ومع الأسف كان عدد هؤلاء الممتازين قليلا، بل أقل من القليل؛ فلو نظرنا إلى عدد المبعوثين من عهد محمد علي للآن لوجدناهم يعدون بالآلاف ولوجدنا من أفاد منهم لا يعد إلا بالعشرات، وإني أرجو لك أن تكون من هذا القليل النافع لا من الكثير الفاشل. •••
إن أكثر من كانوا قبلك قد فسدوا لأنهم سافروا لأخذ شهادة وعادوا لأخذ درجة. فليكن سفرك أنت للمعرفة والعلم وعودتك للإصلاح والنفع، والله يوقفك.
3
أي بني:
أكتب إليك هذا في أواخر مارس، موسم الربيع، وموسم الجمال، وموسم البهجة؛ والدنيا - كما قال أبو تمام:
دنيا معاش للورى حتى إذا
جاء الربيع فإنما هي منظر
ولشد ما آسف إذ أرى مدارسكم وجامعاتكم تعني بالعقل فتضع له المناهج الطويلة العريضة في مختلف العلوم، وتمعن في الإجرام فتقلب الآداب والفنون إلى علوم عقلية، أو نظريات فلسفية، وتعني بالجسم فتنظم له الألعاب الرياضية، وتقيم له مباريات السباق وكرة القدم ورفع الأثقال ... ثم لا تقيم وزنا ولا تضع منهجا للذوق وتربيته، وهو الأحق بالعناية والأجدر بالرعاية؛ فإن قصرت مدارسك وجامعاتك في ذلك، فتول أنت تربية ذوقك بنفسك، ووجه إليه كل همتك. فما الحياة بلا ذوق، وما الدنيا بلا جمال؟ وجزى الله خيرا من وجهني إلى الجمال فهويته، ورتبت في شبابي بائع الزهور بجانب بائع الخبز واللبن، فأعجبت بالورد وجماله، وبديع ألوانه، وبالزهور على اختلاف أنواعها، في تناسقها وانسجامها، فكان هذا متعة لنفسي وحياة لروحي بجانب متعة عقلي.
أي بني!
إن الذوق عمل في ترقية الأفراد والجماعات أكثر مما عمل العقل. فالفرق بين إنسان وضيع وإنسان رفيع، ليس فرقا في العقل وحده، بل أكثر من ذلك فرق في الذوق. ولئن كان العقل أسس المدن، ووضع تصميمها، فالذوق جملها وزينها. إن شئت أن تعرف قيمة الذوق في الفرد، فجرده من الطرب بالموسيقى والغناء، وجرده من الاستمتاع بمناظر الطبيعة وجمال الأزهار، وجرده من أن يهتز للشعر الجميل، والأدب الرفيع، والصورة الرائعة، وجرده من الحب في جميع أشكاله ومناحيه، ثم انظر بعد ذلك ماذا عسى أن يكون وماذا عسى أن تكون حياته.
अज्ञात पृष्ठ