واعلم: أنا لا نفكر أن نطلق القول بأن الإيمان عقد بالقلب وإقرار باللسان وعمل بالأركان، على ما جاء في الأثر لأنه صلى الله عليه وسلم إنما أراد بذلك أن يخبر عن حقيقة الإيمان الذي ينفع في الدنيا والآخرة، لأن من أقر بلسانه، وصدق بقلبه، وعمل أركانه حكمنا له بالإيمان وأحكامه في الدنيا من غير توقف ولا شرط، وحكمنا له أيضا بالثواب في الآخرة وحسن المنقلب، من حيث شاهد الحال، وقطعنا له بذلك في الآخرة، بشرط أن يكون في معلوم الله تعالى أنه يحييه على ذلك، ويميته عليه. ولو أقر بلسانه، وعمل بأركانه، ولم يصدق بقلبه، نفعه ذلك في أحكام الدنيا ولم ينفعه في الآخرة، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم حيث قال: يا معشر من آمن بلسانه ولما يدخل الإيمان في قلبه وإذا تأملت هذا التحقيق وتدبرته وجدت بحمد الله تعالى ومنه: أن الكتاب والسنة ليس فيهما اضطراب ولا اختلاف، وإنما الاضطراب: والاختلال، والاختلاف في فهم من سمع ذلك، وليس له فهم صحيح، نعوذ بالله من ذلك.
وكذلك أيضا: لا ننكر أن نطلق أن الإيمان يزيد وينقص. كما جاء في الكتاب والسنة؛ لكن النقصان والزيادة يرجع في الإيمان إلى أحد أمرين: إما أن يكون ذلك راجعا إلى القول والعمل، دون التصديق؛ لأن ذلك يتصور فيهما مع بقاء الإيمان، فأما التصديق فمتى انخرم منه أدنى شيء بطل الإيمان. وبيان ذلك: أن المصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام إذا ترك صلاة أو صياما أو زكاة أو قراءة في موضع تجب فيه القراءة، أو غير ذلك من الواجبات لا يوصف بالكفر بمجرد الترك مع كمال التصديق وثباته عليه. وبالضد من ذلك لو فعل جميع الطاعات. وأقر بجميع الواجبات، وصدق بجميع ما جاء به الرسول إلا تحريم الخمر أو نكاح الأم، ولم يفعل واحدا منهما، فإنه يوصف بالكفر، وانسلخ من الإيمان، ولا ينفع جميع ذلك مع انخرام تصديقه في هذا الحكم الواحد، فيجوز نقص الإيمان وزيادته من طريق الأقوال والأفعال، ولا يجوز من طريق التصديق، وقد بين ذلك صلى الله عليه وسلم بقوله: لا يكمل إيمان العبد حتى يحب لأخيه المسلم الخير وكذلك قوله حتى يأمن جاره بوائقه وأراد بذلك الكف عن الأذى، ولم يرد التصديق، لأنه لو استحل أذاه لم يكن له إيمان لا زائد ولا ناقص. فافهم ذلك.
والأمر الثاني: في جواز إطلاق الزيادة والنقصان على الإيمان، يتصور أيضا أن يكون من حيث الحكم لا من حيث الصورة، فيكون ذلك أيضا في الجميع من التصديق والإقرار والعمل، ويكون المراد بذلك في الزيادة والنقصان راجعا إلى الجزاء والثواب، والمدح والثناء، دون نقص وزيادة في تصديق، من حيث الصورة. وقد دل على ذلك الكتاب والسنة.
أما الكتاب: فقوله تعالى: " لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل، أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا، وكلا وعد الله الحسنى، والله بما تعملون خبير " ولم يرد أن تصديق من آمن قبل الفتح يزيد على تصديق من آمن بعد الفتح؛ لأن كل واحد منها من حيث الصورة مصدق بجميع ما جاء به الرسول عليه السلام، لكن تصديق أولئك أكمل في الحكم والثواب، والدرجة، لأن هذا يصدق بشيء لا يصدق به الآخر.
وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: لا تسبوا أصحابي، فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه، ومعلوم أن إنفاق مثل أحد ذهبا ما أنفقه أحد من الصحابة، لكن إيمانهم ونفقتهم في الحكم والثواب، والجزاء، والدرجة أزيد أكمل من نفقة غيرهم، فهي وإن كانت في الصورة أكثر، لكنها أنقص من حيث الحكم، لا من حيث العين، فاعلم حكم ذلك وتحققه، ووازن هذا من أفعالنا اليوم، وأنها تتصف بالزيادة من حيث الحكم دون العين. أن من صلى صلاة الظهر في بلد من البلاد غير مكة والمدينة، وأتى بجميع شرائطها، وآخر صلى بمكة والمدينة على الوجه الذي صلى عليه الآخر، لا يقال: إن أحد الصلاتين أزيد من الأخرى من طريق الصورة والعين، ولكن أحدهما أزيد من طريق الحكم؛ في تحصيل الفضيل والثواب، ولهذا نظائر يطول تعدادها، وقد تكون الزيادة بكثرة دلائل التصديق لا في التصديق.
مسألة
الإسلام والإيمان
पृष्ठ 18