الأستانة
كانت الأستانة دار الخلافة ومصدر متاعب الأحرار ومرجع آمالهم، وفيها قصر يلدز مدفن الأفكار الحرة وبؤرة الجواسيس ومسرح أهل المطامع والأغراض، وقد خصها الله بموقع طبيعي لا مثيل له، لأنها موصلة بين القارتين، ووسط بين البحرين، تمنعها المضايق، وتصونها البواغيز. وكانت في أول أمرها تسمى بيزنطة، ثم سميت القسطنطينية نسبة إلى قسطنطين الأكبر الذي جعلها عاصمة المملكة الرومانية الشرقية سنة 330م.
وهي ثلاثة أقسام: اثنان في أوروبا والثالث في آسيا، كأنها تتجاذب للمعانقة فتحول بينها المياه. أو هي ثلاث مدن برية تفصل بينها ثلاثة أبحر، فالأقسام البرية هي إستانبول في الجنوب، وبك أوغلي أوبيرا في الشمال، وكلاهما في أوروبا، وأسكودار في الشرق، وهي في آسيا، يفصل بينها البوسفور في الشمال الشرقي، ومرمرة أو الدردنيل في الجنوب، وقرن الذهب في الغرب الشمالي. تلك هي أقسامها اليوم، أما قبل الفتح العثماني فلم يكن عامرا منها إلا إستانبول التي جعلها العثمانيون مقر حكومتهم، وفيها أبنية الحكومة والمساجد والمدارس، وأكثر سكانها من المسلمين، وفيها أكثر الآثار التاريخية. وكانت بيرا عند الفتح ضاحية يقيم بها بعض الأجانب إذا نزلوا الأستانة، ثم عمرت فصارت بلدا أكثر سكانه من الإفرنج. ويوصل بين إستانبول وبيرا جسران: أحدهما جسر غلطة القديم وهو أقربهما إلى البوسفور، والآخر الجسر الجديد إلى غربيه. أما أسكودار فإنها بلد إسلامي تركي يتفاءل به الأتراك خيرا، لأنهم نزلوه قبل الفتح، ومنه انتقلوا إلى أوروبا ومدوا سلطانهم فيها.
ويمتد البوسفور من الأستانة شمالا إلى البحر الأسود على مسافة 27 كيلومترا، فهي موصل بين البحر الأسود في الشمال وبحر الدردنيل في الجنوب، وعرضه عند مدخله نحو كيلومتر ونصف، وأضيق المسافات فيه عند روملي حصار وأناضول حصار نحو 500 متر، وأوسعها عند بيوك دره فإن المسافة بين الشاطئين هناك 3500 متر. وتتألف هذه المنطقة من قرى متقاربة تمتد على ضفتي البوسفور شرقا وغربا، يهمنا منها مما على شواطئ أوروبا محلة بشكطاش التي فيها يلدز وقصورها وحدائقها.
وفي جنوب الأستانة قرى عدة على شاطئ أوروبا وراء سور إستانبول والبعض الآخر على شاطئ آسيا. وهناك خط آخر بحري تكتنفه القرى من الجانبين في قرن الذهب وهو يعد من الأستانة نفسها. وهي كثيرة الشواطئ عليها الأغراس والأشجار بينها الأبنية، ثم إن هذه الشواطئ سلسلة تلال أو هضاب بينها الأودية. والأستانة نفسها مؤلفة من هضاب تكسوها القصور والجوامع والشوارع، إذا أطل عليها القادم بالبحر رأى تلك الأبنية تتدرج صعودا من الشاطئ إلى قمم الهضاب وتتخللها الحدائق. فإستانبول مثلا مؤلفة من سبع هضاب متصلة العمارة ممتدة على شاطئ قرن الذهب لا تظهر جليا للمتأمل؛ أولاها: تشرف على الدردنيل، وعليها بناية الطوبخانة والسراي القديمة (طوب قبو) وجامع أيا صوفيا وجامع السلطان أحمد. وعلى الهضبة الثانية جامع نوري عثمانية. وعلى الثالثة سراي السر عسكرية وجامع السلطان سليمان أو السليمانية. وعلى الرابعة جامع السلطان محمد الفاتح أو المحمدية. وعلى الخامسة جامع السلطان سليم أو السليمية وحي الأروام المعروف بالفنار، وفيه بطريركية الروم. وعلى السادسة أبنية سراي لكفور عند محطة بلاطه وبعدها. وعلى السابعة جامع أيوب وغيره.
وبين هذه الأبنية كثير من القصور والمنازل والأسواق والبساتين وغيرها وغيرها متلاصقة أو متقاربة، تظهر للناظر إليها من البحر كأنها معرض منضد بعضه فوق بعض على هيئة مدرج. أما بيرا الواقعة تجاه إستانبول على قرن الذهب فمؤلفة من تلال متقاربة، وهكذا أيضا ضفتا البوسفور وشواطئ الدردنيل فإنها تلال متحاذية على الشاطئ، يتراوح طول قاعدة كل منها بين نصف كيلومتر وكيلومترين، وعلوها بين مائة متر وبضع مئات من الأمتار، وأجملها القرى التي على ضفاف البوسفور، فكل منها تبدو أشبه بمعرض من الخمائل والقصور تتدرج بعضها وراء بعض من الشاطئ إلى قمة التل، وبينها بساتين بعضها من الشجر القديم كالسنديان والصنوبر والدلب ونحوها، وقد تقادم عهدها وأهملت فنمت على الفطرة بلا تعهد ولا تقليم فاشتبكت أغصانها وتعانقت، ثم أقيمت بينها قصور متفرقة أو بيوت صغيرة من الخشب سقفها من القرميد، وإنما عمدوا إلى الخشب دون الحجر لأنه أقل كلفة وأبعد عن خطر الزلازل فوقعوا بذلك في خطر الحريق.
فالمتوغل في البوسفور على الباخرة يرى نفسه في بحيرة تحيط بها الهضاب المكسوة بالخمائل والحدائق، بينها الأبنية مختلفة الألوان والأشكال مما يشرح الصدر ويطلق عنان الخيال. وأجمل ما تشاهده من مناظرها قبيل الغروب انعكاس أشعة الشمس عن زجاج النوافذ من منازل الشاطئ الآسيوي لامعة تبهر النظر كأنها منعكسة عن الماس، ثم تحمر فيخيل لك أن النار شبت في الغرف حتى كاد لسان لهيبها يندلع من نوافذها، فإذا غابت الشمس وخيم الظلام ارتسمت السماء على صفحات الماء. والجالس في أي منزل من منازل تلك القرى، سواء أكان على الشاطئ قرب الماء أم في سفح الهضبة أم على قمتها، يشرف على المياه والبواخر تسبح فيها ويرى وراءها التلال المكسوة بالأشجار والأبنية.
وإذا أوغلت في البر وراءها لا يقع نظرك إلا على واد خصيب أو غابة غضة أو جبل مكسو بالأشجار الكثيفة، بينها ينابيع باردة مثل ينابيع لبنان تجرى صافية كالزلال. وقد أقيمت هناك أماكن للنزهة يقصدها الناس ليقضوا الساعات والأيام كما يفعل المصطافون بلبنان في خروجهم إلى الينابيع المشهورة كعين الرمانة وعين حمانا ونبع العسل ونبع اللبن وغيرها، وإن كانت هذه أشد برودة من ينابيع الأستانة إلا أن هذه أجمل منظرا وأكثر خضرة، لأن معظمها يجري في جبال تكسوها أشجار هائلة تعانقت أغصانها وتكاثفت أوراقها حتى تحجب أشعة الشمس، لكنها لا تضيق الصدر لأنها عالية وبين جذوعها منفرجات، وقد تعاظم جرمها لقدم عهدها ويندر أن تكون للإنسان يد في إصلاحها. وهذه الينابيع كثيرة بعضها في شاطئ الأناضول والبعض الآخر في جهات الروملي. وأشهر المياه في الروملي: نبع الكاغدخانة في آخر قرن الذهب، وهو منتزه جميل مساحته عشرات من الأفدنة مكسوة بالأشجار والأعشاب وتجري فيها المياه، فيقصدها الناس زرافات ووحدانا في فصل الربيع. ونبع جرجر، وبالقرب منه نبع خونكار صو، وهو أعلى منه كثيرا لا يمكن الصعود إليه إلا بالمركبات ويصعب تسلقه على الدواب.
فالطبيعة وهبت الأستانة هبات يعز مثالها في مشارق الأرض ومغاربها، ولكن هذه الهبة لم يحسن الحكام استخدامها في عصر روايتنا هذه، فمنازل الأستانة متراصة بعضها وراء بعض تشرف على البحر وعلى ما جاورها من المنازل، ولكن شوارع المدينة ودروبها تكاد تكون خرابا لتقلقل بلاطها وقلة العناية بإصلاحها، فضلا عن ضيقها. وذلك لأن حكام العصر الماضي لم يكن يهمهم إلا منافعهم الشخصية، فكانت منازلهم على أتم نظام وحدائقهم على أجمل ترتيب يتعهدون أشجارها بالتهذيب ويرصفون الطرق بين المساكب بالحصى الملونة على شكل الفسيفساء، وكانوا ينفقون الملايين على بناء منازلهم ومنتزهاتهم ويضنون بالقروش على الأماكن العامة.
أما يلدز فليست قصرا واحدا فخما كما يتبادر إلى الذهن، وإنما هي قصور عدة تتفاوت قدرا وجمالا، متفرقة بين الخمائل والغابات والبساتين والبحيرات على غير نظام. وليس في وصف هذه القصور ما يدهش القارئ، ولكن العبرة بما هنالك من المخبآت الغريبة، فإن البقعة التي أقاموا فيها قصور يلدز واسعة تزيد سعتها على مساحة بلد كبير، أكثرها غابات كثيفة الأشجار، بينها حدائق غناء وبحيرات تجري فيها القوارب، وهي مؤلفة من قسمين كبيرين؛ الحديقة الداخلية والحديقة الخارجية. وليلدز باب خارجي كبير تدخله المركبات إلى بقعة فيها طريقان؛ أحدهما إلى اليسار يؤدي إلى طريق الحديقة الداخلية، والآخر إلى اليمين يؤدي إلى طريق الحديقة الخارجية، وفي كل من الحديقتين قصور وأبنية عدة. فالحديقة الداخلية بستان كبير محاط بسور عال أشبه بأسوار الحصون منه بالحدائق يفصله عن الحديقة الخارجية، ولها باب كبير مذهب يؤدي إلى القصور الداخلية، وهي: قصر المابين الصغير مسكن السلطان، وقصر جيت، وقصر مالطة، وقصر جهان نما، ومعرض الحيوان، وهذه القصور متقاربة كل منها يستطرق إلى الحديقة الداخلية. وفيها بحيرات تجري فيها القوارب ومسارح للطير مؤلفة من عشرات من الغرف مصنوعة من الخشب المزخرف ملاصقة لجدار الحديقة الشرقي ، ولها واجهات من الزجاج ونوافذ من الأسلاك، وبعض الغرف كلها من الزجاج يسرح فيها الحمام كل نوع في غرفة أو بضع غرف متقاربة، وبينها الحمام الأبيض والأسود والمرقط وذوات العرف الطويل أو الذيل العريض وغيرها، ولها في مسارحها مجالس تأوي إليها وتبيض أو تفقس فيها على أبدع نظام. ويلي مسارح الحمام غرف لتربية الأزهار الشتوية التي يضر بها البرد، مصنوعة من الزجاج المضبوط التماسا للدفء. ويلي ذلك أقفاص فيها بنات آوى أو بعض الكلاب الضخمة، وفي بعض جوانب هذه الحديقة إسطبلات للخيل في كل منها موقف لجواد خاص.
अज्ञात पृष्ठ