انتفضت خيمة سوداء وخطفت منديل الورق من يدها، حاولت منعهما من الدخول لكنها دفعتها بيدها القوية، فسحت في الطريق لأمها كان الزحام شديدا، بعض المراحيض معطلة طافحة المجاري، غاص حذاؤها في المياه، براز يطفو على السطح، امرأة تغسل يديها من كوز صفيح، الرائحة غير محتملة، همست أمها: أرجوك لنخرج من هنا. رمقتهما النساء المتنقبات بعيون غاضبة.
بصقت واحدة ناحيتهما وصاحت: كلكم في الجحيم والثعبان الأقرع يضربكم بذيله في أعماق قبوركم. قالت لها: أنتم الجحيم فوق الأرض. رجال من ذوي اللحى الطويلة كانوا عند المدخل، يرتدون جلابيب بيضاء متسخة بالطين والتراب، يشمرونها حتى الركب، يحمل كل منهم خيزرانة ومطواة من قرن الغزال مختفية في جيب سرواله، تتركز عليهما الأضواء، اقترب أحدهم منها ولسعها فوق ظهرها بالخيزرانة ، شدت منه العصا وضربته على ظهره، انضم إليه رجل آخر يتحرش بها، نزعت أمها العصا من يده وانهالت عليه ضربا، لم تكن ضرباتها قوية، ابنتها في ريعان الشباب، تقدم أربعة رجال نحوها ينزعون عنها ثيابها، تمتد أياديهم بين نهديها وساقيها، انقضت الأم عليهم كالجبل يسقط فوقهم، استعادت قوتها القديمة، مارد نائم في أعماقها لا يصحو إلا عند الخطر، أنقذت ابنتها من بين أيديهم، والهتاف يدوي: يسقط النظام. جلست تحت خيمتها في الميدان حين هبط الظلام، كان لها خيمة من قماش أزرق هو قلع مركب، يلجأ إليها الشباب والشابات للراحة بعد التعب، يتناولون شيئا من الطعام أو الماء، يجلسون ويتحدثون حتى الفجر، كان منهم جلال أسعد وفؤادة وسعدية وهنادي وداليا وحميدة وبدرية البحراوي، ينصرفون إلى بيوتهم قبل هجمات البوليس، وقد يبيتون في الخيمة أيام الاعتصامات مع أمهات الشهداء والشهيدات، قتل الآلاف بالرصاص الحي أو الغازات أو التعذيب، لم تعثر الابنة على جثة أمها، ولم تعثر الأم على ابنتها، كانت الجثث تختلط بعضها ببعض، تتلاشى الفروق بين البشر، يساوي الموت بينهم، تهمس في الليل أصوات مبحوحة: لو أشوف ابني بين الجثث؟ مش عارفة عايش والا ميت؟ لو أشوف أمي بعيني في المشرحة يمكن النار في قلبي تبرد!
مش عارفة جثة بنتي راحت فين؟
في مشرحة زينهم الزحام شديد، الموتى أكثر من الأحياء، يدخل رجل يرتدي ملابس عسكرية، ينحني له الدكتور المدير، يناوله ورقة رسمية ويخرج مسرعا، رائحة الموت نفاذة، فوق منضدة جثة يشرحها طبيب، ملامح الميت تشبه ملامح الطبيب، يدخل رجل يرتدي بذلة مكوية أنيقة ومن حوله حرس ينادونه سعادة الباشا، أحدهم يدس في يد الطبيب ورقة من مائة جنيه، تسري حمرة خفيفة في الوجه الخالي من الدم، يتقاضى الطبيب 9 جنيهات لتشريح الجثة الواحدة حسب اللائحة، ويتقاضى مساعده 125 قرشا، تقدمت الأم بظهرها المنحني من الممرض متوسلة إليه: فين بنتي؟
لم يكن في جيبها إلا ثلاثة جنيهات، دفعها الممرض بيده القوية خارج المشرحة، ممنوع الدخول هنا، مفهوم؟ لكن الابنة الشابة دفعت الممرض بيدها القوية ودخلت إلى المشرحة تزعق: يا لصوص، يا مرتشين، يا مزوري التقارير. وكان الممرض أيضا يبيع الجثة لطلبة كليات الطب بالقطعة، يتقاسم المدير والطبيب والممرض الدخل اليومي كل حسب درجته في الكادر الحكومي.
تشريح الجثة
خرجت التظاهرات تطالب بالقصاص من القتلة.
نشرت الصحف:
أدلى الدكتور الطبيب الشرعي الذي شرح جثة جلال أسعد بأقواله أمام نيابة قصر النيل، قال: إن الوفاة نتيجة حادث تصادم وليست بسبب تعرض المتوفى للتعذيب، مشيرا إلى أنه عثر في الملابس على آثار احتكاك بجسم حديدي ولا توجد آثار ضرب، وواجه مدير النيابة الطبيب الشرعي بأقوال الشهود ومنهم الكاتبة الصحفية المعروفة كوكب الكميلي، قالت إن المجني عليه توفي نتيجة تعذيبه من قبل ثلة من ضباط البوليس داخل معسكر الأمن المركزي بالجبل الأحمر، لكن هذه الكاتبة الصحفية غيرت أقوالها لاحقا، وأقوال عامل موقف الحافلات بميدان عبد المنعم رياض، الذي قال إنه شاهد سيارة ميكروباس متجهة إلى كوبري 6 أكتوبر تصدم جلال أسعد، بالإضافة إلى أقوال الممرض المسعف وسائق سيارة الإسعاف التي نقلت جلال أسعد، قال الاثنان إنهما في أثناء وقوفهما في نقطة التمركز أمام المتحف المصري، أخبرهما شخص يستقل دراجة بخارية بوجود جثة شاب صدمته سيارة ملاكي مسرعة أمام مطلع كوبري 6 أكتوبر. أمرت نيابة قصر النيل بتشكيل لجنة ثلاثية لإعادة تشريح الجثة بناء على طلب محاميه، بعد معارك مع النيابة ومصلحة الطب الشرعي، حصل المحامي على نسخة من تقرير الطب الشرعي، الذي أكد أقوال النيابة وأن جلال أسعد لم يقتله التعذيب، بل مات فجاة في إثر حادث سيارة.
قذفت أم جلال أسعد عربة البوليس بالحجارة، ومن خلفها الأمهات والشباب والشابات مزقوا معطف الطبيب الشرعي وهم يصرخون: يا مجرمين يا لصوص. وانطلقت الملايين في التظاهرات وهي تهتف: يسقط النظام!
अज्ञात पृष्ठ