فمن أدلة الكتاب قوله تعالى في قصة موسى عليه السلام: " رب أرني أنظر إليك " وهذا السؤال إنما كان من موسى بعد النبوة، والبعثة، والرسالة، لأن الله تعالى قال: " ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك " ولا يخلو سؤال موسى عليه السلام هذا السؤال بعد النبوة والكمال من أحد أربعة أوجه: إما أن يكون سأل الرؤية بعد علمه بجوازها على ربه، أو مع علمه باستحالتها على ربه، أو سألها وهو شاك في ذلك، أو سألها وهو ذاهل العقل لا يتفهم شيئا. فلا يجوز أن يكون سأل ذلك مع علمه بأنه يستحيل على ربه، لأن من المحال أن يسأل النبي الكريم ربه ما يستحيل في حقه، ولا يجوز عليه كما يستحيل في حقه سبحانه وتعالى، ولا يجوز أن يكون سأل ذلك وهو شاك جاهل حكم هذه المسألة أو ذاهل لا يدري، لأن هذه المسألة من مسائل أصول الدين، وكيف يجوز على النبي الكريم عليه السلام الشك فيها أو الذهول، أو غفلة القلب عنها. وإذا بطل جميع ذلك لم يبق إلا أنه عليه السلام سأل وهو معتقد جواز الرؤية عليه سبحانه وتعالى. فإذا اعتقد النبي الكريم جوار الرؤية لم يخل من أن يكون مصيبا أو مخطئا، ولا يجوز أن يخطىء النبي الكريم في اعتقاده، فلم يبق إلا أنه أصاب، وهذا التقرير لا مخرج للمخالف عنه بوجه ولا سبب. فافهمه.
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون موسى لم يسأل الرؤية، وإنما سألها قومه وسألوه أن يسألها لهم، أما أن يكون هو سألها لنفسه فلا.
فالجواب: أن هذا تعلل لا ينفعكم ولا ينجيكم مما قررنا وحققنا في اعتقاد موسى عليه السلام جواز الرؤية؛ وذلك: أن موسى عليه السلام لو كان يعتقد استحالة جواز الرؤية لكان قد أنكر عليهم ذلك أشد الإنكار وجهلهم بذلك غاية الجهل. ولم يساعدهم على ذلك. ولا سأل ما جهلهم عليه، ولما ساعدهم كما فعل لما قالوا: " يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون " ولم يسأل ربه أن يجعل لهم إلها، لأنه عليم عليه السلام استحالة ذلك. فكيف يسأل له أو لهم الرؤية مع اعتقاده استحالة ذلك عليه سبحانه وتعالى، فلم يبق إلا ما قلناه.
جواب آخر: وذلك أن هذا عدول عن الظاهر إلى غيره بغير دليل، لأنه قال " أرني أنظر إليك " فلا يحمل أرني أنظر، على قومي ينظرون إليك، فبطل ما قالوه، وصار هذا بمنزلة قول من قال: قوله أي " أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني " أي اعبد غيري، وهذا لا يجوز، فبطل قولهم.
فإن قيل: أليس قد قال الله تعالى: " لن تراني " فنص على أنه لا سبيل إلى ما سأله، فالجواب من وجهين: أحدهما: أن هذا لا يمنع من جواز الرؤية، لأن قوله لن تراني إنما تضمن عدم وجود الرؤية عند السؤال، لا استحالة الرؤية على ما قررنا، ولو أراد استحالة الرؤية لقال: لن يجوز أن تراني. وقد لا يوجد الشيء ولا يدل على استحالته، ألا ترى أن أحدا لو سأل نبي زمانه أن يسأل ربه أن يرزقه ولدا، فسأل نبي ذلك الزمان، فأوحى الله تعالى لن يرزق هذا السائل ولدا، هل يدل ذلك على أنه لا يجوز وجود الولد في حق هذا السائل، ويستحيل، بل هو جائز وإن منع من وجوده عقب السؤال، على أن حرف لن لا يقتضي عدم جواز الرؤية في الدنيا والآخرة. ولو قرن بأبد. ألا ترى أنه تعالى قال في حق اليهود: " ولن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم " يعني الموت ولم يقتضي ذلك أن لا يتمنوه في الدنيا والآخرة، لأنه أخبر تعالى أنهم يتمنون الموت في النار بقوله: " ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك " يعنون الموت، فإذا كان حرف لن مع اقتران أبد به لا يقتضي نفي ذلك في الدنيا والآخرة، فكيف به إذا لم يقرن به أبد، وأيضا الجواب يجوز فيه الاستثناء، بأن كان يقول: لن تراني في الدنيا ولن تراني إلا وقت كذا وكذا، كما قال أخو يوسف عليه السلام: " فلن أبرح الأرض " ثم استثنى " حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي " فصح أن حرف لن لا يحيل عليه جواز الرؤية، وإنما توجب أن لا توجد الرؤية في هذا الوقت دون جوازها فصح ما قلناه.
والجواب الثاني: أن الله تعالى علق جوز الرؤية على أمر جائز، ولو كانت مستحيلة لما علقها على أمر يجوز أن يوجد، وهو استقرار الجبل، فلما كان استقرار الجبل من الجائز دل على أن الرؤية جائزة.
पृष्ठ 69