (4)
ما دام السبي قد وجد وعرف الغزو فإن العادة تنشأ في كراهة الزواج من الإخوة أو الأقارب، ثم يحرم، ويعود الزواج مقصورا على الجنس الآخر من القبيلة الأخرى بالسبي أو التعويض بالمهر، وتعم القاعدة بأن أبناء الطوطم لا يتزاوجون فيما بينهم، كل هذا والإنسان لم يعرف الزراعة ولم يستقر، ولكن هذا التدرج لا يؤخذ على أنه يسير في نظام واضح كل واحد يلي الآخر؛ إذ هو يتداخل، وزواج الأخت عند الفراعنة برهان على أن نظام الغزو والسبي لم يعش في مصر المدة الكافية لإلغائه، وقد كان رمسيس الكبير ثمرة خمسة عشر زواجا متواليا من هذا النوع؛ أي: زواج الأخ بالأخت.
كذلك يجب ألا ننسى عوامل أخرى للضمد؛ أي: زواج المرأة لعدة رجال، منها وأد البنات للفقر؛ لأنه إذا شاعت هذه العادة في أمة ما قل عدد النساء وزاد عدد الرجال، فيصبح الضمد محتوما، كما رأينا عند العرب قبل الإسلام، وكما نرى الآن في تبت وسيلان. •••
العالم البشري المتمدن يعيش في عصرنا في النظام الأبوي: ثمرة الغزو والسبي، وقد لاحظ نيتشة أن الكلمة اللاتينية لمعنى الفضيلة مشتقة من الجذر الذي اشتقت منه كلمة الرجولة “Virility, Virtue”
وهذا طبيعي؛ لأن الأخلاق السائدة يجب أن تكون أخلاق السادة وقد كان السادة في الدولة الرومانية، دولة الغزو والنهب، رجالا، فصارت صفاتهم فضائل، وصار مجتمعهم أبوي العائلة، وكان مجتمعهم أقسى المجتمعات لذلك، حتى كان القانون يجيز للأب قتل ابنه، وقد ورث الأوروبيون هذه العائلة الأبوية عنهم، ولكن هل العائلة الأبوية هي الكلمة الأخيرة في المجتمع البشري؟
هذا ما نشك فيه، بل نرجح أن العائلة الأمومية ستعود، ذلك لأن استقلال المرأة الاقتصادي والكفالات الاجتماعية للأولاد سيجعلان ارتباط الأولاد بالأم أكبر جدا من ارتباطهم بالأب، وقد شرعنا هذه السنوات نرى ظاهرة جديدة هي الزواج الاعتزالي في النرويج والسويد والولايات المتحدة الأمريكية حيث قد أتمت المرأة استقلالها الاقتصادي فإنها تعيش في هذه الأقطار مستقلة تتزوج ولكنها تنفرد ببيتها وأولادها مدة الزواج، ولا يعود الزوج سوى زائر، وتبنى المساكن الكثيرة على هذا الأساس.
ونحن بلا شك نشمئز أو على الأقل ننفر من هذا الوضع الذي يخالف مألوفنا، ولكن يجب أن نذكر أن العائلة الأبوية إنما نشأت؛ لأنها كانت قبل كل شيء رابطة اقتصادية مركزها الرجل الغازي المقاتل أو الكاسب العائل، وقد وصلنا إلى حال جديدة في تطورنا الاجتماعي لم يعد فيها الرجل غازيا مقاتلا، ولم يعد منفردا في الكسب للعائلة؛ لأن المرأة تكسب مثله، ثم أصبحت هي تمتاز عليه بالميزة الطبيعية الأولى وهي الأمومة؛ أي: الرضاع والعناية بطفولة الأولاد.
وأخيرا لعلنا لا ننسى أن العائلة الأبوية تزداد أبوية وقسوة؛ أي: رجولة وعدوانا وقت الحرب، كما حدث في الفاشية والنازية وكلتاهما ردت المرأة إلى البيت وحاولت حرمانها الكسب والاستقلال.
أصل العقل وتطوره
المتأمل لمظاهر الكون، بعد أن يتخلص من الغيبيات التي انحدرت إلينا من القرون السحيقة، لا يتمالك الإحساس بوحدته، فالمادة والقوة شيء واحد، أو القوة إحدى ظواهر المادة كما أن المادة إحدى ظواهر القوة، وكذلك الشأن في العقل، فإنه ظاهرة من ظواهر الحياة، والحياة نفسها إحدى ظواهر المادة.
ليس هناك عقل بلا جسم، كما ليس هناك جسم بلا عقل أو بذرة العقل، فإن الخلية الأولى «تعقل» في معنى ما من حيث إن لها رجوعا واستجابات للوسط الذي تعيش فيه، فهي تصد أو تقبل بما لها من عصب بدائي مندغم في جسمها.
والأساس للعقل في الإنسان والحيوان هو الجهاز العصبي، والهدف الحيوي لهذا الجهاز هو الملائمة بين الجسم الحي وبين الوسط الذي يعيش فيه؛ أي: أنه لم يختلف في وظيفته في الإنسان، عما كان في الخلية الأولى، وكل ما هناك من فرق بين عقل الخلية الأولى وبين العقل في الإنسان أنه في الخلية غير مركز أو متحيز في مكان، أما في الإنسان فهو مركز متحيز في الدماغ والنخاع الشوكي وما يتفرع منها من خيوط عصبية تنتشر في أنحاء الجسم.
ولكن حتى هذا القول ليس دقيقا في صحته، فإن كل خلية من الجسم البشري «تعقل» مثل الأميبة التي تمثل لنا الخلية الأولى في تاريخ الحياة، فالخلية في المعدة مثلا تقبل على بعض الأطعمة أو تصد عنها بعقل بدائي مثل عقل الأميبة.
وتطور العقل من الجهاز العصبي البدائي في الأميبة إلى الدماغ في الإنسان هو تاريخ طويل احتاج إلى نحو 700 مليون سنة، ولكن يجب أن نكرر القول بأن الهدف في الاثنين، الأميبة والإنسان، واحد في الملائمة بين الحي والوسط.
الحياة كامنة في المادة وتنشأ منها، وكذلك العقل كامن في الحياة وينشأ منها، وهذا يتيح لنا القول بأن العقل كامن في المادة، ونحن لا نعرف حياة مطلقة بلا مادة كما لا نعرف عقلا مطلقا بلا حياة.
أول ما نعرف في الجهاز العصبي على أدنى صوره هو الانعكاس المباشر؛ أي: الانعكاس غير المكيف، وهو الانعكاس الذي نرثه ولا نحتاج إلى أن نتعلمه، فالضوء القوى إذا سلط على عين الطفل وعمره ساعة أو عين الرجل وعمره خمسون سنة يحمل كليهما على إغماض العين، هذا هو الانعكاس المباشر غير المكيف.
وأعلى الكائنات الحية وأدنى الكائنات الحية تستوي في هذا الانعكاس المباشر؛ إذ هو وراثي مثل مادة الجسم سواء.
وهذا الانعكاس المباشر هو الأصل الأول للعقل المركب في الإنسان.
ومركز العقل هو الدماغ الذي يحتويه الرأس، وموكب التطور في الأحياء يبرز لنا التقدم في العقل بالنمو في الدماغ، وليس لنا بذلك مقر من أن نربط نمو العقل بنمو الدماغ.
ومن الحسن في التعبير أن نميز بين النمو العقلي والنمو العصبي، ونقول «التعبير» فقط؛ لأن النمو العصبي هو عمليا نمو عقلي أيضا، ولكن عندما نقول: إن الأميبة أو الدودة تبدي كلتاهما نشاطا عصبيا فإننا نفهم ما نقول؛ إذ إن كلا منهما تقبل وتصد وفق ما نحبه في الوسط من الحسن أو السيئ لحياتها، ولكن للإنسان والحيوانات العليا «عقلا» يزيد على ما عند الأميبة والدودة من العصب الخفي أو الظاهر يزيد كما ولكنه لا يزيد كيفا، إذا اعتبرنا الأصل.
والأصل، عند الأميبة، والدودة، والإنسان؛ هو الملائمة بين الحي وبين وسطه، ووسط الأميبة والدودة بسيط؛ إذ هو الماء أو الطين وكلتاهما تقبل على ما في الماء أو الطين من غذاء وتأكله، وتصد عن الحرارة الشديدة أو الحمض اللاسع، أما وسطنا فمركب؛ إذ هو فضلا عما يحتويه من طعام لنا نقبل عليه لحلاوته أو نصد عنه لمرارته كما تفعل الأميبة بالضبط، هذا الوسط يحتوي أشياء أخرى اجتماعية أو سياسية أو عائلية احتاجت إلى ملايين السنين قبل أن تنمو أدمغتنا للاشتغال بشئونها.
ليس للخلية الأولى، مثل الأميبة، عين أو أنف أو أذن أو لسان، ولكنها في معنى مصغر تميز بين الضوء والظلمة، وهي تصد عن الأحماض، ونكاد نقول: إنها تتذوق ما تأكل، ثم إن حاسة اللمس موجودة عندها.
ولكن رويدا رويدا في موكب التطور الصاعد نجد أن حاسة النظر قد تميزت في مكان من الجسم وصارت له عين أو عيون، وأن حاسة السمع قد صارت له أذن، وحاسة الشم قد نشأ لها أنف، ثم صار للذوق لسان.
والإحساس هو أول ما نجد في الدرجات الأولى نحو السلم العالي الذي يصل في قمة التطور إلى الإنسان حيث الدماغ.
الإحساس الذي يحدث لنا الانعكاس المباشر، ثم عن طريق التعليم، يحدث لنا الإحساس المكيف.
والحواس الخمس هي النوافذ التي نطل منها على العالم الخارجي وأهمها للإنسان والحيوان العالي هو حواس المسافات كالسمع والنظر والشم، فالدودة حين تلمس أو تتذوق لا تكاد تحس بالعالم الخارجي ؛ لأن حاستي اللمس والتذوق لا تحتاجان إلى مسافة بعيدة أو قريبة.
ولذلك الوعي أو الوجدان لا يمكن أن ينشأ من حاستي اللمس والتذوق، ولكن العين التي تنظر من قمة الشجر إلى نحو كيلو متر أو كيلو مترين، والأذن التي تسمع زئيرا بعيدا وتعرف وجهته، والشم الذي ينبه الحيوان عن الفريسة المشتهاة أو العدو المخيف، هذه الحواس الثلاث تجعلنا نطل على الدنيا المحيطة ونحس ونقدر ونقارن ونتذكر.
والشم هو أقل الإحساسات في المسافة، وهو على أشده في الأسماك.
ولكن عندما خرجت الأحياء من الماء إلى اليابسة ظهرت أو بالأحرى كبرت الحاستان الأخريان، النظر والسمع، فجعلت الحيوان يراقب وسطه ويفهمه؛ أي: يحس الوعي أو الوجدان.
والعين بالطبع هي حاسة المسافة التي تكاد تتخصص في ذلك، وأعظم الأحياء نظرا هو الإنسان، بل أكاد أقول: إنها حاسة الوعي؛ لأنها تبسط أمامنا مساحة كبيرة من العالم الخارجي تحوي لنا الطعام والعدو والأنثى والمهرب، وتعلمنا كيف نميز بين الأسد والغزال وتبعث استطلاعنا للوقوف على الأشياء والأحياء.
قلنا: إن أعظم الأحياء نظرا هو الإنسان، ولكن ليس معنى هذا أنه أبعد الأحياء نظرا، وإنما هو أدق وأحكم وأصح نظرا، وذلك لأنه ينظر بعينين وليس بعين واحدة، فإن عينيه في وجهه وليستا في صدغيه كما هو الشأن في الحيوان حتى العليا منها باستثناء أبناء عمومتنا القردة ونعني القردة العليا الأربعة.
والرؤية بعينين اثنتين هي رؤية مجسمة، أما الرؤية بعين واحدة مثل الطيور فهي رؤية سطحية غير محكمة، ولذلك تنقل إلينا عيوننا العالم الخارجي نقلا صحيحا أو كالصحيح وتكبر مسافات الرؤية، ولذلك نحن نقارن بين ما نرى من الأشياء والأحياء على مسافة بعيدة محيطة فينشأ الوعي والتفكير.
الإحساس الذي ينشأ من الحواس الثلاث، حواس المسافات، يجعلنا نجمع إحساسات الشم والسمع والنظر، وهذا الجمع يحملنا على المقارنة والتقليب والتردد ومعاودة الفحص، فيكون الوعي أو يكون التفكير.
التفكير الأول عند الإنسان البدائي هو ربط المعاني الناشئة من الشم والسمع والنظر، وقيمة الشم في إيجاد الوعي ضعيفة ولكن قيمة النظر كبيرة، ونحن البشر حيوانات النظر، ولذلك نقول: «أرى أن هذا الموضوع»؛ أي: أعقل ، ونقول: «ما رأيك» مات عقلك؟ ونقول: «تبصر في هذا الموضوع»؛ أي: تعقل، والروية مشتقة من الرؤية وهي التعقل في أناة.
والذوق واللمس «بل الشم أيضا إلى حد كبير» كلها تجعلني ذاتيا في نظرتي للبيئة التي أعيش فيها، وعندئذ لا يطابق حكمي أو رأيي ماهية الأشياء، ولكن نظري الذي يمتد حولي مسافة كيلو متر مثلا يجعلني أقارن، وعندئذ يكون حكمي أو رأيي موضوعيا يكاد يطابق حقيقة الأشياء. •••
إحساس النظر وإحساس الشم وإحساس السمع، حين تتجمع هذه الإحساسات في دماغي أحس إدراكا؛ أي: معرفة، ولكن ليست الإحساسات انطباعات فقط في مادة الدماغ، وإنما هي تنبيه لمادة الدماغ يبعث على نشاط بحيث يحدث رجع أو استجابة، صدود أو إقبال.
فالعالم الخارجي حين تصل تفاصيله بالحواس إلى دماغي، يحث إدراكا مركبا وليس انطباعا بسيطا، وهذا الإدراك المركب يعين إلى السلوك الذي يجب أن اتخذه أو أسلكه لقاء عدو أو صديق، طعام أو شراب، إقدام أو نكوص.
ونحن والحيوانات العليا سواء في ذلك، وإذا كان هناك فرق فهو فرق التفاوت في الكم وليس الاختلاف في النوع. •••
الإدراك الحسي؛ أي: الإدراك الناشئ من الحواس، يؤدي، بالمقارنة، إلى إدراك تصوري، وامتيازنا على الحيوان في الإدراك التصوري كبير جدا.
الإدراك التصوري هو التعقل.
ونحن والحيوانات العليا نتعقل لا شك في ذلك، والقول بأن الحيوان، ونعني الرواضع والطيور، وأقل من ذلك الزواحف والأسماك، لا يتعقل لا يختلف من الخرافة القديمة التي تنشأ في المناقشات الدينية، وهي أن للإنسان روحا أما الحيوان فليست له روح، وفكرة الروح هي أولى الفكرات الدينية في مصر ممثلة في كل من الروحين «كا» و«با» إحداهما تحرسنا ونحن أحياء، والأخرى ترعانا ونحن موتى، خرافة قديمة انحدرت إلينا ولا تزال العامة تؤمن بها.
ولكن العقل ليس خرافة؛ إذ هو حقيقة في الإنسان والرواضع والطيور والزواحف والأسماك، وجميعها تمتاز بالقدرة على التعلم، ولكنها تتفاوت في مقدار التعلم، وأقلها بالطبع هو الأسماء التي تسترشد بالشم أقل الحواس بعثا للوعي.
كلها تمتاز بالإدراك الحسي، وكلها أيضا على شيء صغير أو كبير بالإدراك التصوري.
ولكن هذا الإدراك التصوري يبلغ أعلى مستواه في الإنسان وأقله في الأسماك.
نحن على إدراك تصوري يجعلنا نفهم الأشياء والأحياء عن طريق التعميم، أما الحيوان «ربما باستثناء القردة العليا» فلا يعرف التعميم.
الإنسان يعرف أن هناك حيوانات تسعى على الأرض وتأكل، وقد تفترس غيرها وتفر وتدخل في الجحور أو تطير إلى أعلى القمم في الأشجار أو نحو ذلك، وكلها أمام الإنسان «حيوانات».
ولكن الأسد لا يعرف هذا التعميم.
والتعميم في الإنسان هو الأصل في الخرافات الدينية القديمة، ثم صار بعد ذلك أصلا للنظريات العلمية.
الخرافة الدينية هي فرض مخطئ، ولكنه تعميم.
والنظرية العلمية هي فرض صحيح، وهو تعميم.
ونحن البشر، بثقافتنا الحاضرة، نفهم الأشياء والناس بالتعميم؛ أي: بالنظريات.
وعلومنا هي تعميمات؛ أي: نظريات.
كيف وصلنا إلى هذا؟ ولماذا لم يصل الحيوان إلى درجتنا في هذا الفهم التعميمي؟
هذا السؤال ينطوي على سؤال آخر هو: لماذا كبرت أدمغتنا إلى حد شاذ بالمقارنة إلى الحيوان، بل حتى إلى القردة العليا الأربعة: الشمبنزي، والغوريلا، والأروانج أوتان، والجيبون؟
الجواب هو اللغة.
اللغة هي التي جعلت التذكير التصوري ممكنا وعميقا؛ لأن الكلمات أفكار، كل كلمة فكرة، ونحن حين نرث الكلمات من المجتمع نرث مئات الفكرات التي أوجدت لنا ثقافة بدائية ساذجة أولا ثم متحضرة مركبة ثانيا، ولو أن القردة الأربعة العليا كانت قد عرفت اللغة لما تأخر نمو أدمغتها وكانت قادرة على إيجاد حضارة وثقافة.
ولكن لأمر ما لا نفهمه لم تعرف اللغة.
اللغة أوجدت عندنا تصورات اجتماعية مثل الصدق والكذب والحب والكراهة، وتصورات علمية مثل الكرة والمربع والهرم والأسطوانة.
واللغة، بكلماتها كانت أعظم الأسباب، بل لعلها السبب الوحيد لنمو أدمغتنا وتفوقنا على الأرض.
ولكن أساس تفكيرنا هو الإحساس الذي نشترك فيه مع الحيوانات كلها تقريبا ثم اعتمادنا على حواس المسافات، ثم اعتمادنا أكثر على النظر، ونشأ عندنا الإدراك الحسي الذي كبر «بالعيون» إلى إدراك تصوري، وأحدث الإدراك التصوري ما نسميه التعقل.
ثم جاءت اللغة فأحدثت التعميم؛ أي: النظر الكلي العام للأشياء إذ كان منها الكلمات، كل كلمة منها فكرة، والفكرة التعميمية هي نظرية.
الأفكار كلمات
جميع اللبونات التي تتسلق الأغصان، أو الجدران تعرف كيف تمسك الأشياء بيديها، كما نرى في الفأر والقط والسنجاب وجميع القردة الدنيا والعليا، فالتسلق هو الدرس الأول الذي يؤدي إلى الإمساك والتناول.
ولكن ما دام الحيوان يحتاج كثيرا إلى التسلق فإنه لا يتناول كثيرا، وإنما يصبح التناول عملا أساسيا لليد حين يترك الحيوان الشجر ويعيش على الأرض بحيث يسعى على ساقيه فقط ويرصد يديه للتناول دون الحاجة إلى التسلق.
وهذا هو ما حدث لنا، فقد كنا نعيش على الشجرة ثم لسبب ما، كأن نكون قد نمونا وزاد وزننا فلم تعد الأغصان تتحملنا، أو ربما حدث جفاف، وهذا أرجح، جعل الأشجار قليلة الأثمار والغذاء ... تركنا الأشجار كي نسعى ونبحث عن الطعام على الأرض.
وقناتنا الهضمية لا تزال تدل على أننا كنا وما زلنا نتغذى بالنبات، بالأثمار والجذور وورق الشجر، ولكننا بعد أن تركنا الشجر بسبب الجفاف شرعنا نتعود افتراس الحيوانات الصغرى ونأكل اللحم، وهذا هو ما يفعله البابون الذي يعيش على السهول والوديان المعشبة في إفريقيا، فإنه يأكل العشب ولكنه يفترس الحيوانات الصغرى، وأحيانا يهجم على القطعان لافتراس جدي أو خروف.
وحين تركنا الشجر وتعودنا افتراس الحيوانات الصغرى تغيرت أسماؤنا بعض الشيء وتغيرت أسناننا، وكسبنا من أكل اللحم شيئين؛ أولا: هو هذا الوقت الذي كنا نقضيه في تناول الأعشاب والأثمار القليلة الغذاء والتي كانت تستغرق نهارنا كله، فإننا أصبحنا نقتنع بالوجبة من اللحم تكفينا مع صغر حجمها لأن نرتاح مدة طويلة ونحن في شبع لوفرة ما في اللحم من الغذاء، وكانت هذه الراحة مجالا وفرصة لنا كي نفكر، وثانيا: تعلمنا من الافتراس كيف نتناول، بل كيف نقذف الحجر على الفريسة، فتمرنت أيدينا بالقذف على وزن الأشياء وعلى التعاون مع المخ على التدبير في الافتراس.
وكان هذا أول الطريق نحو الاختراع.
ليس القذف اختراعا، وإنما هو شيء نجده مصادفة فنتناوله ونقذف به الفريسة، والقردة، حتى الدنيا، تعرف كيف تقذف خصمها، ولكن هذا القذف قد علمنا قيمة الحجر الذي نقذف به؛ إذ يجب أن يكون على وزن معين وعلى شكل معين.
ولكن الفرق بيننا وبين القردة أننا «نخترع» وهي «تستعمل» فقط.
ولكن حتى هنا يجب ألا نجزم، فإن الشمبنزي استطاع أن يخترع فإن كوهلر علق بعيدا عنه بعض الموز ووضع أمامه عصوين إحداهما أنبوبية، فحاول القرد أن يصل إلى الموز بإحدى العصوين فوجد أنها دون المسافة، فعمد، بعد تفكير، إلى الأخرى وتأملها، ثم أدخلها في العصا الأنبوبية حتى طالت، واستطاع بذلك أن يجعل من العصوين عصا واحدة تبلغ الموز وتسقطه.
وهذا اختراع بدائي، فإن القرد هنا صنع «آلة» وبذلك ارتفع عن «الإدراك الحسي» الحيواني إلى «التصور الذهني» البشري.
الإدراك الحسي لا يحتاج إلى تفكير؛ لأني «أحس» أن حجرا قريب مني فأتناوله وأقذف به حيوانا، وليس هنا اختراع؛ لأن الاختراع يحتاج إلى «تصور»؛ أي: أني أؤلف فكرة مع فكرة أخرى أو مع جملة فكرات أتصورها كلها من البداية إلى النهاية، ولما أدخل القرد العصا الصغيرة داخل العصا الكبيرة تصور ما سوف يعمل بها بعد إطالتها.
وهذا هو الاختراع وإن يكن مؤلفا من فكرتين فقط.
أما في الإنسان فالاختراع يتألف من طائفة من الفكرات؛ لأننا نحن نتصور بعقولنا صورا مختلفة نؤلفها ونستخرج منها الفكرة المركبة، أما الحيوان فيدرك بإحساسه: حجر على اليمين، وعصفور على الشمال، فيمكن أن يقذف.
وأعظم ما ساعدنا على الاختراع هو اللغة؛ لأن الفكرة كلمة وقد أحس الإغريقي هذه الحقيقة حين اشتقوا المنطق «لوجيك» من الكلمة «لوجوس»، وما دمنا نرث نحو مئتي أو ثلاث مئة كلمة فإننا بذلك نرث نحو مئتي أو ثلاث مئة فكرة، نجمع بينها ونتصور بها وهذا هو ما ينقص الشمبنزي أذكى القردة العليا.
قد نقول هنا: إن الشمبنزي عرف وتصور فوضع العصا داخل العصا دون أن تكون لديه كلمات، وهذا صحيح، ولكن كان تصوره هنا بسيطا: فكرتين فقط هما تقدير المسافة إلى الموز والعصا الطويلة.
أما نحن فنحتاج إلى اللغة؛ لأننا نحتاج إلى أن نؤلف نحو عشر فكرات نستخرج منها صورة، فإذا لم يكن لهذه الفكرات كلمات فإننا نعجز عن «التصور».
والتصور الذي يربط فكرة بفكرة والذي ينبع من المخ قد ربط بين ملايين الخلايا التي بالمخ، وأيضا زاد النمو في هذا المخ كي يزداد قدرة على التصور.
وعندي أنه ليس المخ الكبير الذي نمتاز به من القردة العليا هو الذي أوجد اللغة وزاد قدرتنا على التفكير والاختراع، وإنما العكس هو الصحيح؛ أي: أن قدرتنا على إيجاد الكلمات وتوارثها زادا حجم المخ.
والأصل في اللغة هو الاجتماع؛ إذ لا معنى للغة إذا كان الإنسان قد عاش منفردا.
قدرة اللسان على النطق أوجدت الكلمات؛ أي: الفكرات.
والكلمات الجديدة العديدة احتاجت إلى ذاكرة؛ أي: احتاجت إلى تدريب.
وكما أن التدريب يكبر عضلات الرياضي كذلك تدريب المخ بالذاكرة وبالتفكير قد كبر المخ. •••
ولكننا هنا يجب ألا ننسى الأساس لكل هذا وهو الاجتماع.
ذلك أن الكلمات والأفكار اجتماعية وليست فردية، وحين كنا على الشجر كنا نعيش منفردين، أو على الأكثر عائلتين لكل منا زوجته وأبناؤه لا نحتاج إلى أن نجتمع جماعات.
أما حين تركنا الشجر للقحط الذي نشأ من الجفاف احتجنا إلى الاجتماع كي نصيد غزالا أو عجلا أو حمارا؛ لأن الصيد هنا يحتاج إلى أن نقوم به مجتمعين ونترصد ونتفاهم ونعين الواجبات لكل فرد ونتفق على حركات للهجوم والدفاع، وكل هذه الأشياء تحتاج أولا إلى إيماءات باليد والفم ثم إلى ترجمة هذه الإيماءات، وقت الظلام إلى الأصوات؛ أي: الكلمات.
إن الذي حمل الإنسان على أن يجتمع هو الصيد، ونحن نرى حيوانات تصيد منفردة غير مجتمعة مثل الأسد والببر والنمر، ولكن هذه الحيوانات تفترس وتاريخها التطوري يسير نحو إيجاد المخالب والأنياب، أما نحن فقد انتقلنا من حياة الشجر النباتية، بلا مخالب وبلا أنياب، إلى حياة الصيد، فلم تكن لأحدنا القدرة على الافتراس، ولذلك احتجنا إلى الاجتماع.
واحتاج الاجتماع إلى اللغة وإلى اختراع الآلات.
وبإيجاد «المجتمع البشري» خرج الإنسان من حدود التطور السابق الذي كان يؤثر في الفرد ويغيره إلى حدود التطور الاجتماعي الذي يغير المجتمعات.
بل إن اللغة نفسها اختراع اجتماعي؛ لأن الحيوان الذي يعيش منفردا لا يحتاج إليها؛ إذ لا يحتاج إلى التفاهم.
ولكن اللغة، كلمات اللغة، هي الأفكار.
والمخ البشري هو ثمرة الاجتماع، وليس العكس.
أي أن المجتمع البشري احتاج إلى معان كثيرة وكلمات كثيرة اقتضت إيجاد مخ كبير يتسع لها.
لما تركنا الشجر إلى السهول لم تكن أمخاخنا تزيد على أمخاخ القردة العليا، ولكن اجتماعنا للصيد والدفاع، وتجوالنا للبحث عن الطعام، وتدبيرنا للترصد، وأخيرا لغتنا التي تفاهمنا بها، كل هذا قد أدى إلى أن تكبر أمخاخنا كما تكبر عضلات الذراع عند العامل الذي يعمل بها.
إن الذي يفصل بين الإنسان والحيوان هو المجتمع البشري الذي احتاج إلى اللغة ثم احتاجت اللغة «الكلمات: الأفكار» إلى المخ الكبير الذي يتسع لاختزانها واعتمالها. •••
رأينا أن التعبير باليد قد أدى إلى التعبير باللسان؛ أي: أن الشفتين واللسان والحنجرة صارت تؤدي في الظلام حركات اليد في النهار فظهرت اللغة.
ومهارة اليد في صنع الآلات وفي الافتراس والتناول سبقت بالطبع مهارة اللسان في النطق، بل هي التي أوجدتها، ولذلك نجد أن منطقة النطق في المخ تتاخم منطقة الحركة لليد اليمنى.
ولذلك إذا أصيب أحدنا بفالج في الجزء الأيمن من جسمه فإنه لا ينطق؛ لأن شلل اليد اليمنى يؤدي إلى شلل اللسان والحنجرة؛ أي: منطقة النطق، ولكن إذا كان هذا الفالج بالجزء الأيسر من الجسم فإننا نحتفظ بالقدرة على النطق.
اليد اليمنى هي يد المهارة والتعبير في الصناعة، ومنطقة حركتها تتاخم لذلك منطقة الحركة للسان والحنجرة والفم.
अज्ञात पृष्ठ