وأما مبلغ الذاكرة عندهم فمما لا يفوقه شيء في أخبار اليونان والرومان والإفرنج ، وفي أخبارهم ما لو حذف منه شيء كثير لربا باقيه على مرويات اليونان قديمهم وحديثهم. فإذا علمت أن أبا العلاء المعري سمع محاورة إسرائيليين بالعبرية، وهو في شأن غير شأنهما ثم طلب بعد مدة مديدة للشهادة، فأعاد تلك المحاورة وهو لا يفقه من العبرية حرفا - إذا علمت ذلك فما ظنك تعي ذاكرته من الشعر لو توخى الحفظ - وإذا قيل لك أن الإلياذة مؤلفة من زهاء ستة عشر ألف بيت؛ فيصعب الأخذ بقول القائلين أنه أمكن استظهارها فما بالك لو سمعت ما ذكروا عن غرائب حافظة حماد الراوية إذ امتحنه الوليد بن يزيد، ووكل به من يسمع إنشاده فأنشد تباعا ألفين وتسعمائة قصيدة من شعر الجاهلية. أو لو قيل لك أن الأصمعي كان يحفظ ستة عشر ألف أرجوزة كاملة ما خلا القصائد والمقاطيع وأخبار العرب بدوهم وحضرهم. وهذا قول مهما أنس فيه من المبالغة لا يخلو من صحة بعضها كاف لإثبات ما نتوخاه.
هذا وإني ممن يعتقدون انحطاط قوى الذاكرة وارتقاء قوى المخيلة في أزماننا هذه بناء على الناموس القاضي بترقي القوى البشرية وانحطاطها بكثرة المزاولة وقلتها. ومع هذا فالحافظة مهما ولدت خاملة لا تلبث أن تقوى بالمثابرة على الاستظهار، فمثلها في تدرجها من الضعف إلى القوة مثل يد النجار والحداد وقلم الكاتب. وفي عصرنا هذا من حفاظ التوراة والإنجيل والقرآن مئات وألوف عرفت بعضهم بالذات، ولقد طالما اضطررت في حين من الزمن إلى مراجعة خبر أو آية في التوراة وإلى جانبي المرحوم المعلم داود الحاج، فكنت إذا ذكرت له طرفا مما أريد أشار فورا إلى السفر والفصل، وكثيرا ما كان يعين العدد؛ فأتصفح الكتاب فإذا هو كما قال. وحفظة القرآن منتشرون في كل صقع من بلاد الإسلام، ومنهم الجم الغفير من كفيفي البصر كرواة سائر الأمم. ويقال مثل ذلك في حفظة الإنجيل من المسيحيين، ولا سيما وعاظ الإنجيليين.
أما رواة الشعر فهم في البلاد الشرقية أكثر منهم في أقطار الغرب حيث قضت الكتابة على الاستظهار القديم، وقد شهدت بنفسي مصداق قول شدزكو في منشدي الفرس، فإذا جلست إلى الواحد منهم وهو ينشد شعر الفردوسي أو جلال الدين الرومي أو قصص كلستان سعدي شعرا ونثرا لظننته يتلو كتابا يتصفحه حرفا حرفا.
وإذا جلت في بادية العرب وسمعت منشديهم ينشدون على نغم ربابتهم ألوفا من الأشعار قلت: تلك كنارة هوميروس، وهؤلاء لا أولئك هم المنشدون الذين ذكرهم سقراط وأفلاطون، ومثفرد وغروت وفوريل، وغرم وشدزكو.
ولقد تيسر لي أثناء تجولي بينهم أن التقطت منهم قصائد شتى جمعتها في ديوان سأمثل منتخباته بالطبع، وكثيرا ما كنت أسمع القصيدة من غير راو فإذا هي هي.
وليس بالأمر اليسير بإزاء ما تقدم محفوظ زجالي مصر، وقوالي لبنان، وشعراء أهل الأرياف في إسبانيا والبرتغال، فقد استبقت الذاكرة بضع قصائد بل مطالع من معنى اللبنانيين مما علق بها في الصغر منذ بضعة عقود من السنين فاستنشدتها بعضهم في الصيف الماضي فإذا هي عندهم على حالها لم تزد ولم تنقص.
وقد ذكر كتاب الإفرنج كثيرين ممن عنوا بحفظ كتاب أو منظومة فما لبثوا أن أدركوا بغيتهم كما كولي (Maenuly)
الذي أنشد نصف منظومة ملتن الإنجليزية في الفردوس الغابر. وإذا ساغ لي أن أذكر لنفسي ولرفاقي في الصغر مثلا من ذلك قلت: إننا كنا نتسابق إلى حفظ ملحمة ملتن المذكورة حتى تيسر لي مرة سرد نشيد كامل منها، ونصف الثاني مع قسم غير يسير من منظومة سيدة البحيرة لولتر سكت. وكان أستاذنا العم المرحوم المعلم بطرس البستاني يشوقنا إلى حفظ ألفية ابن مالك، وما زال بي حتى استظهرتها واستنشدني منها مئتي بيت تباعا في حفلة امتحان.
وليس ما أذكره في هذا الباب على سبيل الاستطراد شيئا مذكورا بإزاء محفوظ الرواة الذين لا هم لهم إلا اختزان الشعر والقصص في حوافظهم، فالمنظومات فيها كالمتاع المنضود في حانوت حافل بأصناف المنسوجات ينشرون منها ما شاءوا أيان شاءوا على نية أن يطووه إلى موضعه. وكلما نشروه مرة زاد زهاء ورواء، وإذا تلقاه أحد عنهم فإنما يتلقى رسمه، والأصل باق في ملكهم لا تبلغه يد مشتر أو سارق. فأمثال هؤلاء هم الذين استبقوا للخلف منظومات هوميروس إلى أن كتبت.
جمعها وكتابتها
अज्ञात पृष्ठ