فحوى الفصل العاشر
تحقق اليهود أن تعليم يسوع يزعزع أركان المملكة وينقض أساس الدين، ويقلب الأمة ظهرا لبطن، ثم إنهم أبصروا من جهة أخرى أنه ليس في استطاعتهم دحض تعاليمه أو مقاومتها؛ ولذلك فقد قرروا فيما بينهم أن يقتلوه؛ ولكنهم لم يجدوا ذنبا يستحق عليه الموت، فتربصوا برهة طويلة يفتكرون في الأمر، وأخيرا: وجد رئيس الكهنة قيافا مخرجا من ذلك الانتظار، وافتكر بأمر يحكم به على يسوع بالقتل ولو كان بريئا، فقال: نحن لا يهمنا أن ننظر؛ هل هذا الرجل مجرم أم بريء؟ وإنما ينبغي علينا: أن ننظر في أمر آخر أعظم من ذلك أهمية، وهو: هل نريد أن يبقى الشعب الإسرائيلي شعبا خاصا منفردا عن بقية الشعوب؟ أم نريد أن يهلك ويتشتت في طول البلاد وعرضها، وستلعب أيدي التفريق بين هاته الأمة وتمزق شمل اجتماعها إذا لبث هذا الرجل يسوع ينشر بينها تعاليمه؛ فإذن يجب علينا أن نقتله، فلما سمع الكهنة والشيوخ كلام قيافا صادقوا عليه، ثم أصدروا قرارا عليه وحكموا بصحته، ثم أصدروا قرارا أنه ينبغي قتل يسوع، وأصدروا منشورا إلى ساكني أورشليم يطلبون منهم أن يلقوا القبض على يسوع عندما يحضر إلى مدينتهم.
ومع أن يسوع علم بذلك تمام العلم، فقد حضر على عيد الفصح إلى أورشليم، واجتهد تلاميذه لإقناعه بالعدول عن ذلك، أما هو فقال لهم: كل ما يريد أن يصنعه بي الفريسيون، وما يستطيع فعله جميع الناس بي ذلك لا يزعزع عقيدتي بالحق.
أنا أعلم: أين أنا؟ وإلى أين أمضي؟ ولا يخاف إلا ذلك الذي لا يعرف الحق وهو معذور؛ إذا ارتاب وحسب للأمور حسابا وأخذ حذره من الناس، ولا يعثر في الطريق غير الأعمى الذي لا يبصر نور الشمس.
وفيما هو ماض إلى أورشليم عرج في طريقه على قربة بيت عنيا؛ حيث قبلته امرأة اسمها مريم وسكبت على رأسه قارورة طيب كثير الثمن، وإذ علم يسوع أنه سيموت في أورشليم موتا جسديا قال لتلاميذه عندما وبخوا مريم لأنها سكبت ذلك الطيب عليه: إنها إنما فعلت ذلك لتعد جسدي للدفن.
ولما خرج يسوع من بيت عنيا ومضى إلى أورشليم، استقبله جمهور عظيم من الناس وساروا وراءه، وقد حرض هذا الأمر رؤساء الكهنة على سرعة قتله، فأخذوا ينتظرون فرصة ليقبضوا عليه، وقد علم هو أن أقل كلمة يتفوه بها ضد الناموس تكون سببا لإلقاء القبض عليه وقتله، ومع ذلك فقد دخل الهيكل، وأخذ يجاهر بأن تعاليم الكهنة والفريسيين وطقوسهم كلها كاذبة، مبنية على الخرافات والأوهام، وأخذ يعلم الشعب بتعليمه الذي كان مبنيا على أقوال الأنبياء، فلم يستطع الفريسيون إلقاء القبض عليه، ومن جهة أخرى: فإنهم رأوا أن سواد الأمة الأعظم في جانبه، وكان في أورشليم على عيد الفصح وثنيون كثيرون، فهؤلاء طلبوا أن يروا يسوع ليسمعوا تعليمه، فلما علم بذلك تلاميذه خشيوا هذا الأمر كثيرا؛ فقالوا: إذا علم الوثنيين؛ فإنه يجلب بذلك غضب الأمة فتنفر عنه، ويجد إذ ذاك الفريسيون سببا مهما لإلقاء القبض عليه، ولم يريدوا في بادئ الأمر أن يجمعوا بين يسوع والوثنيين، لكنهم قرروا فيما بينهم بعد ذلك أن يعلموه بطلب الوثنيين ففعلوا.
فلما سمع ذلك يسوع اضطرب؛ لأنه كان واثقا بأن تعليمه الوثنيين يظهر لليهود بأجلي بيان: أنه يرفض جميع أقوال وأوامر ناموسهم، ويدك أركانه، وإذا شاع هذا الأمر؛ فإن الأمة التي تحبه وتحافظ عليه تقلب له ظهر المجن وتظهر له العداء، وإذ ذاك يسهل على الفريسيين محاكمته وتسليمه للقتل، ولدى افتكاره بهذا الأمر اضطرب كثيرا، لكن من جهة أخرى: كانت واجباته تلزمه أن يرشد الناس أبناء الآب الواحد، ويعلمهم بقطع النظر عن الجنس والمذهب، وعرف من وجهة ثالثة: أن خطوته هذه تهلك حياته الجسدية، ولكنها ترشد الناس إلى معرفة كلمة الحق والإقبال إلى الخلاص، فقال: كما أن الحبة تطرح في الأرض لتموت وتعطي ثمرا، هكذا يجب على الإنسان أن يضحي حياته الجسدية لكي تعطي ثمرا روحيا، من يحافظ على حياته الجسدية ذلك يخسر الحياة الحقيقية، ومن يهلك جسده ينال الحياة الحقيقية الخالدة، وقال: إني مضطرب مما هو قادم علي، ولكني ولدت وعشت منتظرا هذه الساعة، فكيف لا أقوم بعمل ما يجب علي أن أعمله، فلتكن مشيئة الآب.
ثم التفت إلى الشعب اليهودي والوثنيين، وقال جهرا ما قاله سرا لنيقوديموس، وهو أن حياة الناس ومذاهبهم المختلفة وحكامهم المتنوعين ينبغي أن ينقلب كل ذلك انقلابا عظيما، ولا بد لكل سلطة بشرية من الانقراض، وينبغي على الناس أن يدركوا بأن الإنسان ابن أب الحياة، وهذه المعرفة تهدم جميع سلطان البشر، وتغير أفكار الناس وتجعلهم أن يتحدوا معا حتى يصبحوا كالشخص الواحد، فقال له اليهود: إنك بذلك تهدم جميع أساسات ديننا، إن ناموسنا يقول بإن المسيح سيأتي وأنت تقول خلاف ذلك، وعلى رأيك لا يوجد غير ابن البشر الذي يجب أن يكرم ويرفع، فما معنى هذا الكلام؟ فقال لهم: أما إعلاء شأن البشر فهو إدراك كلمة الله الموجودة في الناس الذين ينبغي عليهم أن يعيشوا في النور ما دام النور موجودا، وإني لا أعلم بديانة جديدة، بل أرشد كل واحد إلى ما في نفسه، كل يعرف أن فيه حياة أعطيت له، ولجميع الناس على السواء من أب الحياة وتعليمي يرمي إلى غرض واحد، وهو أنه يجب على الناس أن يحبوا الحياة التي أعطاها الآب لجميع البشر.
كثيرون صدقوا تعليم يسوع وفهموه كما ينبغي، ولكن الفريسيين لم يصدقوه ولم يقتنعوا به؛ لأنهم لم ينظروا إلى معناه نظرا روحيا، بل نظروا إلى معناه الظاهري؛ ولذلك أرادوا أن يقتلوه، لكنهم لم يستطيعوا ذلك بسبب تعلق الأمة به؛ ولذلك أرادوا أن يقبضوا عليه خارج أورشليم سرا، وجاء إليهم مرة أحد تلاميذ يسوع المسمى يهوذا الإسخريوطي، فرشوه بالمال لكي يرشد خدامهم إلى يسوع عندما يكون منفردا، فمال إليهم ووعدهم بذلك، وعاد إلى يسوع منتظرا فرصة مناسبة لتسليمه.
وفي ابتداء عيد الفصح كان يسوع يحتفل بالعيد مع تلاميذه، ولعلم يهوذا بأن يسوع غير عالم بخيانته كان بينهم، لكن يسوع علم أن يهوذا باعه، وعندما جلسوا جميعا على المائدة أخذ يسوع الخبز، وقسمه إلى اثني عشر قسما ووزعه على التلامذة ومن بينهم يهوذا، ومن دون أن يسمي أحدا، قال لهم: خذوا كلوا جسدي، ثم أخذ كأسا مملوءة خمرا ودفعها إليهم؛ لكي يشرب كل واحد منها شيئا يسيرا ، وقال: إن واحدا منكم يهرق دمي، فاشربوا دمي جميعكم، ثم نهض يسوع، وغسل أرجل جميع التلامذة، وعندما انتهى من عمله قال لهم: إن واحدا منكم سيسلمني إلى الموت ويهرق دمي، وقد أطعمته وسقيته وغسلت رجليه، لكي أعلمكم كيف ينبغي أن نتصرف مع أعدائنا الذين يصنعون بنا الشر، فإذا حذوتم حذوي تصبحون سعداء وتفوزون بالغبطة الدائمة، فسأله التلاميذ واحدا واحدا من الذي سيسلمك؟ لكنه لم يرشدهم إليه خوفا من أن ينتقموا منه، ويوقعوا به العقاب الشديد، وعندما حان الظلام أشار يسوع إلى يهوذا بالانصراف، فنهض هذا من على المائدة وفر هاربا، ثم قال يسوع: هذا هو معنى إعلاء شأن ابن البشر، أن يكون الناس صالحين كالآب العام، ولا ينبغي عليهم أن يحبوا الذين يحبونهم، بل يجب أن يحبوا أعداءهم ويصنعون الخير للذين يسيئون إليهم؛ ولذلك لا ينبغي عليكم أنتم أيضا أن تبحثوا عن مضمون تعليمي، بل انظروا إلى أعمالي التي صنعتها الآن أمامكم، واعملوا مثلها دائما أبدا، وصية واحدة أوصيكم بها، وهي حبوا الناس، وبعد ذلك أحاق بيسوع خوف شديد، فمضى مع تلاميذه إلى بستان ليختفوا فيه.
अज्ञात पृष्ठ