ومن أهم تجاربي أيضا أني رأيت كثيرا من الناس يخطئون فيظنون أن المال هو كل شيء في الحياة. يبيعون أنفسهم للمال ويحاولون أن يتزوجوا للمال ويضيعون أعمارهم للمال، ويفرطون في الفضيلة للمال، وقد أقنعتني التجارب أن المال وسيلة من وسائل السعادة حقا؛ بشرط أن يطلب باعتدال وينفق في اعتدال، وبشرط ألا يكون ما تحصله كثيرا جما، فتنقلب عبدا له، وبشرط أن يبقى المال وسيلة أبدا ولا ينقلب غاية أبدا. فإن أكثر الناس وقعوا في متاعب شتى من هذه الأخطاء.
فمنهم من بدأ حياته يطلب المال على أنه وسيلة ثم استمر في طلبه بعد أن استوفى حاجته منه فانقلب غاية، ومنهم من صرف حياته وتفكيره في المال وفي الاستزادة منه حتى فقد سعادته بل وفقد نفسه، وقد دلتني التجارب على أن أسعد الناس من وضع المال في موضعه اللائق به، فلم يرفضه رفضا باتا ولم يذل له ذلا تاما. ونظر إلى المال على أنه وسيلة من وسائل السعادة لا كل السعادة، ولم يطلبه إلا مع الشرف والعزة والإباء. فإن تعارض معها ضحى المال للفضيلة والغنى للضمير. •••
ودلتني التجارب على أن عنصر الدين في الحياة من أهم أسباب السعادة. ولكن أصدقك أنه لم يعجبني موقف زماننا من الدين ولا موقف زمانك، فقد كان الدين في زماننا متزمتا لا سماحة فيه، متشددا لا لين فيه، مغلقا لا عقل فيه، والدين في زمانكم متضائل لا حياة فيه، منسي لا ذكر له، موضوع على الرف لا يؤبه به. والحياة السعيدة كما دلتني التجربة حياة ترتكز على الاعتقاد بإله يركن إليه ويعتمد عليه، وتستمد منه المعونة ويطلب إليه التوفيق في الحياة، ويملأ القلب رحمة وعطفا وحبا لخير الإنسانية. يعجبني من الدين أن يكون سمحا لا غلظة فيه، وألا يكون ضيق الأفق فيناهض العلم، بل يؤمن صاحبه أن له مجاله وللعلم مجاله، وأن الدين الصحيح لا يناقض العلم الصحيح، وأن لا بد منهما جميعا للإنسانية، فالعلم لحياة العقل والدين لحياة القلب. •••
هذه، يا بني، بعض تجاربي في الحياة وما أكثرها! ولكني أخشى أن أطيل عليك فتمل، وأحب أن أقدمها إليك جرعة فجرعة لتستسيغها وتتذوقها وتأخذ نفسك بتشربها رشفة فرشفة. أذكر لي رأيك فيها وموقعها عندك ومبلغ استعدادك لقبولها، وفي ضوء ما أسمع منك ستتوالى عليك كتبي إليك، تقدم إليك تجاربي كأسا فكأسا.
والسلام عليك ممن يحب لك الخير ويود أن تكون خيرا منه، ويتمنى أن يحيا فيك خيرا مما حيى في نفسه والسلام.
2
أي بني:
إنك الآن تدرس في إنجلترا بعد أن أتممت دراستك في مصر، والذين درسوا قبلك في أوروبا أشكال وألوان، اختلفت منازعهم واختلفت اتجاهاتهم، واختلفوا في مقدار نجاحهم وفشلهم، ولكن يمكن تقسيمهم إلى مجموعات محددة واتجاهات معينة.
فمنهم من شعر بأن حريته في مصر كانت مفقودة، فرآها في أوروبا موفورة. فقد تحرر من رقابة الأبوين ورقابة المدرسة، وأصبح أمير نفسه ليس عليه رقيب ولا حسيب، ورأى مجال اللهو في أوروبا واسعا فسيحا (وأوروبا - على العموم - كفيلة أن تحقق كل رغبة وتوفر كل اتجاه، فمن شاء الجد فالأبواب أمامه مفتحة ومجال الجد لا حد له، من شاء اللهو فالأبواب أمامه مفتحة ومجال اللهو لا حد له) فانغمس في وسائل اللهو ووهبها كل ماله وكل تفكيره وكل وقته. نهاره نائم وليله عابث، ولا يرى جامعته ولا تراه إلا محافظة على الشكل وحرصا على استجلاب المال من أبيه أو من حكومته أو منهما معا، وهو يلهو ويوهم أباه أنه يجد، ويعبث ويخدع من في مصر بأنه دائب في طلب العلم، ويحتال على أبويه في تحصيل المال بكل وسيلة، فهو من فرط جده محتاج إلى شراء كثير من الكتب، ومن فرط البرد محتاج إلى كثير من الملابس، ومن فرط مذاكرته محتاج إلى التردد على الطبيب، وكل ما يأتيه من هذه الحيل مصروف في شهواته ولذاته. وأخيرا تنكشف الأمور عن مأساة ويعود إلى بلده ولا علم ولا خلق، وقلما يصلح في مصر لعمل بعد أن فسدت نفسه ومات ضميره وذهب علمه وانحط خلقه. •••
ومن الدارسين في أوروبا من كانوا على العكس من ذلك - وهم أقل عددا. هؤلاء عكفوا على دروسهم بكل جد، ولم يعرفوا غير حجرتهم وكتبهم وجامعتهم وطريقهم من البيت إلى الجامعة، قد نقلوا حجرتهم في مصر إلى حجرة في إنجلترا أو فرنسا، وغيروا كتبهم في مصر إلى كتبهم في إنجلترا وفرنسا، وعملهم في مصر إلى عملهم هناك من غير فرق، وظلوا يعملون ويكدون حتى نالوا الدرجة العلمية وأتت التقارير عنهم إلى وزارة المعارف وإلى آبائهم بأنهم مثال الجد والنشاط والنجاح العلمي، ثم عادوا يحملون شهادتهم ويعملون فيما عهد إليهم أن يعملوا. هؤلاء قد نمت عقولهم وغزر علمهم، ولكنهم لم تتفتح قلوبهم ولم ترق نفوسهم، وهؤلاء الآخرون لا يعجبونني كما لم يعجبني الأولون. •••
अज्ञात पृष्ठ