والدليل على ذلك: ما بيناه من قبل، وأنه خالق لها، وإذا صح ذلك ترتب عليه أنه مريد لما خلق، قاصد إلى إبداع ما اخترع، ويدل على ذلك أيضا: قوله تعالى: " ولو شاء الله لجمعهم على الهدى " وقوله تعالى: " فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام، ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون " وقوله تعالى: " ولو أننا نزلنا إليهم الملائكة وكلمهم الموتى وحشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله ولكن أكثرهم يجهلون " وقوله تعالى: " ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين " وقوله تعالى: " ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين " والآيات في هذا المعنى في القرآن لا تحصى عددا. وأيضا: فإن الأمة قد أجمعت على القول بإطلاق هذه الكلمة: ما شاء الله كان. وما لم يشأ لم يكن وأيضا فإنه لو أراد شيئا وأراد غيره شيئا فوجد مراد غيره دون مراده كان ذلك دليل العجز والغلبة، والله يتعالى عن ذلك.
وقال بعض أهل التحقيق: والله ما قالت القدرية كما قال الله تعالى ولا كما قال النبيون ولا كما قال أهل الجنة، ولا كما قال أهل النار، ولا كما قال أخوهم إبليس؛ لأن الله تعالى قال: " يضل من يشاء ويهدي من يشاء " وقال: " وما تشاؤن إلا أن يشاء الله " .
وقال شعيب: " وما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله ربنا " وقال موسى عليه السلام: إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين وقال نبينا صلى الله عليه وسلم: قل لا أملك لنفسي نفعا ولا ضرا إلا ما شاء الله وقال أهل الجنة: الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق ونودوا أن تلكم الجنة أورثتموها بما كنتم تعملون وقال أهل النار: ربنا غلبت علينا شقوتنا وقال أيضا: بلى ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين وقال إبليس: رب بما أغويتني وقد قال تعالى: " وإذا أراد الله بقوم سوءا فلا مرد له " .
### || ### || مسألة
الفرق بين الإرادة والمشيئة
واعلم: أنه لا فرق بين الإرادة، والمشيئة، والاختيار، والرضى، والمحبة على ما قدمنا. واعلم: أن الاعتبار في ذلك كله بالمآل لا بالحال، فمن رضى سبحانه عنه لم يزل راضيا عنه، لا يسخط عليه أبدا، وإن كان في الحال عاصيا. ومن سخط عليه فلا يزال ساخطا عليه ولا يرضى عنه أبدا، وإن كان في الحال مطيعا.
ومثال ذلك: أنه سبحانه وتعالى لم يزل راضيا عن سحرة فرعون، وإن كانوا في حال طاعة فرعون على الكفر والضلال، لكن لما آمنوا في المآل؛ بان بأنه تعالى لم يزل راضيا عنهم، وكذلك الصديق، والفاروق رضي الله عنهما لم يزل راضيا عنهما في حال عبادة الأصنام، لعلمه بمآل أمرهما وما يصير إليه من التوحيد ونصر الرسول والجهاد في سبيل الله تعالى.
وكذلك لم يزل ساخطا على إبليس، وبلعم، وبرصيص، في حال عبادتهم؛ لعلمه بمآلهم وما يصير إليه حالهم.
وقد سئل الجنيد رضي الله عنه عن قوله تعالى: " إن الذين سبقت لهم منا الحسنى " فقال: هم قوم سبقت لهم العناية في البداية، فظهرت لهم الولاية في النهاية.
مسألة
كسب العبد
ويجب أن يعلم: أن العبد له كسب، وليس مجبورا بل مكتسب لأفعاله؛ من طاعة ومعصية؛ لأنه تعالى قال: " لها ما كسبت " يعني من ثواب طاعة " وعليها ما اكتسبت " يعني من عقاب معصية. وقوله: " بما كسبت أيدي الناس " وقوله: " وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم " وقوله: " ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة، ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى، فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا " .
ويدل على صحة هذا أيضا: أن العاقل منها يفرق بين تحرك يده جبرا وسائر بدنه عند وقوع الحمى به، أو الارتعاش، وبين أن يحرك هو عضوا من أعضائه قاصدا إلى ذلك باختياره، فأفعال العباد هي كسب لهم وهي خلق الله تعالى. فما يتصف به الحق لا يتصف به الخلق، وما يتصف به الخلق لا يتصف به الحق، وكما لا يقال لله تعالى إنه مكتسب، كذلك لا يقال للعبد إنه خالق.
पृष्ठ 13