وفي الصباح الباكر وكان موعد السفر، تقدم من والدته وقبل يدها مقدما هدية لها ولبعض المقربين، فانقشعت الغمامة وارتفعت الأدعية له بالتوفيق في الحل والترحال، سر سليم لهذه النتيجة؛ لأنه كان يهمه رضاء والدته، لذلك حرص كثيرا على أن ينال هذا الرضا، لا سيما وهو قادم على سفر طويل ومستقبل محفوف بالأسرار.
وفي صبيحة أحد أيام تشرين الأول كانت سيارة تقله وبعض الأهل والأصحاب المقربين إلى المرفأ؛ حيث كان في انتظاره بعض الأصدقاء المخلصين ممن يقدرون أهدافه، فكان يبدو بينهم رغم الابتسامة التي كانت لا تفارق فمه، الانشراح والغبطة فكأنه في نعيم؛ لأن أحلامه تجسدت وسبقته إلى باريس، وكأنه أخذ يسير في شوارعها العظيمة.
إن سليما لا ريب، بعد الذي ابتلاه، والشوق العظيم الذي به للعلم والتحصيل، بات الآن منطلقا، وهذا رد فعل للكبت والضيق؛ لذلك كان يلاحظ في عينيه كثير من صور نفسه وما كان يعتلج فيها من شتى المعاني. وجدير بنا أن نقول إن سفر سليم هو الأول من نوعه عندنا، وإن عمله كان مغامرة بالنسبة لعصره وعقلية زمنه، فأي شاب من طائفته ووسطه خطر له أن يسافر لأوروبا رغبة في تحصيل الفن؟
إن الفن نفسه غير مرغوب فيه أصلا، فكيف السفر في سبيل تعلمه في بلاد غريبة بعيدة؟ إنها كما قلنا كانت مغامرة جريئة من سليم لم يسبقه إليها أحد، لا سيما متى علمنا أن السفر إلى دمشق أو بعلبك القريبة كان يعد جرأة، ويعد الذي يقوم به شجاعا وبطلا مغوارا.
الخلاصة بعد القيام بالمجاملات التي تقتضيها مراسيم الوداع، نزل سليم الفلك الذي نقله إلى ظهر الباخرة، وقد رافقه بعض الأهل والأصدقاء، وكانت دلائل البشر تبدو بجلاء على وجهه كلما دنا من الباخرة.
وبعد قضاء بعض الوقت على ظهر السفينة دوى صفيرها إيذانا بالرحيل، فأخذ المودعون يغادرونها تباعا، وكانت القبلات تتبادل من ناحية وكان نصيب صاحبنا سليم منها لا بأس به.
وسليم الذي كان يرتقب هذه الدقيقة الحاسمة في حياته منذ سنوات ويعمل لها بكل كيانه، وقف في مقدمة الباخرة يتأمل مدينته لأول مرة من البحر، هذه المدينة التي أحبها من كل قلبه ويريدها أن تكون حقيقة لا اسما «درة البحر المتوسط» كي ينطبق جمالها الطبيعي على جمال جهد أبنائها وتقدمهم ورقيهم العقلي.
وقد تكاثرت عليه الذكريات وازدحمت الخواطر وعجت الأفكار والمشاعر، وكانت تدور كلها حول نقطة واحدة، هي أن يرى هذا الوطن الجميل بطبيعته، جمالا آخر يسود مجتمعه وآدابه وخلقه ومعاملاته، ويتفق وهذا الجمال الطبيعي الفتان.
وكانت خيالاته الفتية وأحاسيسه المتوثبة تصور له أن كل هذا لا يمكن أن يتحقق إلا عن طريق الفن الذي هو أس الحضارة ونشر الثقافة الفنية عن سبيل المعارض والدعوات والمحاضرات وما إليها، وكان سليم الشاب الطيب مفعما بهذه النظرية، مأخوذا برونقها، مؤمنا أنها طريق الإصلاح والسبيل الأوحد لإسعاد وطنه وخلاصه من التأخر والانحطاط والأخذ به إلى السمو والرقي وبلوغ المدنية والحضارة، فيصبح كسائر الأمم المتمدنة.
وكانت هذه الأفكار وما شاكلها تملأ قلب الشاب الصغير سليم وتسيطر على أفكاره، وكان المسكين يظن - لطيبة قلبه وصفاء سريرته وجهله لحقيقة مجتمعه - أنه اكتشف «البارود» أو أنه وقع على طريقة فذة جديدة لم تخطر ببال سواه، وأنها ستحقق بسهولة بمجرد عمل لوحتين أو بنشر مقالين، أو بإلقاء محاضرتين في مدرسة أو ناد يصفق لها ثم ينسى بعدها كل شيء!
अज्ञात पृष्ठ