دب الصمت في القاعة، اتجهت أضواء الكاميرات والفلاشات إلى الوجه المغمور في الصف الأخير، بدا طويلا نحيلا أصفر شاحبا يزداد شحوبا، ثم عادت الأضواء إلى وجه رئيس التحرير. في لحظات أصبح مقعد المحرر المغمور خاليا، أين اختفى لم يعرف أحد، أكد رئيس التحرير أن الشيوعية والنازية والفاشستية وجميع النظم الشمولية كلها سقطت في مزبلة التاريخ إلى غير رجعة؛ لأنها تقوم على الدكتاتورية والاستبداد وعدم حرية التعبير، وأن طريق المستقبل الوحيد نحو الديموقراطية هو الرأسمالية التي ثبت نجاحها في كل البلاد شرقا وغربا، حتى الصين وروسيا أيها السادة اتجهتا إلى نحو الرأسمالية.
انتهى الاجتماع بالتصفيق، وتدافع الجميع خارجين من القاعة، لمحت بكري يمشي أمامها ببضعة صفوف، يختفي ظهره في الزحام بين الأجسام، يهرولون بخطى مسرعة نحو مناطق النفوذ، رجال ونساء يتطلعون إلى الأضواء، يهرول زيدان مع المهرولين، راحت تجري متمايلة فوق كعبها العالي الرفيع، خارج القاعة رأته واقفا، اقترب منها وصافحها كل سنة وإنتي طيبة يا كوكب. قبل أن يسحب يده ترك في كفها ورقة صغيرة مطوية.
دخلت مكتبها وأغلقت الباب، أطفأت النور، ربما هناك عين سحرية تلتقط الكلمات في الرسالة، جلست ساهمة وفي كفها الورقة مطوية لم تفتحها، ربما يكون بيتها أكثر أمانا من المكتب، علقت حقيبتها الجلدية بالحزام في كتفها، هبطت السلالم إلى الدور الأرضي، خرجت من الباب الخلفي إلى موقف السيارات، ركبت سيارتها إلى البيت، كانت أمها في السرير تئن بصوت خافت. - ما لك يا ماما؟ - تعبانة شوية يا كوكب. - أطلب الدكتور؟ - لأ، مش ضروري. - يمكن شوية إرهاق؟ - يمكن. - قلت لك يا ماما لازم تستريحي. - ما قدرش يا كوكب. - ليه يا ماما؟ - اتعودت ع الشغل. - اتعودي ع الراحة يا ماما. - مين يصرف ع البيت؟ - أنا يا ماما. - مش كفاية. - كفاية جدا. - مهنة الصحافة يا كوكب على كف عفريت. - لكن أنا مستقرة في شغلي يا ماما. - ما فيش أمان في الزمن ده، فيه جرانيل كتيرة جديدة عاوزة محررين ومحررات، طيب يا بنتي أقوم أسخن لك الأكل؟ - أكلت في الكافيتيريا ولازم أكمل المقال قبل ما أنام.
أسرعت كوكب إلى غرفتها، خلعت ملابسها، استحمت ثم ارتدت قميص النوم، دخلت فراشها الناعم وفتحت الورقة المطوية:
كوكب، هل يمكن أن نتحدث معا قبل سفرك إلى نيويورك؟
أرجو الاتصال بي في أقرب وقت.
خط يده حروفه دقيقة صغيرة، توحي بالدقة والتردد، متعرجة قليلا فوق السطر توحي بعدم الاستقامة، تكاد تشبه حروف أبيها، لا تميل إلى أبيها منذ الطفولة.
غلبها النوم وهي تفكر في أبيها، يشهد كثيرون أنه إنسان كفء في عمله مخلص للوطن، قضى في المعتقل ستة شهور قبل أن تولد، كانت جريمته المقال الوحيد الذي نشره، يربط فيه بين القوانين الاشتراكية الاقتصادية والديموقراطية السياسية.
قبل أن تستغرق تماما في النوم تذكرت بكري، الرسالة المتبادلة بينهما عبر النظرة السريعة، كانت أقوى تأثيرا من رسالته المكتوبة.
هل يكشف خط اليد حقيقة الإنسان أكثر من عينيه؟ هل تستطيع العين إخفاء الحقيقة أكثر من حروف الخط؟
अज्ञात पृष्ठ