قال: أتأكلين شيئا؟
قالت: لا.
وضحكت مرة أخرى بغير سبب، وحين سمعت صوت ضحكتها بأذنيها تساءلت بينها وبين نفسها أتكون هذه اللحظة هي السعادة، وهل السعادة معناها أن يغيب العالم بكل ما فيه ومن فيه ولا يبقى من الكون أجمع إلا تلك المساحة الصغيرة من الكنبة التي تجمع جسديهما متجاورين غير متلامسين بعد، تفصلهما مسافة من الهواء لا تزيد عن ملليمتر؟
حاولت أن تمسك بلحظة السعادة، لتعرف مذاقها الحقيقي، لكنها كانت رقيقة شفافة كطبقة رقيقة من الهواء، ما أن ترفع يدها وتلمسها حتى تتمزق. كانت يدها بجوار يده فوق الكنبة، تفصلهما شعرة من الهواء، لكن أحدا منهما لم يحرك يده، وكل منهما يخشى لو تحرك أن تتمزق شعرة الهواء وتتمزق معها لحظة السعادة الرقيقة كالغلالة.
لكن كلا منهما كان يضيق بهذه اللحظة، يتعجل نهايتها، فالسعادة إحساس لا يحتمله الإنسان إلا لحظة واحدة، تصبح معلقة في الزمن كذرة هواء سابحة في الكون، لا الأرض تجذبها ولا السماء تشدها، معلقة، وما أشق على الإنسان أن يصبح معلقا بين السماء والأرض، وما أشد رغبته في أن تطأ قدماه سطح الأرض أو سطح أي جسد صلب يؤكد وجوده الحقيقي بثقله المعهود.
وكقوة الأرض حين تشد إليها الجسد فلا يبقى بينها وبينه مسافة من هواء، التفت ذراعاه حولها وذراعاها حوله، وبتلك الرغبة العنيفة في الذوبان في الكون، وفقدان الإحساس بالجسد وثقله والفناء الكامل والتلاشي في الجو كذرات الهواء، كالموت إذا استطاع أحد أن يموت ويصحو ثم يصف لنا الموت، ولكنه أيضا ليس كالموت تماما. فالموت موت، وربما فقد الإنسان الإحساس حقيقة، ولكن أن يفقد الإنسان الإحساس ولا يفقده، وأن يتلاشى جسده ويظل موجودا، وأن يفنى العالم من حوله ويبقى حيا، وأن تصبح السماء كالأرض والأرض كالسماء، وكل الأشياء تتشابك وتتداخل وتمتزج في شيء واحد أو نقطة واحدة، في منتصف الرأس، تنبض بحركة محسوسة كنبض القلب بل أشد.
بأذنيها كانت تسمع دقات قلبه، والصوت حين يلامس أذنيها يصبح كملمس جسدها، وبصعوبة شديدة يمكنها التعرف على جسدها من جسده، والحرارة نفسها، والرائحة، ولون البشرة، وحركة الدم في العروق، وكل شيء فيهما متشابه كأنهما جسد واحد. أرادت أن تهمس في أذنه بكلمة ما، لكنها لم تجد الكلمة. أتقول له مثلا: «أحبك»، ولكن الكلمة تبدو قبل أن تخرج من شفتيها قاصرة، عاجزة عما تحسه حقيقة. فما معنى كلمة «أحبك»؟
الصمت يستطيع أن يعبر عن حقيقة إحساسها؛ لأنها بهذا الصمت تقول شيئا خطيرا، تقول إن الكلمات المتداولة بين البشر لم تعد تصلح، وإنها في حاجة إلى كلمات أخرى، كلمات تصنعها بنفسها، ولغة جديدة لم تفسرها الكلمات القديمة المستخدمة. وهو أيضا كان صامتا، مستغرقا كأنما يبحث عن سر لحظة الاتصال الأبدية، حين يكف الجسد عن الإحساس بالانفصال عن الكون، ويصبح هو والكون شيئا واحدا، وكيانا ضخما يملأ الساحة بين السماء والأرض.
حين رفعت عينيها إلى فوق رأت الجبل من وراء زجاج النافذة فأدركت ببطء أنها تعود إلى مكانها المحدد فوق الكنبة، وتحسست جسدها بيدها، واكتشفت أن لها جسدا خاصا منفصلا عن جسده، فاتسعت عيناها بالدهشة، لكنها رأته أمامها فابتسمت وكانت تضحك، وقالت له: أليس ذلك غريبا؟
قال: ما هو الغريب؟
अज्ञात पृष्ठ