Inheritance of the Prophets Explained: Commentary on Abu Darda's Hadith
ورثة الأنبياء شرح حديث أبي الدرداء
अन्वेषक
أبي مصعب طلعت بن فؤاد الحلواني
प्रकाशक
الفاروق الحديثة للطباعة والنشر
संस्करण संख्या
الثانية
प्रकाशन वर्ष
١٤٢٤ هـ - ٢٠٠٣ م
शैलियों
ورثة الأنبياء
شرح حديث أبي الدرداء
1 / 5
بِسْمِ اللهِ الرّحْمنِ الرّحِيمِ
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، من يهدي الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ تسليمًا كثيرًا.
خرَّج الإمام أحمد (١) وأبو داود (٢) والترمذي (٣) وابن ماجه (٤) في كتبهم:
"أن رجُلًا قدِم مِن المدِينةِ على أبِي الدّرداءِ وهُو بِدِمشْق، فَقَالَ: ما أقْدمك يا أخِي؛
قال: حدِيثٌ بلغنِي أنّك تُحدِّثُهُ عنْ رسُولِ اللهِ ﷺ.
قال: أما جِئْت لِحاجةٍ؟
قال: لاَ.
قال: أمَا قَدِمْتَ لِتِجارةٍ؟
قال: لاَ. قَالَ: ما جِئْتُ إِلاَّ فِي طَلَبِ هَذَا الحدِيثِ؟
قال: نَعَمْ.
قال: فإِنِّي سمِعْتُ رسُول اللهِ ﷺ يقُولُ: «منْ سلك طرِيقًا يبْتغِي فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ، وإِنّ الملائِكة تضعُ أجْنِحَتَهَا رِضًى لِطالِبِ العِلْمِ، وإِنّ العالِم ليسْتغْفِرُ لهُ منْ فِي السّمواتِ ومنْ فِي الأرْضِ حتّى الحِيتانُ فِي الماءِ، وفضْلُ العَالِمِ عَلَى العَابِدِ كفضْلِ القمرِ على سائِرِ
_________
(١) (٥/ ١٩٦).
(٢) برقم (٣٦٤١).
(٣) برقم (٢٦٨٢).
(٤) برقم (٢٢٣).
1 / 7
الكواكِبِ، وإِنّ العُلماء ورثةُ الأنْبِياءِ، وإِنّ الأنْبِياء لمْ يُورِّثُوا دِينارًا ولا دِرْهمًا إِنّما ورّثُوا العِلْم؛ فمنْ أخذ بِهِ أخذ بِحظٍّ وافِرٍ».
وكان السلف الصالح ﵃ لقوة رغبتهم في العلم والدين والخير يرتحل أحدهم إلى بلد بعيد لطلب حديث واحد يبلغه عن النبي ﷺ.
وقد رحل أبو أيوب الأنصاري من المدينة إلى مصر للقاء رجل من الصحابة بلغه عنه حديث يحدثه عن النبي ﷺ.
وكذلك فعل جابر بن عبد الله الأنصاري مع كثرة ما سمع من النبي ﷺ من الحديث وروى.
وكان أحدهم يرحل إلى من هو دونه في الفضل والعلم لطلب شيء من العلم لا يجده عنده.
ويكفي في هذا المعنى ما قص الله علينا من قصه موسى وارتحاله مع فتاه، فلو استغنى أحد عن الرحلة في طلب العلم لاستغنى عنها موسى ﵇، حيث كان الله قد كمله وأعطاه التوراة التي كتب له فيها من كل شيء، ومع
هذا فلما أخبره الله ﷿ عن الخضر؛ أن عنده علمًا يختص به سأل السبيل إلى لقائه، ثم سار هو وفتاه إليه كما قال تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا﴾ (١).
يعني: سنين عديدة، ثم أخبر أنّه لما لقيه قال له: ﴿هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا﴾ (٢).
_________
(١) الكهف: ٦٠.
(٢) الكهف: ٦٦.
1 / 8
وكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه. ومن حديث أبي بن كعب، عن النبي ﷺ قي قصة موسى والخضر مخرج في "الصحيحين" (١) وهو مشهور.
وكان ابن مسعود يقول:
"واللهِ الّذِي لا إِله إِلاّ هُو ما أُنْزِلتْ سُورةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ إِلّا وأنا أعْلمُ أيْن نزلتْ، ولا نزلتْ آيةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ إِلّا وأنا أعْلمُ (فِيم أُنْزِلتْ) (*)، ولوْ أعْلمُ أحدًا أعْلم مِنِّي بِكِتابِ اللهِ تبْلُغُهُ الإِبِلُ لركِبْتُ إِليْهِ " (٢).
وقال أبو الدرداء:
"لوْ أعْيتْنِي آيةٌ مِنْ كِتابِ اللهِ فلمْ أجِذ أحدًا يفْتحُها عليّ إِلاّ رجُلٌ بِبرْكِ الْغِمادِ لرحلْتُ إِليْهِ " (٣).
وبرك الغماد أقصى اليمن.
وخرج مسروق من الكوفة إلى البصرة لرجل يسأله عن آية من كتاب الله فلم يجد عنده فيها علمًا، فاُخْبِر عن رجل من أهل الشام فرجع إلى الكوفة ثم خرج إلى الشام إلى ذلك الرجل في طلبها.
ورحل رجل من الكوفة إلى الشام إلى أبي الدرداء يستفتيه في يمين حلفها.
ورحل سعيد بن جبير من الكوفة إلى ابن عباس بمكة يسأله عن تفسير آية.
ورحل الحسن إلى الكوفة إلى كعب بن عجرة يسأله عن قصته في فدية الأذى.
واستقصاء هذا الباب يطول.
_________
(١) أخرجه البخاري (٧٤)، مسلم (٢٣٨٠).
(*) في نسخة: "أين أنزلت"، وفي نسخة أخرى: " فيمن أنزلت".
(٢) أخرجه البخاري (٥٠٠٢)، ومسلم (٢٤٦٣).
(٣) ذكره الذهبي في "السير" (٢/ ٣٢٢).
1 / 9
وحلف رجل يمينًا فأشكلت على الفقهاء، فدل على بلد فاستبعده فقيل له: إن ذلك البلد قريب على من أهمه دينه.
وفي هذا إشارة إلى أن من أهمه أمر دينه كما أهمه أمر دنياه إذا حدثت له حادثة في دينه لا يجد من يسأله عنها إلا في بلد بعيد؛ فإنه لا يتأخر عن السفر إليه ليستبرئ لدينه، كما أنّه لو عرض له هناك كسب دنيوي لبادر السفر إليه.
وفي هذا الحديث أن أبا الدرداء بشر من أخبره أنّه رحل/ إليه لطلب الحديث بما سمعه من النبي ﷺ في فضل العلم وطلبه وهذا مأخوذ من قوله تعالى:
﴿وإِذا جاءك الّذِين يُؤْمِنُون بِآياتِنا فقُلْ سلامٌ عليْكُمْ كتب ربُّكُمْ على نفْسِهِ الرّحْمة﴾ (١).
وقد ازدحم الناس مرة على باب الحسن البصري لطب العلم، فأسمعهم ابنه كلامًا، فقال الحسن: "مهلًا يا بني"، ثم تلا هذه الآية.
وفي كتاب الترمذي (٢) وابن ماجه (٣) عن أبي سعيد:
"أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ وَصَّاهُمْ بِطَلَبَةِ الْعِلْمِ وَالمُتَفَقِّهِينَ فِي الدِّينِ".
وجاء زر بن حبيش إلى صفوان بن عسال في طلب العلم قال له:
بلغني "أَنَّ الْمَلائِكَةَ تَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ " (٤).
وفي رواية أنه روى له ذلك عن النبي ﷺ.
_________
(١) الأنعام: ٥٤.
(٢) برقم (٢٦٥٠، ٢٦٥١).
(٣) برقم (٢٤٧، ٢٤٩).
(٤) أخرجه الترمذي (٣٥٣٥ - ٣٥٣٦) وقال: هذا حدث حسن صحيح.
1 / 10
وازدحم الناس مرة على باب ابن المبارك فقال: حُقٌّ لهُمْ مِنْ وِلايةٍ سُرُورُ الأبدِ. يغبطهم بازدحامهم على طلب العلم؛ لأنّه يؤدي إلى الخلود في النعيم المقيم.
ولهذا تأسف معاذ بن جبل عند موته وبكى على مفارقة مجالس الذكر فقال: "إِنّما أبكي على ظمأِ الْهواجِرِ، وقِيامِ ليْلِ الشِّتاءِ، ومُزاحمةِ العُلماءِ بِالرُّكبِ عِنْد حِلقِ الذِّكْرِ" (١).
وينبغي للعالم أن يرحب بطلبة العلم ويوصيهم بالعمل.
كما قال الحسن لأصحابه -وقد دخلوا عليه-: "مرحبًا بِكُمْ وأهْلًا، حَيّاكُمُ اللهُ بِالسّلامِ، وأذخلنا وإيّاكُمْ دار السّلامِ، هذِهِ علانِيةٌ حسنةٌ إِنْ صبرْتُمْ وصدقْتُمْ وأيْقنْتُمْ، لا يكُوننّ حظّكُمْ مِنْ هذا الخْيرِ -رحِمكُمُ اللهُ- أنْ تسْمَعُوهُ بِهذِهِ الْأُذُنِ فيخْرُجُ مِنْ هذِهِ الْأُذُنِ؛ فإِنّهُ منْ رَأَى مُحمّدًا ﷺ فقذ رآهُ غادِيًا ورائِحًا لمْ يضعْ إِلى اللهِ لبِنةً على لبِنةٍ ولا قَصَبَةً عَلَى قَصَبةٍ، وَلَكِنْ رُفِع لهُ علمٌ فشمَّر إِليْهِ. الْوحَا الْوحَا (٢)، النّجَا النّجَا عَلاَمَ تُعرِّجُون؛ أتيْتُمْ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ كأنّكُمْ والْأمْرُ معًا ".
...
_________
(١) أخرجه أحمد في "الزهد" (٢٢٦)، وأبو نعيم في "الحلية" (٢٣٩).
(٢) الوَحَا الوَحَا: أي السرعة السرعة. "اللسان" مادة: (وحي).
1 / 11
ولنشرع الآن في شرح حديث أبي الدرداء ﵁ الذي رواه عن النبي.
فقوله ﷺ:
"منْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَلَكَ اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الْجنّةِ" وفي رواية أخرى: "سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ".
وفي "صحيح مسلم " (١) عن أبي هريرة، عن النبي ﷺ قال: "منْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الْجنّةِ".
سلوك الطريق لالتماس العلم: يحتمل أن يراد به السلوك الحقيقي وهو المشي بالأقدام إلى مجالس العلم.
ويحتمل أن يشمل ما هو أعم من ذلك من سلوك الطريق المعنوية المؤدية إلى حصول العلم، مثل حفظه ودراسته، ومطالعته ومذاكرته والتفهم له والتفكر فيه، ونحو ذلك من الطرق التي يتوصل بها إلى العلم.
وأما قوله: "سهّل اللهُ لهُ بِهِ طرِيقًا إِلى الجنّةِ".
فإنه يحتمل أمورًا:
منها: أن يسهل الله لطالبِ العلمِ العلمَ الذي طلبه وسلك طريقه وييسره عليه؛ فإن العلم طريق موصل إلى الجنة.
وهذا كقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ﴾ (٢).
قال طائفة من السلف في هذه الآية: هَلْ مِنْ طَالِبِ عِلْمٍ فَيُعَانُ عَلَيهِ.
_________
(١) رقم (٢٦٩٩).
(٢) القمر: ٢٢.
1 / 12
ومنها: أن ييسر الله لطالب العلم العمل بمقتضى ذلك العلم إذا قصد بتعلمه وجه الله، فيجعله الله سببًا لهدايته والانتفاع به والعمل به، وذلك من طرق الجنة الموصلة إليها.
ومنها: أن الله -تعالى- ييسر لطالب العلم الذي يطلبه للعمل به علومًا أخر ينتفع بها؛ فيكون طريقًا موصلًا إلى الجنة، وهذا كما قيل: مَنْ عَمِل بِمَا عَلِمَ أوْرَثَهُ اللهُ عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ.
وكما يقال:
"ثوابُ الْحَسَنَةِ الْحَسَنَةُ بَعْدَهَا".
وإلى هذا إشارة بقوله تعالى: ﴿وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى﴾ (١).
وقوله: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ (٢).
فمن التمس العلم ليهتدي به زاده الله هدى وعلومًا نافعة، توجب له أعمالًا صالحة، وكل هذه طرق موصلة إلى الجنة.
ومنها: أن الله تعالى قد ييسر لطالب العلم الانتفاع به في الآخرة، وسلوك الطريق الحسنى المفضي إلى الجنة وهو الصراط وما بعده، وما قبله من الأهوال العظيمة والعقبات الشديدة الشاقة.
وسبب تيسير طريق الجنة على طالب العلم؛ إذا أراد به وجه الله ﷿ وطلب مرضاته: أن العلم يدل على الله من أقرب الطرق وأسهلها؛ فمن سلك طريقه ولم يعوج عنه وصل إلى الله وإلى الجنة من أقرب الطرق وأسهلها، فتسهلت عليه الطرق الموصلة إلى الجنة كلها في الدنيا وفي الآخرة.
ومن سلك طريقًا يظنه طريق الجنة بغير علم، فقد سلك أعسر الطرق وأشقها، ولا يوصل إلى المقصود مع عسرة شديدة.
_________
(١) مريم: ٧٦.
(٢) محمد: ١٧.
1 / 13
فلا طريق إلى معرفة الله وإلى الوصول إلى رضوانه والفوز بتهربه ومجاورته في الآخرة إلا بالعلم النافع، الذي بعث الله به رسله، وأنزل به كتبه، فهو الدليل عليه، وبه يُهْتدى في ظلمات الجهل والشبه والشكوك، وقد سمى الله كتابه نورًا يهتدى به في الظلمات.
كما قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ (١).
وقد ضرب النبي ﷺ مثل من حمل العلم الذي جاء به بالنجوم التي يهتدى بها في الظلمات.
كما في "المسند" (٢) عن أنس ﵁ عن النبي ﷺ: "إِنَّ مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الْأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا طُمِسَتِ النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ".
وهذا مثل في غاية المطابقة؛ لأنّ طريق التوحيد والعلم بالله تعالى وأحكامه، وثوابه وعقابه لا يدرك بالحس، إنما يعرف بالدليل، وقد بين ذلك كله في كتابه وعلى لسان رسوله.
فالعلماء بما أنزل الله على رسوله هم الأدلاء الذين يهتدى بهم في ظلمات الجهل والشبه والضلال، فإذا فقدوا ضل السالك.
وقد شبه العلماء بالنجوم، والنجوم في السماء، فيها ثلاث فوائد:
يهتدى بها في الظلمات، وهي زينة للسماء، ورجوم للشياطين الذين يسترقون السمع منها.
_________
(١) المائدة: ١٥ - ١٦.
(٢) (٣/ ١٥٧).
1 / 14
والعلماء في الأرض تجتمع فيهم هذه الأوصاف الثلاثة:
بهم يهتدى في الظلمات، وهم زينة للأرض، وهم رجوم للشياطين الذين يخلطون الحق بالباطل، ويدخلون في الدين ما ليحمنه من أهل الأهواء، وما دام العلم باقيًا في الأرض فالناس في هدى.
وبقاء العلم بقاء حملته؛ فإذا ذهب حملته ومن يقوم به وقع الناس في الضلال، كما في الحديث الصحيح (١) عن النبي ﷺ:
«إِنّ الله لا يقْبِضُ العِلْم انْتِزاعًا ينْتزِعُهُ مِنْ صُدُورِ الرِّجالِ، ولكِنْ يُذْهِبُ العِلْم بِذِهابِ العُلماءِ، فإِذا لمْ يبْق عالِمٌ اتّخذ النّاسُ رُءُوسًا جُهّالًا فسُئِلُوا فأفْتوْا بِغيْرِ عِلْم، ٍ فضلُّوا وأضلُّوا».
وخرج الترمذي (٢) من حديث جبير بن نفير، عن أبي الدرداء قال:
«كُنّا مَعَ النّبِيّ ﷺ فقال: هَذَا أوانُ يُخْتلسُ العِلْمُ مِن النّاسِ حتّى لا يقْدِرُوا مِنْهُ على شيْءٍ»، فقال زِيادُ بْنُ لبِيدٍ: كيْف يُخْتلسُ مِنّا العِلْمُ، وقد قرأْنا القُرْآن؟! فواللهِ لنقْرأنّهُ ولنُقْرِئنّهُ نِساءنا وأبْناءنا، فَقَالَ: «ثَكِلتْك أُمُّك يا زِيادُ، إِنْ كُنْتُ لأعُدُّك مِنْ فُقهاءِ المدِينةِ، هذِهِ التّوْراةُ والإِنْجِيلُ عِنْد اليهُودِ والنّصارى، فَمَاذَا تُغْنِي عنْهُمْ؟!» قال جُبيْرٌ بْنُ نفير: فلقِيتُ عُبادة بْن الصّامِتِ فقُلْتُ: ألا تسْمعُ ما يقُولُ أبُو الدّرْداءِ؟ فأخْبرْتُهُ بِالّذِي قال، قال: «صدق أبُو الدّرْداءِ، لَوْ شِئْتُ لأُخْبَرْتُكَ بِأَوّلِ عِلْمٍ يُرْفعُ مِن النّاسِ: الخُشُوعُ، يُوشِكُ أنْ تذخُل مسْجِد الجامِعِ فلا ترى فِيهِ خاشِعًا».
وخرجه النسائي (٣) من حديث جبير بن نفير، عن عوف بن مالك، عن النبي ﷺ، وفي حديثه: "فذكر ﷺ ضلالة الْيهُودِ والنّصَارَى عَلَى مَا فِي أيْدِيهِمْ مِنْ كِتابِ اللهِ. قال جُبيْر: فَلَقِيتُ شَدَّادَ بْن أوْسٍ فحدّثْتُهُ بِحدِيثِ
_________
(١) أخرجه البخاري (١٠٠)، ومسلم (٢٦٧٣) من حديث عبد الله بن عمرو.
(٢) برقم (٢٦٥٣).
(٣) في "السنن الكبرى" (٥٩٠٩/ ٣).
1 / 15
عوْفِ، فقال: صدق، ألا أُخْبِرُك بِأوّلِ ذلِك؛ يُرْفعُ الْخُشُوعُ حتّى لا ترى خاشِعًا».
وخرج الإمام أحمد (١) من حديث زياد بن لبيد، عن النبي ﷺ أنّه ذكر شيئًا فقال:
"ذاك عِنْد أوانِ ذِهابِ الْعِلْمِ ". فذكر الحديث، وقال فيه: "أو ليْس الْيهُودُ والنّصارى يقْرءُون التّوْراة والْإِنْجِيل لا يعْملُون بِشيْءٍ مِمّا فِيها؛! ".
ولم يذكر ما بعدها.
ففي هذه الأحاديث أن ذهاب العلم بذهاب العمل، وأن الصحابة فسروا ذلك بذهاب العلم الباطن من القلوب وهو الخشوع.
وكذا روي عن حذيفة: "إنّ أوّل ما يُرْفعُ مِن العِلْمِ الخُشُوعُ" (٢).
فإن العلم علمان كما قال الحسن: "عِلْمُ اللِّسانِ، فذاك حُجّةُ اللهِ على ابْنِ آدمِ، وعِلْمٌ فِى الْقلْبِ فذاك الْعِلْمُ النافِعُ ".
وروي عن الحسن مرسلًا (٣) عن النبي ﷺ.
وفي " صحيح مسلم " (٤) عن ابن مسعود/ قال:
"إِنّ أقْوامًا يقْرءُون الْقُرْآن لا يُجاوِزُ تراقِيهُمْ، ولكِنْ إِذا وقع فِي الْقلْبِ فرسخ فِيهِ نفع".
فالعلم النافع هو ما باشر القلب فأوقر فيه معرفة الله تعالى وعظمته، وخشيته وإجلاله، وتعظيمه ومحبته، ومتى سكنت هذه الأشياء في القلب خشع فخشعت الجوارح كلها تبعًا لخشوعه.
_________
(١) (٤/ ١٦٠، ٢١٨، ٢١٩).
(٢) أخرجه أحمد في " الزهد") ص ٢٢٤)، وأبو نعيم في "الحلية" (١/ ٢٨١) بلفظ: "أول ما تفقدون من دينكم الخشوع".
(٣) أخرجه أبي شيبة في "المصنف" (١٣/ ٢٣٥) وغيره.
(٤) برقم (٨٢٢).
1 / 16
وفي " صحيح مسلم " (١) عن النبي ﷺ -أنّه كان يقول: "إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لَا يَخْشَعُ".
وهذا يدل على أن العلم الذي لا يوجب الخشوع للقلب فهو علم غير نافع.
وروي عنه ﷺ: "أنّهُ كَانَ يَسْأَلُ اللهَ عِلْمًا نَافِعًا" (٢).
وفي حديث آخر قال: «سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ» (٣).
وأما العلم الذي على اللسان فهو حجة الله على ابن آدم.
كما قال النبي ﷺ: "والقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيكَ" (٤).
فإذا ذهب من الناس العلم الباطن بقي الظاهر على الألسنة حجة، ثم يذهب هذا العلم الذي هو حجة بذهاب حملته، ولا يبقى من الدين إلا اسمه فيبقى القرآن في المصاحف ثم يسري به في آخر الزمان فلا يبقى منه في المصاحف ولا في القلوب شيء.
ومن هنا قَسَّمَ من قَسَّمَ من العُلَمَاءِ العلم إِلى باطن وظاهر، فالباطن: ما باشر القلوب فأثمر لها الخشية والخشوع، والتعظيم والإجلال، والمحبة والأنس والشوق.
والظاهر: ما كان على اللسان، فبه تقوم حجة الله على عباده.
وكتب وهب بن منبه إلى مكحول: "إِنَّكَ امْرُؤٌ قَدْ أَصَبْتَ بِمَا ظَهَرَ لَكَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ شَرَفًا فَاطْلُبْ بِمَا بَطَنَ مِنْ عِلْمِ الْإِسْلَامِ مَحَبَّةً وَزُلْفَى".
_________
(١) برقم (٢٧٢٢) من حديث ابن مسعود.
(٢) أخرجه أحمد (٦/ ٢٩٤، ٣٠٥، ٣١٨، ٣٢٢)، والنسائي في "الكبرى" (٩٩٣٠/ ٢)، وابن ماجه (٩٢٥) من حديث أم سلمة.
(٣) أخرجه النسائي في "الكبرى" (٧٨٦٧/ ١ - ٢)، وابن ماجه (٣٨٤٣).
(٤) أخرجه مسلم (٢٢٣).
1 / 17
وفي رواية أخرى أنّه كتب إليه: "إِنّك قذ بلغْت بِظَاهِرِ عِلْمِكَ عِنْدَ النّاسِ منْزِلةً وشَرَفًا، فَاطْلُبْ بِباطِنِ عِلْمِك عِنْد اللهِ مَنْزِلةً وزُلْفَى، واعْلمْ أن إِحْدى الْمنْزِلتيْنِ تَمْنعُ الْأُخْرى".
فأشار وهب بعلم الظاهر إلى علم الفتاوى والأحكام، والحلال والحرام، والقصص والوعظ وهو ما يظهر على اللسان.
وهذا العلم يوجب لصاحبه محبة الناس له، وتقدمه عندهم، فحذره من الوقوف عند ذلك، والركون إليه والالتفات إلى تعظيم الناس ومحبتهم؛ فإن من وقف مع ذلك فقد انقطع عن الله وانحجب بنظره إلى الخلق عن الحق.
وأشار بعلم الباطن إلى العلم الذي يباشر القلوب، فيحدث لها الخشية والإجلال والتعظيم، وأمره أن يطلب بهذا المحبة من الله والقرب منه والزلفى لديه.
وكان كثير من السلف كسفيان الثوري وغيره يقسمون العلماء ثلائة أقسام:
عَالِمٌ بِاللهِ وَعَالِم بِأمْرِ اللهِ.
ويشيرون بذلك إلى من جمع بين هذين العلمين المشار إليهما الظاهر والباطن، وهؤلاء أشرف العلماء، وهم الممدوحون في قوله تعالى: ﴿إِنّما يخْشى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلماءُ﴾ (١).
وقوله: ﴿إِنّ الّذِين أُوتُوا الْعِلْم مِنْ قبْلِهِ إِذا يُتْلى عليْهِمْ يخِرُّون لِلْأذْقانِ سُجّدًا﴾ إلى قوله: ﴿ويزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ (٢).
وقال كثير من السلف: لَيْسَ الْعِلْمُ كَثْرَةَ الرِّوايةِ ولَكِنّ الْعِلْمَ الْخَشْيةُ.
وقال بعضهم: كفى بِخشْيةِ اللهِ عِلْمًا، وكفى بِالاغْتِرارِ بِاللهِ جهْلًا.
ويقولون أيضًا: عَالِمٌ بِاللهِ لَيْسَ بِعالمٍ بِأمْرِ اللهِ.
_________
(١) فاطر: ٢٨.
(٢) الإسراء: ١٠٧ - ١٠٩.
1 / 18
وهم أصحاب العلم الباطن الذي يخشون الله، وليس لهم اتساع في العلم الظاهر.
ويقولون: عَالِمٌ بِأَمْرِ اللهِ لَيْسَ بِعَالِمٍ بِاللهِ.
وهم أصحاب العلم الظاهر الذين لا نفاذ لهم في العالم الباطن، وليس لهم خشية ولا خشوع، وهؤلاء مذمومون عند السلف.
وكان بعضهم يقول: هَذَا هُوَ العَالِمُ الفَاجِرُ.
وهؤلاء الذين وقفوا مع ظاهر العلم ولم يصل العلم النافع إلى قلوبهم ولا شموا له رائحة، غلبت عليهم الغفلة والقسوة، والإعراض عن الآخرة والتنافس في الدنيا، ومحبة العلو فيها والتقدم بين أهلها.
وقد منعوا إحسان الظن بمن وصل العلم النافع إلى قلبه، فلا يحبونهم ولا يجالسونهم، وربما ذموهم وقالوا: ليسوا بعلماء، وهذا من خداع الشيطان وغروره، ليحرمهم/ الوصول إلى العلم النافع الذي مدحه الله ورسوله، وسلف الأمة وأئمتها.
ولهذا كان علماء الدنيا يبغضون علماء الآخرة، ويسعون في أذاهم جهدهم، كما سعوا في أذى سعيد بن المسيب والحسن وسفيان ومالك وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين، وذلك لأن علماء الآخرة خلفاء الرسل، وعلماء السوء فيهم شبه من اليهود، وهم أعداء الرسل وقتلة الأنبياء ومن يأمر بالقسط من الناس، وهم أشد الناس عداوة وحسدًا للمؤمنين، ولشدة محبتهم للدنيا لا يعظمون علمًا ولا دينًا، وإنما يعظمون المال والجاه والتقدم عند الملوك.
كما قال بعض الوزراء للحجاج بن أرطاة: "إنَّ لَكَ دِينًا وإِنَّ لَكَ فِقْهًا".
فقال الحجاج: "أَفَلاَ تَقُولُ إِنَّ لَكَ شَرَفًا وإِنَّ لَكَ قَدْرًا".
1 / 19
فقال الوزير: "وَاللهِ إِنَّكَ لَتُصَغِّرُ مَا عَظَّمَ اللهُ وَتُعَظِّمُ مَا صَغَّرَ اللهُ" (٥).
وكثير ممن يدعى الباطن ويتكلم فيه ويقتصر عليه يذم العلم الظاهر، الذي هو الشرائع والأحكام، والحلال والحرام ويطعن في أهله ويقولون: هم محجوبون وأصحاب قشور، وهذا يوجب القدح في الشريعة، والأعمال الصالحة التي جاءت الرسل بالحث عليها والاعتناء بها.
وربما انحل بعضهم عن التكاليف، وادعى أنها للعامة، وأما من وصل فلا حاجة له إليها، وأنها حجاب له، وهؤلاء كما قال الجنيد وغيره من العارفين وصلوا ولكن إلى سَقَرَ.
وهذا من أعظم خداع الشيطان وغروره لهؤلاء، لم يزل يتلاعب بهم حتى أخرجهم عن الإسلام.
ومنهم من يظن أن هذا العلم الباطن لا يُتَلَقَى من مشكاة النبوة، ولا من الكتاب والسنة، وإنما يتلقى من الخواطر والإلهامات والكشوفات، فأساءوا الظن بالشريعة الكاملة، حيث ظنوا أنها لم تأت بهذا العلم النافع الذي يوجب صلاح القلوب وقربها من علام الغيوب، وأوجب لهم الإعراض عما جاء به الرسول ﷺ في هذا الباب بالكلية، والتكلم فيه بمجرد الآراء والخواطر، فضلوا وأضلوا.
فظهر بهذا أن أكمل العلماء وأفضلهم: العلماء بالله وبأمره الذين جمعوا بين العلمين وتلقوهما معًا من الوحيين -أعني: الكتاب والسنة- وعرضوا كلام الناس في العلمين معًا على ما جاء في الكتاب والسنة، فما وافق قبلوه، وما خالف ردوه.
وهؤلاء خلاصة الخلق، وهم أفضل الناس بعد الرسل، وهم خلفاء الرسل حقًّا، وهؤلاء كثير في الصحابة، كالخلفاء الأربعة، ومعاذ، وأبي الدرداء، وسلمان، وابن مسعود وابن عمر، وابن عباس وغيرهم.
1 / 20
وكذلك فيمن بعدهم كالحسن، وسعيد بن المسيب، وعطاء، وطاوس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، والنخعي، ويحيى بن أبي كثير.
وفيمن بعدهم كالثوري، والأوزاعي، وأحمد، وغيرهم من العلماء الربانيين.
وقد سماهم علي بن أبي طالب ﵁: العلماء الربانيين، يشير إلى أنّهم الربانيون الممدوحون في غير موضع من كتاب الله ﷿.
فقال: "النّاسُ ثلاثةٌ: عالِمٌ ربّانِيٌّ، ومُتعلِّمٌ على سبِيلِ نجاةٍ، وَهَمَجٌ رِعاعٌ ... ".
ثم ذكر كلامًا طويلًا وصف فيه علماء السوء والعلماء الربانيين، وقد شرحناه في غير هذا الموضع.
والمقصود ها هنا أن التماس العلم سبب موصل إلى الجنة.
وفي الحديث المعروف عن النبي ﷺ: «إِذا مررْتُمْ بِرِياضِ الجنّةِ فارْتعُوا»،
قالُوا: وما رِياضُ الجنّةِ؟!
قال: «حِلَقُ الذِّكْرِ» (١).
وكان ابن مسعود إذا ذكر هذا الكلام يقول: "أَمَا إنِّي لاَ أعْنِي القُصَّاصَ ولكِنْ حِلَقَ الفِقْهِ".
وروي عن أنس معناه أيضًا.
وقال عطاء الخراساني: "مجَالِسُ الذِّكْرِ مجَالِسُ الحَلالِ والحَرَامِ، كَيفَ تَشْترِي وَتَبِيعُ، وتُصَلِّي وتَصُومُ، وتنْكِحُ وتُطلِّقُ، وتَحُجُّ وأشْباهُ هذا".
_________
(١) أخرجه أحمد (٣/ ١٥٠)، والترمذي (٣٥١٠) من حديث أنس. قال الترمذي: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه من حديث ثابت عن أنس.
وأخرجه الترمذي (٣٥٠٩) من حديث أبي هريرة مرفوعًا بلفظ: "إِذَا مَرَرْتُمْ بِرِيَاضِ الجَنَّةِ فَارْتَعُوا. قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا رِيَاضُ الجَنَّةِ؟ قَالَ: الْمَسَاجِدُ، قُلْتُ: وَمَا الرَّتْعُ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ، وَلاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ" وقال: هذا حديث حسن غريب.
1 / 21
وقال يحيى بن أبي كثير: دَرْسُ الفِقْهِ صَلاةٌ.
وكان أبو السوار العدوي في حلقة يتذاكرون العلم ومعهم فتى شاب فَقَالَ لَهُمْ: قُولُوا: سُبْحَانَ اللهِ وَالحَمْدُ لِلَّهِ، فَغَضِبَ أَبُو السُّوارِ، وَقَالَ: وَيْحَكَ، في أَيّ شَيء كُنَّا إِذًا؟!
والمراد بهذا أن مجالس الذكر لا تختص بالمجالس التي يذكر فيها اسم الله بالتسبيح والتكبير والتحميد ونحوه؛ بل تشمل ما ذكر فيه أمر الله ونهيه وحلاله وحرامه وما يحبه ويرضاه، فإنه ربما كان هذا الذكر أنفع من ذلك؛ لأنّ معرفة الحلال والحرام واجبة في الجملة على كل مسلم، بحسب ما يتعلق به في ذلك، وأما ذكر الله باللسان، فإن أكثره يكون تطوعًا، وقد يكون واجبًا كالذكر في الصلوات المكتوبة.
وأما معرفة ما أمر الله به ونهى عنه، وما يحبه ورضاه، وما يكرهه وينهى عنه فيجب على كل من احتاج إلى شيء من ذلك أن يتعلمه.
ولهذا روى: "طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ" (١).
فإنه يجب على كل مسلم معرفة ما يحتاج إليه في دينه، كالطهارة والصلاة والصيام.
ويجب على من له مال معرفة ما يجب عليه في ماله من زكاة ونفقة، وحج وجهاد.
وكذلك يجب على كل من يبيع ويشتري أن يتعلم ما يحل ويحرم من البيوع.
كما قال عمر ﵁: "لَا يَبِيعُ فِي سُوقِنَا إِلا مَنْ قَدْ تَفَقَّهَ فِي الدِّينِ" خرجه الترمذي (٢).
_________
(١) أخرجه ابن ماجه (٢٢٤) من حديث أنس.
(٢) برقم (٤٨٧).
1 / 22
ويروى بإسناد فيه ضعف عن علي ﵁ قال: "الفِقْهُ قَبْلَ التِّجَارَةِ، إِنَّهُ مَنْ اتَّجَرَ قَبْلَ أَنْ يَتَفَقَّهَ ارْتَطَمَ فِي الرِّبَا ثُمَّ ارْتَطَمَ".
وسُئل ابن المبارك: ما الذي يجب على الناس من تعلم العلم؟ قال: أن لا يقدم الرجل على شيء إلا بعلم يسأل ويتعلم، فهذا الذي يجب على الناس من تعلم العلم، ثم فسره وقال:
"لَوْ أَنَّ رَجُلًا لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ لَمْ يَكُنْ عَلَيهِ وَاجِبٌ أَنْ يَتَعَلَّمَ الزَّكَاةَ، فَإِذَا كَانَ لَهُ مَائَتَا دِرْهَمٍ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَتَعَلَّمَ كَمْ يُخْرِجُ وَمَتَى يُخْرِجُ وَأَيْنَ يَضَعَ وَسَائِرُ الأَشْيَاءِ عَلَى هَذَا".
وسئل الإمام أحمد ﵀ عن الرجل مَا يَجِبُ عَلَيهِ مِنْ طَلَبِ العِلْمِ؟ فقال: مَا يُقِيمُ بِهِ الصَّلواتِ وَأَمَرَ دِينِه مِنَ الصَّوْمِ وَالزَّكَاةِ، وَذَكَرَ شَرَائِعَ الإِسْلاَمِ. وقال: يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَتَعَلَّمَ ذَلِكَ.
وقال أيضًا: "الَّذِي يَجِبُ عَلَى الإِنسَانِ مِنَ العِلْمِ مَا لاَ بُدَّ لَهُ مِنْهُ فِي صَلاَتِهِ وَإِقَامَةِ دِيْنِهِ".
واعلم أن علم الحلال والحرام علم شريف، ومنه ما تَعَلَّمُهُ فرض عين، ومنه ما هو فرض كفاية.
وقد نص العلماء على أن تَعَلَّمُهُ أفضل من نوافل العبادات، منهم أحمد وإسحاق. وكان أئمة السلف يتوقون الكلام فيه تورعًا؛ لأنّ المتكلم فيه مخبر عن الله بأمره ونهيه، مبلغ عنه شرعه ودينه.
وكان ابن سيرين إَذَا سُئِلَ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الحَلاَلِ وَالحَرَامِ تَغَيَّر لَوْنُهُ وَتَبَدَّلَ، حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ بالَّذِي كَانَ.
وقال عطاء بن السائب: أَدْرَكْتُ أَقْوَامًا إِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُسْأَلُ عَن الشَّيءِ فَيَتَكَّلَّمُ وَإِنَّه لَيُرْعَدُ".
وروي عن مالك أنّه كان إذا سئل عن مسألة، كأنّه بين الجنة والنار.
1 / 23
وكان الإمام أحمد شديد التورع في إطلاق لفظ الحرام والحلال أو دعوى النسخ، ونحو ذلك مما يجسر عليه غيره كثيرًا، وأكثر أجوبته: أرجو وأخشى، أو أحب إلي، ونحو ذلك.
وكان هو ومالك وغيرهما يقولون كثيرًا: لا ندري.
وكان أحمد يقول ذلك في مسألة يذكر للسلف فيها أقوالًا عديدة، ويريد بقوله لا أدري أي الراجح المفتى به من ذلك.
ومن مجالس الذكر أيضًا: مجالس العلم التي يذكر فيها تفسير كتاب الله أو يروى فيها سنة رسول الله ﷺ.
فإن كانت رواية الحديث مع تفسير معانيه، فذلك أكمل وأفضل من مجرد رواية ألفاظه ويدخل في الفقه في الدين كل علم مستنبط من كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ سواء كان من علوم الإسلام التي هي الأعمال الظاهرة والأقوال، أو من علوم الإيمان التي هي الاعتقادات الباطنة، وأدلة ذلك وبراهينه المقررة في الكتاب والسنة، أو من علوم الإحسان التي هى علوم المراقبة والمشاهدة بالقلب، ويدخل في ذلك علم الخشية والمحبة والرجاء والإنابة، والصبر والرضا، وغير ذلك من المقامات.
وكل ذلك قد سماه النبي ﷺ في حديث سؤال جبرئيل له عنه: دينًا.
فالفقه فيه من الفقه في الدين، ومجالسه من أفضل مجالس الذكر التي هي من رياض الجنة، وهي أفضل من مجالس ذكر اسم الله بالتسبيح والتحميد والتكبير؛ لأنها دائرة بين فرض عين أو فرض كفاية، والذكر المجرد تطوع محض.
وقد دخل بعض السلف مسجد البصرة فرأى فيه حلقتين في إحداهما قاص وفي الأخرى فقيه يعلم الفقه، فصلى ركعتين واستخار الله في الجلوس إلى إحداهما، فنعس فرأى في نومه قائلًا يقول له: أو قد سويت بينهما؟! إن شئت أريناك مقعد جبرئيل ﵇ من فلان- يعني: الفقيه الذي يعلم العلم.
1 / 24
وسنذكر فيما بعد النصوص الدالة على فضل العلم على أنواع العبادات من الذكر وغيره -إن شاء الله تعالى.
وكان زيد بن أسلم من جلة علماء المدينة، وكان له مجلس في المسجد يذكر فيه التفسير والحديث والفقه وغير ذلك، فجاء إليه رجل فقال له: إني رأيت بعض أهل السماء وهو يقول لأهل هذا المجلس: "هَؤلاَءِ فِي رَوْضَاتِ الجَنَّاتِ آمِنُونَ ثُمَّ أَرَاهُ أَنْزَلَ عَلَى أَهْلِ المَجْلِسِ حُوتًا طَرِيًّا وَوَضَعَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ، وَجَاءَ إِلَيْهِ رَجُلٌ فَقَالَ لَهُ: إِنِّي رَأَيْتُ النَّبِي ﷺ وأبا بكر وعمر- ﵄ خرجوا من هذا الباب والنبي ﷺ يقول: "انْطَلِقُوا بِنَا إِلَى زَيدٍ نُجَالِسُهُ وَنَسْمَعُ مِنْ حَدِيثِهِ. فجاء النبيُّ ﷺ حتَّى جَلَسَ إِلَى جَنْبِكَ فَأَخَذَ بِيَدِكَ، فَلَمْ يَبْقَ زَيدٌ بَعْدَ هذِهِ الرُّؤيَا إِلاَّ قَلِيلًا حَتَّى مَاتَ رحمه الله تعالى".
ومع ما ذكرنا من تفضيل العلم على القصص؛ فالعالم لا يستغني أحيانًا عن موعظة الناس والقصص عليهم، وإزالة القسوة عن قلوبهم، بالتذكير بالله وأيامه، فإن القرآن يشتمل على ذلك كله، والفقيه العالم حقًّا هو من فهم كتاب الله واتبع ما فيه.
كما قال علي ﵁: "الفَقِيهُ حق الفقيه مَنْ لاَ يُقَنَّطِ النَّاس مِنْ رَحْمَةِ اللهِ وَلاَ يُرَخِّصْ لَهُمْ فِي مَعَاصي اللهِ، وَلاَ يَدَعُ القُرْآنَ رَغْبَةً عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ" (١).
وقد كان النبي ﷺ يَتَخَوَّلُ أَصْحَابَهُ بِالْمَوْعِظَةِ أَحْيَانًا؛ خشية السَّآمَةِ عَلَيْهِمْ" (٢).
قوله ﷺ: "وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ العِلْمِ رِضًى بِمَا يَصْنَعُ"
_________
(١) أخرجه الخطيب في "الفقيه والمتفقه" (٢/ ١٦١)، والآجري في "أخلاق العلماء" (٤٩، ٥٠).
(٢) أخرجه البخاري (٦٨)، ومسلم (٢٨٢١).
1 / 25