وبالسرعة نفسها وبالقوة نفسها، التي يندفع بها الجسد الغارق حين يمسك شيئا صلبا أصبح جسدها يندفع، وقدماها تدبان فوق الأسفلت بقوة وبسرعة، وعيناها تبحثان في الشوارع المتداخلة المتشابكة عن الذراع الممدودة من قلب الأفق، والسماء الزرقاء المحصورة بين البيوت والجبل. كادت تجري، بل إنها جرت فعلا. وبحركة سريعة من عينيها نظرت إلى معصمها. كانت الساعة الرابعة والنصف. صعد قلبها ثم هبط، وصدرها أصبح يعلو ويهبط، يعلو ويهبط، وقدماها تتلاحقان كأنهما في سباق مع أنفاسها. •••
انفتح الباب الصغير الذي يتدلى فوقه غصن لبلاب أخضر، ورأت الوجه الطويل النحيل بملامحه العميقة المستغرقة إلى حد الإرهاق، كأنه لا ينام، ولا يأكل، ورأسه ينوء بهموم العالم والبشر، وعيناه الزرقاوان العميقتان إلى حد السواد أو السوداوان إلى حد الزرقة، ونظرته النافذة تقتحم الأغطية والأقنعة وتصل إلى القاع البعيد. - أهلا بهية.
دهشت لصوته حين لامس أذنها، واسم بهية أصبح شديد الخصوصية، ليس كاسم بهية أي بهية، بل هي بالتحديد، دون الملايين، بكيانها الخاص هذا الواقف في الصالة الغريبة.
الصالة تكاد تكون عارية بغير أثاث، إلا كنبة كبيرة في الركن ومنضدة عليها زهرية ورد والنافذة الزجاجية الكبيرة من ورائها الجبل الضخم. جلست على الكنبة، واستدار هو ليغلق الباب خلفها، فأصبح ظهره أمام عينيها، ووجهه وعيناه وملامحه لم تعد مرئية، فبدا كرجل غريب لا تعرفه. وحينما سمعت صوت الباب يغلق تذكرت على الفور أنها بهية شاهين، طالبة الطب المجدة، حسنة السير والسلوك، وأنها أصبحت الآن بالتحديد في بيت رجل غريب، ظهره كظهور الرجال، ولا شيء يربطها به. ودهشت الدهشة التي تحدث في الأحلام، حين يجد الإنسان نفسه في أماكن غريبة لم يعرفها من قبل، ويقابل أشخاصا غرباء لم يقابلهم من قبل.
وبدأ عقلها يعمل بسرعة الحركة في الأحلام، مصورا لها أشياء كثيرة. تصورت أباها قابعا في كرسيه الأسيوطي في الصالة يحتسي قهوة الصباح، يفتح الجريدة فوق الصفحة الأولى فيرى جسد ابنته بهية عاريا ومقتولا في شقة شاب أعزب بمدينة المقطم. أبوها كان يؤمن أن بهية لا تعرف إلا الطريق من البيت إلى الكلية، وأنها تصلي وتصوم، وتذاكر في اليوم أربع ساعات، وحين تسمع أغاني الحب في الراديو تغلقه، وحين يضحك معها أحد شباب الأسرة تنهره، وأنها ليست كأية فتاة أخرى، جسمها ليس كجسم أية فتاة أخرى، بل إنها ليس لها جسم، وليس لها أعضاء، وبالذات تلك الأعضاء الجنسية التي يمكن أن يثيرها أو يحركها واحد من الجنس الآخر.
خيالها عجز عن تصور الصدمة، حين يرى أبوها جسد ابنته المطيعة المؤدبة عاريا، ليس في حجرة نومها الخاصة مثلا، وإنما في شقة شاب وليست عيناه فحسب هما اللتان تريانها وإنما آلاف العيون التي تقرأ جريدة الصباح، ومنها عيون أفراد الأسرة العريقة الكبيرة المنتشرة في القطر من أسوان إلى الإسكندرية، وخاصة عيون الفلاحين منهم والصعايدة، وعيون موظفي وزارة الصحة جميعا، رؤسائه ومرءوسيه الذين أقنعهم على مدى ثلاثين عاما أنه المدير الكفء ذو الأصل العريق والسمعة الشريفة، وأبناؤه وبناته جميعا حسنو السير والسلوك، وخاصة بهية طالبة الطب المجدة.
ارتجفت الرجفة ذاتها التي تحدث في الأحلام، وأيقنت أنها على استعداد لأن تدفع عمرها كله من أجل أن تمنع عن أبيها هذه الصدمة، وأنه من الممكن أن تموت ويتعرى جسدها ويتمزق إربا بشرط ألا يرى أبوها ولا يعرف. كانت تحب أباها رغم كل شيء، وحين يمد لها يده كل يوم بالورقة البالية ذات العشرة قروش يغوص قلبها في صدرها ثقيلا كقطعة حجر، وحين تضم أصابعها الورقة الندية برائحة عرقه تكاد تخفي وجهها وتبكي. كانت تعلم أنه يكد ويشقى من أجلها وأجل إخوتها، وأحيانا تراه وهو يشق الزحام بجسده النحيل ذي الظهر المحني، وحين يجتاز الشارع المكتظ بالعربات السريعة ترتجف خشية أن تدهمه عربة، وذات مرة رأته واقفا على سلم الترام من شدة الزحام، وخيل إليها أن السلم سيهوي تحت الأقدام الكثيرة ويصبح جسد أبيها تحت العجلات. وذات مرة ذهبت إلى مكتب أبيها في الوزارة، فلمحته في الردهة يسير خلف رئيسه، ظهره أكثر انحناء، وعضلات عنقه أكثر ارتخاء، ورأسه يميل إلى الأمام في خضوع، ورئيسه يسير أمامه بحركة متعالية تجعل ظهره مشدودا وعضلات عنقه مشدودة ورأسه مائلا إلى الوراء في كبرياء. في تلك اللحظة أرادت أن تنشق الأرض وتبتلعها، وحين ركب أبوها الترام إلى جوارها وابتسم لها لم تبتسم له، وظلت تتفادى النظر في عينيه حتى أتى اليوم التالي، وحين مد لها يده بالورقة البالية المبللة بعرقه كادت ترفضها، لكنها أخذتها وشعرت بالمهانة، وبصعوبة شديدة رفعت عينيها في عينيه، ورأت سوادهما يترقرق من تحت دمعة شفافة غير مرئية. •••
انتفضت لتقف ، وقبل أن تصبح واقفة تماما كان قد استدار، وأصبح وجهه أمامها، وعيناه في عينيها فسرى في كيانها ذلك التيار السحري الذي يشعرها على الفور أن كل شيء في الزمان والمكان خارج هذه اللحظة لا معنى وبلا وجود حقيقي، وأن حياتها كلها من خلفها ومن أمامها ليست حياتها، وإنما حياة إنسانة أخرى، ولا شيء يربطها بالعالم الذي عاشت فيه، أو الناس الذين عرفتهم، لا شيء يربطها بشيء سوى هذا الوجه بعينيه السوداوين الزرقاوين تنظران في عينيها وتؤكدان وجودها الحقيقي. - سليم.
رن صوتها في الصالة غريبا، كصوت واحدة أخرى، فاندهشت، والاسم أيضا «سليم» أصبح في أذنها غريبا كاسم واحد آخر. رددته بينها وبين نفسها عدة مرات لتألف ذبذباته في أذنها، وفي كل مرة يصبح أكثر غرابة عن المرة السابقة. اسمه سليم واسمها بهية، واسمه ليس أكثر غرابة من اسمها حين يرن في أذنها، لكن ما أبعد الأسماء عن حقيقة الأشياء، وما أعجز حواس الإنسان عن إدراك ما يحسه الإنسان! إن ما تحسه هي نحوه هو شيء أكثر من مقدرة أذنيها على السماع، وعينيها على الرؤية، وأنفها على الشم، وأصابعها على اللمس. وأيقنت في تلك اللحظة أن للإنسان حواس أخرى مجهولة، لم تكتشف بعد، وأنها كامنة، منكمشة في أغوار النفس، ولكنها أكثر من الحواس المعلومة قدرة على الإحساس، فهي الحواس الحقيقية الطبيعية، لم تفسدها التربية في البيوت، ولا التعليم في المدارس، ولا النظم ولا القوانين ولا التقاليد ولا أي شيء. كالنهر الطبيعي المنطلق بغير سدود، وكالمطر المنهمر من السماء بلا حواجز ولا موانع إلى أن يكف وحده حين ينضب.
كانت قد أصبحت جالسة على الكنبة، وهو إلى جوارها وأمامها النافذة الزجاجية والجبل من خلفها، ومن خلف الجبل السماء الزرقاء الملوحة بحمرة الشمس وقت الأصيل. انعكس ضوء الشمس على عينيها كالابتسامة اللامعة، فضحكت بصوت منطلق وقالت وهي تشير إلى النافذة: المنظر من هنا رائع.
अज्ञात पृष्ठ