سليم قبعين
الكونت لاون تولستوي، فيلسوف الروس العظيم.
كلمة لمعرب الكتاب
نبغ الفيلسوف تولستوي من أمة الروس، وفي بلاد اشتهرت بالحجر على الأفكار وتشديد المراقبة على المطبوعات. ولقد أعجب هذا الفيلسوف العالم بما فاض عليه من أسرار الحكمة وما ابتكره من فنون المعارف، وأوجده من أسباب الحقائق التي أماط عنها النقاب في كل ما يتناول فيه البحث من المواضيع النافعة، مما شهد له فيه بنقد النظر وجلاء الخاطر جميع علماء أوروبا وحكمائها. وقد اجتمع في العام الماضي أئمة فلاسفة الألمان، وقر رأيهم بأن تولستوي هو أكبر فيلسوف خلقه القرن العشرون. ومن جملة ما وضعه هذا الفيلسوف من المؤلفات الأدبية الشهيرة التي ترجمت إلى سائر اللغات الحية: كتاب يبحث في أسباب فساد المرأة والهيئة الاجتماعية، أطلق عليه اسم «نغم كريتسر». وقد التزم طبعه أحد الأمريكيين باللغة الإنكليزية سبع مرات في نحو خمسة أشهر، وكان يطبع في كل مرة 5000 نسخة، فلما رأى الأرباح الطائلة التي عادت عليه بسبب طبع هذا الكتاب؛ طلب إلى الفيلسوف يرجوه أن يضع له كتابا ثانيا من نوع الأول، ويتعهد له بدفع سبعة ريالات أمريكية عن كل كلمة، فأبى عليه الفيلسوف ذلك بدعوى أنه يخص عمله بخدمة الجمهور ولا يقصد به ربحا.
أما الشيء الخطير الذي أتاه تولستوي، فانقلبت من أجله روسيا ظهرا لبطن: تخطيئه الكنيسة المسيحية في أكثر أمورها؛ إذ أنكر عليها عقائدها بدعوى أنها من أوضاع البشر، وتخالف أحكام الإنجيل مخالفة صريحة؛ فأثرت أقواله في عقول متنوري روسيا، وحلقت بها الصحف في سماء العالم الأوروبي، حتى اجتمع بسبب ذلك المجمع المقدس في عاصمة الروس برئاسة السيد أنطوني رئيس المجمع المقدس ومطران بطرسبرج، وحرم ذلك الفيلسوف، وعده كاذبا في دعوته مفتريا على الكنيسة، وكان لذلك أسوأ وقع في نفوس الطلبة والطالبات، وقاموا بعمل مظاهرات في الكنائس والشوارع، وكاد يفضي الأمر إلى ثورة داخلية لولا أن أخذت الحكومة الروسية بالحكمة في تهدئة الخواطر وتسكين الاضطراب. وقد وضع الفيلسوف تولستوي كتبا لاحظ فيها على نقط الخطأ في كثير من مواضع ترجمة الإنجيل، واعتبر الأناجيل الأربعة مشاكلة لبعضها البعض، فوحدها في كتاب واحد سماه: «إنجيل تولستوي» كان له شأن يذكر فيما بين علماء الدين وأرباب الفطنة وأصحاب المدارك السامية في أوروبا، فنقلته كل أمة إلى لغتها واشتغلت بأمره. وقد أردنا أن نخدم قراء اللغة العربية إجابة للذين داوموا إلينا الطلب أن نعربه، فأقدمنا على ذلك، وليس في عملنا مظنة لبعض الذين يسارعون إلى القضاء على الأمر دون الاستبصار بتمحيصه والتماس صوابه من خطئه. فنحن إن عربنا هذا الكتاب. فليس الدافع لنا إلى ذلك تآلف المذاهب أو تعارف العقائد، وإنما نحن ننقل إلى أبناء اللغة العربية مكتوبا جليل الفائدة ثمين القيمة بالنسبة لنصيبه لدى المشتغلين بأمر البحث في أصول الأديان والمنقبين عن علل العقائد الدينية، ولأن الكتاب في وضعه إن لم يكن حكمة نطق بها صاحبها فهو جوهرة انفصلت من أشعة فكر الفيلسوف الذي أحسن ما ينعت به: أنه لا يضن على الناس بما في ضميره، فبسط لهم قلبه كتابا يقرءونه، ويتحسسون بأبصارهم وبصائرهم من مواضيعه ومواضعه ما يشاءون.
ترجمة الفيلسوف تولستوي
ولد الفيلسوف تولستوي نابغة الروس في 28 أغسطس عام 1828 في قرية ياسنايا بوليانا من أعمال ولاية تولا في أملاك والدته.
وكان والده نقولا تولستوي أحد معاوني قواد الجنود الروسية المحالين على المعاش، وقد اشترك في وقائع حرب سنتي 1812 و1813، وهو ابن إيليا بن أندراوس بن حنا بن الكونت بطرس تولستوي من أكبر معضدي القيصر بطرس الأكبر؛ وأما والدته فكانت ابنة الأمير نقولا سرجيوس، وعلى ذلك يكون الفيلسوف عريقا في النسب من جهة أبويه.
ولقد توفيت والدته عام 1830 قبل بلوغه العامين، وعام 1837 توفي والده فجأة في مدينة «موسكو» على إثر إصابته بخسائر مالية فادحة، وعند احتضاره أقام وصية على أولاده نقولا وسرجيوس وديمتري وليون وماري إحدى قريبات عائلتهم السيدة يوشكوفا، فرحلت بهم إلى «موسكو» وعهدت أمر تربيتهم إلى أساتذة نمساويين وفرنسيين، وعام 1841 نزحت بأسرة تولستوي إلى كازان، وعام 1843 دخل صاحب الترجمة كلية كازان وانتظم في صف اللغات الشرقية؛ فأقام فيها سنتين ثم رحل عنها مع إخوته إلى قرية ياسنايا بوليانا مسقط رأسه، ولبث فيها مدة ثماني سنوات متوالية كان يشخص فيها أحيانا إلى «موسكو» وبطرسبرج.
وعام 1851 زاره شقيقه الأكبر نقولا الذي كان ضابطا في جيش القوقاز، ومكث عنده مدة إجازته العسكرية، وعند عودته إلى فرقته صحبه معه إلى تلك البلاد الفيحاء، وحبا في عدم مفارقة شقيقه انتظم وقتئذ في الجندية في نفس طابور أخيه. وابتدأ في هذه البلاد يزهر رياحين علمه، فكتب رواية المهرب «نابيغ» التي أحسن فيها وصف بلاد القوقاز ومعيشة أهلها، ثم رواية «القوزاق» ورواية الفتوة والصبوة والشبيبة، ووضع غيرها من الكتب المفيدة.
अज्ञात पृष्ठ