تململت كاتمة الضيق، لا تشعر بلذة في قراءة الأستاذ، كلماته مقعرة متعالية، يدعي العلم، يردد أقوال فلاسفة من الغرب والشرق، لم تعد تشعر بلذة في القراءة، كل شيء في حياتها يخلو من اللذة، القراءة والكتابة والحب والجنس وكل شيء، وجدت نفسها تصيح بغضب: أرجوك يا بكري، بلاش كلمة عالمي دي. - ما لها كلمة عالمي يا كوكب؟ - أباتت كلمة مقززة؟ - كل شيء مقزز حتى الصحافة والكتابة ...
وأرادت أن تكمل لكنها توقفت، يتركها زوجها تتكلم ويسقط في النوم، تروح عن نفسها بالهمس، تواصل الحديث مع زوجها النائم حتى ينزاح العبء عن صدرها، تغسل عن نفسها كل ما يسبب لها التقزز، تصبح نظيفة طاهرة، ثم تغرق في نوم عميق كالملائكة. هبط الليل وفؤادة تمشي على شاطئ البحر، من أين لها بتذكرة القطار؟ هل تبيت في الكبينة على الشاطئ؟ تذكرت فجأة أخاها، إنه يسكن في شقة تطل على محطة الرمل، ويعمل في مكتب بالإسكندرية. وصلت إلى شقة أخيها متعبة جائعة ريقها ناشف، دقت الجرس لكن لم ينفتح الباب، واصلت دق الجرس والخبط على الباب الخشبي ذي اللون البني الأدكن، له مقبض ذهبي منقوش عليه حروف الله، لم ينفتح باب أخيها فازدادت حيرة، لا تعرف ما تفعل، أمام الباب قطعة من السجاد، مكتوب عليها كلمة أهلا، تكورت فوقها ورأسها بين يديها، انفتح باب الشقة المجاورة، ظهر شاب طويل نحيف يرتدي بيجاما بيضاء، اتسعت عيناه دهشة: حضرتك أخت عصام؟ - أيوه، أنا أخته. - اتفضلي، استريحي عندي، عصام دايما يرجع متأخر، اتفضلي لغاية ما يرجع.
كان واقفا في الباب، نظرته توحي بالثقة، وهي جالسة لم تنهض قالت ولسانها جاف من الظمأ: كوباية ميه من فضلك؟ - اتفضلي عصام صديقي.
دخلت من الباب المفتوح، الصالة واسعة فيها كنبة كبيرة من الجلد وبعض الكراسي من النوع الأسيوطي، ومكتبة من خشب الزان محملة بالكتب، قالت لنفسها: رجل يقرأ الكتب، إذن لا خوف منه. تملؤها الكتب منذ الطفولة بالطمأنينة، لمحت عناوين روايات عربية وأجنبية وكتب في الاقتصاد والتاريخ والفلسفة، كتب الأدب لها عندها جاذبية خاصة، أفرغت كوب الماء البارد في جوفها الساخن، غمرتها الراحة فاستندت إلى المسند الجلدي: أنت بتحب قراءة الروايات؟ - أيوه.
لكن كان يشتغل مهندسا، يضع رسوم الإنشاءات والمباني، يتحدث عن فن المعمار بحماسة عاطفية. دار الحديث بينهما كأنه زميلها في الجورنال، الإبداع في المعمار لا يختلف عن الإبداع في الأدب أو الموسيقى أو أي شيء آخر، لكن لا أحد يهتم بالحاجات دي في بلدنا؟
في بيت رجل
كانت تنظر إلى الساعة من حين إلى حين، تسير إلى باب أخيها تدقه، تضغط على الجرس، ثم تعود حائرة، بلغت الساعة منتصف الليل، عصام اتأخر جدا، دايما يتأخر، زمانه جاي في السكة عندي صينية بطاطس في الفرن، جعانة؟ جدا وضحكت نهض إلى المطبخ وكوباية ميه كمان من فضلك، أكلت بشهية الأطفال في غرفة الطعام، ونامت حتى الصباح في غرفة الضيوف، قلقت في نومها مرة أو مرتين، تتلفت حولها بدهشة، غرفة غريبة عنها، وهي راقدة بملابسها لم تخلع الحذاء، تدرك فجأة أنها تمضي الليل في بيت رجل لا تعرفه، ليس لباب الغرفة مفتاح، ينتابها القلق ثم يغلبها النوم، تفتح عينيها في الظلمة، ترهف أذنيها لسماع صرير باب غرفتها وهو يدخل؟ مجرد خيالات ومخاوف طفولية قديمة، حين كانت تسد شقوق الشيش بأوراق الصحف؛ خوفا من تسلل الشيطان أو الملاك مندوب الله إلى السيدة مريم العدرا، لكن الليل انقضى في أمان، قفزت من الفراش على ضوء النهار، صافحت الرجل وشكرته، لم تسأله عن اسمه، سارت إلى باب شقة أخيها ضغطت الجرس، فتح أخوها الباب، اتسعت عيناه دهشة، جيتي من مصر امتى؟
دلوقتي أتقول له أين قضت الليلة؟ لا أحد يصدق؟ تكاثرت المساجد والمسابح وفتاوى وأحاديث من نوع: ما اجتمع رجل وامرأة إلا وكان الشيطان ثالثهما. دخلت الصالة، كانت مائدة الفطور معدة، فتاة جالسة تشرب الشاي وهي مرتدية قميص نوم أحمر شفافا، حمالة رفيعة فوق الكتف البيضاء العارية، رأسها ملفوف بالحجاب، تلعثم أخوها قليلا: صديقتي.
ابتسمت الفتاة وهمست: اتفضلي الفطور جاهز. شكرا، لازم أرجع مصر حالا، نشلوني يا عصام وعاوزة أستلف منك ثمن تذكرة القطار إلى القاهرة. جلست في جوار النافذة، تحب السفر بالقطار منذ الطفولة، تشرد عيناها في المساحات الخضراء الممدودة إلى الأفق، لم تعد المساحات خضراء، تقلصت الخضرة وتقلصت البهجة، في محطة طنطا اشترت رزمة من الجرائد، رائحة السميط أعادت إليها شيئا من البهجة، قضت الوقت وهي تقرأ وتقضم السميط مع الجبنة الرومية، في الصفحة الأولى من الجورنال رأت الصورة، صورته تظهر في كل يوم في الصفحة الأولى، في كل مكان في البلد، فوق أعمدة النور والسواري، في مكاتب الموظفين والحلاقين، وفي دورة المياه بالقطار، تطل عيناه عليها وهي جالسة فوق المرحاض، تهتز الخطوط فوق جبينه مع الاهتزازات فوق القضبان، ويشتد غضبه حين يراها تمسح المرحاض بالجورنال، وصلت إلى محطة باب الحديد، ركبت الأوتوبيس إلى شارع التحرير، تمشي بخطوتها السريعة، الناس يرمقونها وهي تمشي، يحملقون في ظهرها المشدود ورأسها المرفوع، نوع من الكره تثيره في الرجال والنساء، يكرهون كيانها وكبرياءها، جسمها ممشوق مثل جسم شاب رياضي لكنها فتاة، خطوة واسعة واثقة تنم عن الكرامة، ليست خطوة أنثى، عيناها شاخصتان إلى الأمام تتحديان الأنوثة والذكورة معا، لم تكن ترى أحدا وهي تمشي، لا تتلفت هنا وهناك، كأنما الكون خال من البشر، تمشي نحو الأفق، حتى التقاء الأرض والسماء، تمشي كأنما إلى اللامنتهى، زوجها شاكر كان ينتظرها، بشرته بيضاء، شعره أسود كثيف إلا صلعة صغيرة في منتصف الرأس، عنقه رفيع يطل من فتحة القميص المفتوح، صدره أملس ليس عريضا وليس فيه شعر، عضلات ذراعيه قوية، يمارس الرياضة في النادي. - مكتب الرئيس طلبك مرتين. - الرئيس أنهوه؟ - مش عارفه. - رئيس التحرير؟ - عاوز يقابلك. - بخصوص؟ - قرار فصلك.
حدقت إلى عينيه الخضراوين من خلال زجاج النظارة البيضاء، في صوته رنة سرور غامض وهو ينطق «قرار فصلك»، يخفي الصراع في أعماقه بابتسامة أو بنصف ابتسامة، شارك في التظاهرات، هتف للحرية والعدالة والمساواة، دخل السجن وخرج، صدر له كتاب عنوانه تحرير المرأة: فصلني خلاص عاوز يقابلني ليه؟ - يمكن يرجع في قراره. - لا يمكن أرجع الجورنال. - بلاش مشاكل جديدة يا فؤادة.
अज्ञात पृष्ठ