دهشت لهذا الكم الهائل من الناس الذين في الشارع، ودهشت أكثر لأنهم يسيرون كالعميان لا يرون أحدا ولا يرون أنفسهم، ودهشت أكثر فأكثر لأنني كنت واحدة منهم، وملأتني الدهشة بإحساس له لذة، كطفل يفتح عينيه لأول مرة ويكتشف العالم، لكن ما هي إلا لحظة وسرعان ما ينطلق صراخ المولود حين يقذف إلى الخارج في عالم آخر لم يكن فيه من قبل.
حين أقبل الليل ولم أعرف مكانا معينا أبيت فيه، أحسست بشيء داخلي يصرخ من الفزع، وكنت قد أرهقت وقرضني الجوع فأسندت ظهري إلى جدار بيت ووقفت أنظر حولي، ورأيت الشارع واسعا ممتدا أمام بصري كالبحر، وأنا قطعة حجر قذفت فيه، قطعة حجر تتدحرج، والناس السائرون والراكبون هم الناس الراكبون أو السائرون كالعميان لا يرون أحدا، آلاف العيون، آلاف العيون تمر أمامي في كل لحظة، تمر دون أن تراني.
عينان فقط رأيتهما تتحركان نحوي ببطء رأيتهما تسقطان فوق حذائي، وترتفعان ببطء شديد فوق ساقي، فوق فخذي، فوق بطني، فوق صدري، فوق عنقي، فوق شفتي، ثم تستقران في النهاية في عيني.
سرت فوق جسدي رجفة باردة كرجفة الموت، أو كرجفة الفزع حتى الموت، سددت عضلات ظهري ووجهي؛ لأذر الرجفة وأطرد الفزع؛ فهما عينان، عينان فقط، وليستا سكينا أو مطواة. وابتلعت ريقي، وحركت قدمي لأسير، واستطعت أن أحرك جسدي وأبتعد عن العينين، لكني أحسست بهما فوق ظهري، اقتربت من محل فيه نور ساطع، دخلت المحل وأخفيت نفسي بين الناس المتزاحمين، خرجت من المحل بعد قليل أنظر إلى الشارع في حذر، وحينما لم أجد العينين جريت بسرعة، كان عندي هدف واحد محدد، هو أن أصل بيت عمي بأسرع ما يمكن.
لا أدري كيف تحملت الحياة في بيت عمي وزوجته، ولا أدري كيف تزوجت الشيخ محمود، لكن أي شيء كان قد أصبح أقل فزعا من تلكما العينين اللتين كلما كنت أتذكرهما حتى تسري فوق جسدي رجفة باردة. لم أكن أعرف لونهما: سوداوان هما أم خضراوان، ولم أعرف شكلهما: ضيقتان أم واسعتان، وما كان يمكن لي أن أعرفها من بين عيون الناس، لكني ما كنت أسير في الشارع بالليل أو النهار إلا وأتلفت حولي، فكأنما ستنشق الأرض فجأة وتصبح هاتان العينان أمامي.
وانتقلت من بيت عمي إلى بيت الشيخ محمود، وأصبح لي سرير مريح بدلا من الكنبة الخشبية، سرير ما كنت أتمدد فوقه لأستريح من عناء المطبخ والغسل وتنظيف البيت الكبير والأثاث المثير، حتى يأتي الشيخ محمود، كان قد تجاوز الستين من عمره، ولم أكن أتممت التاسعة عشرة، وتحت شفته السفلى ورم كبير يتوسطه ثقب يجف في أيام، وفي أيام أخرى تتساقط منه كالصنبور البالي قطرات حمراء كالدم أو صفراء أو بيضاء كالصيد.
حينما يجف الثقب أتركه يقبلني، وأحس الورم الكبير فوق شفتي ووجهي مثل الكيس أو القربة المليئة بالماء الراكد أو الدهن، وفي غير أيام الجفاف أبعد عنه شفتي وأبعد أنفي؛ فهي رائحة تشبه رائحة الكلب الميت تخرج من الثقب.
وفي الليل يلف ذراعيه وساقيه حولي، وأترك يده المعروقة تعبث بجسدي كله لا تترك شيئا، كيد جائع لم ير الطعام من سنين، فإذا به يمسح الصحن ويلعقه لا يترك فيه شيئا.
ولم تكن قدرته على الأكل كبيرة، كان الورم في وجهه يعرقل حركة فكيه حين يمضغ، ومعدته العجوز ضعيفة يربكها الأكل الكثير، لم يكن يأكل إلا قدرا قليلا من الطعام، لكنه في كل مرة لا بد أن يمسح الصحن، يمسحه ويدور حوله لا يترك فيه شيئا، وينظر دائما في صحني وأنا آكل، وإذا ما انتهيت وبقي في الصحن شيء يأخذه ويأكله، وهو يؤنبني على إسرافي، لم أكن مسرفة، ولم أكن أترك في الصحن طعاما، وإنما هي تلك البقايا الضئيلة العالقة بقاع الصحن والتي لا يمكن أن تزول إلا بالماء والصابون.
وحين ترتخي ذراعاه وساقاه من حولي أسحب جسدي بهدوء من تحت جسده، وأسير على أطراف أصابعي إلى الحمام، أغسل وجهي وأغسل فمي، وأغسل ذراعي وفخذي، أغسل كل جسدي لا أترك شيئا، أغسله بالماء والصابون عدة مرات.
अज्ञात पृष्ठ