98

على أنه إذا ثبت لدينا فساد هذه الروايات فلا يثبت مطلقا أن العرب لم يقولوا الشعر قبل القرن الخامس للميلاد، فإن طبيعتهم وطبيعة بواديهم وحواضرهم كانتا لعهد الهجرة، وقبلها بقرن على ما كانتا عليه قبل عشرات من القرون، فقد يصح الفرض أن النهضة الشعرية كانت تتفاوت ارتقاء وارتخاء بين زمن وزمن، ولكنه لا يصح القول أن جذوتها لم تلتهب إلا لهذا العهد القريب، فارتقاء بلاغة الشعر متقدم على ارتقاء بلاغة النثر لملازمة الأفكار الشعرية للفطرة البشرية، وإذا كان الشعر مدونا قبل الإلياذة بعصور في لغات الهنود والمصريين، وبلادهم معتقلة بقيود الحضارة فما بالك بالعرب، وهم في بداوتهم وجاهليتهم يطوفون في عالم الخيال فلا قيد ولا عقال يطرقون البوادي والقفار، فينقرون فيها على ما شاءوا من الأوتار، ويسامرون النجوم فلا يستر الجو عنهم شيئا من بهائها، وهم جميعا بين هائم وهاجع، وهاجم ومدافع، ومنافر ومفاخر، وكل تلك الأحوال تهيج السليقة الشعرية حتى في الأفئدة الخاملة، وهم هم اليوم في باديتهم أولئك الرعاة الغزاة منذ ألفي عام والشعر على تغير لغته وزوال إعرابه ما زال أنيسهم وسميرهم في الحل والترحال، وسيظل كذلك إلى ما شاء الله.

طموسه

لا ريب بعد ما تقدم أن الشعر العربي القديم درس أثره، وطمس خبره، وأن ما ينقل منه لأيامنا حديث الوضع من مخترعات الكتاب، ولعله يأتي زمن يتوصل فيه الباحثون في عاديات الأيام الخوالي إلى اكتشاف شيء مما قد يكون علق منه لغرض، ولكن افتراض حصول ذلك قليل الجدوى بالنظر إلى لغة الشعر العربي من عهد شعراء الجاهلية المعروفين حتى يومنا؛ لأنه إذا وجد شيء من الشعر الراقي إلى ما فوق القرن الرابع للميلاد، فإنما يكون بلغة غير لغة امرئ القيس، وإذا كانت لغة أصحاب المعلقات ونظائرها يشكل فهمها على معظم قراء العربية مع جميع القيود التي قيدت بها اللغة من عهدهم، فما يكون مبلغ فهمنا من لغة تلك العصور، ولا ضابط لها ولا قيد.

عكاظ

وهو معلوم أيضا أن منطوق لغة العرب كان يختلف ويتباعد بتباعد القبائل؛ ولهذا كثرت المترادفات في اللغة العربية إلى ما لا نظير له في لغة أخرى، ولو طال الأمد على تلك الفوضى، ولم تقم سوق عكاظ لباتت لغة العرب لغات لا يتفاهم أصحابها، وانفصلت كل منها عن الأخرى انفصال العربية عن شقيقتيها العبرية والسريانية، فلما عظم شأن السوق العكاظية، وأخذ الشعراء يؤمونها من أطراف البلاد يتناشدون فيها، ويتنافسون كان معظم همهم انتقاء الألفاظ الفصيحة المشهورة عند أكثر القبائل طمعا بكثرة المستحسنين لشعرهم، فاشتركت الألفاظ وعمت التعابير المألوفة بين الجميع، فاتقت اللغة شر التفرق، وأمنت ألفاظها من التبعثر بين شتيت القبائل.

وقد كان ذلك شأن العرب في اختيار الفصيح من الكلام في نظائر عكاظ كذي المجاز في الجاهلية، ومربد البصرة في الإسلام.

القرآن ولغة قريش

إذا ثبت أن لعكاظ ونظائرها فضلا في تمحيص ألفاظ اللغة، فالفضل العظيم في استحيائها واستبقائها إنما هو للقرآن، فهو الذي أحكم تراكيبها، وأبدع في تنسيق أساليبها، وصعد بالبلاغة إلى أوج مراقيها، بل هو الذي جمع جامعتها، وهذب عبارتها، ولما ارتفع منار الدين الإسلامي كانت اللغة العربية تنتشر بانتشاره على وتيرة واحدة في مشارق الأرض ومغاربها، ولا عبرة بما كان يعتور لغة العامة من الركة واللكنة بمخالطة الأعاجم، ويعد عهد الجم الغفير من الجالية العربية بالانقطاع عن أصولها، فإن القرآن كان ولا يزال رائد الكتاب يرجعون إليه في مواضع الإشكال، ويتمثلون بعبارته، ويتفقهون ببلاغته، فكان من معجزة حفظ اللغة العربية الفصحى على أسلوب واحد منذ ثلاثة عشر قرنا مع تفرق حفظتها وتشتت المتكلمين بها.

وفضل القرآن على الشعر العربي يكاد يضاهي فضله على لسان العرب؛ لأن بلاغة التعبير تهيج الفطرة الشعرية سواء كانت العبارة نثرا أو شعرا؛ ولهذا كثر لفظ القائلين في أوائل الإسلام أن القرآن كلام شعري، فجاءت الآية بتكذيبهم

وما علمناه الشعر وما ينبغي له إن هو إلا ذكر وقرآن مبين

अज्ञात पृष्ठ