كنت أود أن أحدثك عن تيارات أخرى ليست بأقل خطرا مما حدثتك، ولكن طالت رسالتي وخشيت عليك الملل. فإلى اللقاء، والله يحفظك.
5
أي بني!
إني لأشفق عليك من زمنك الذي نشأت فيه، فقد كان زمن من قبلك هادئا مستقرا، تجري شئونه على وتيرة واحدة ... وأملنا في المستقبل أن يكون زمنا هادئا مستقرا كذلك.
أما زمنك هذا فقلق مضطرب حائر، كفر بالقديم، ثم لم يجد جديدا يؤمن به.
قد كانت الأمور في زمننا سائرة سيرا منظما، وإن لم يكن حسنا ولا كاملا. كان من تحدثه نفسه بالرشوة يخشى افتضاح أمره ونزول العقوبة به، وكان من يقصر في عمله ينال العقوبة على تقصيره، وكان الطالب إذا طاف به طائف من الإضراب أو الخروج على أمر الأستاذ فكر طويلا قبل أن يقدم، وقل أن يقدم، وكان الناس يخشون أن ينحرفوا - ولو قليلا - عن الأوضاع المألوفة والتقاليد الموروثة، خوف أن ينقدهم ناقد أو يعيرهم معير. ثم زال كل هذا الخوف وتحرر الناس من كل هذه القيود، ولكن لا يستقيم أمر الناس مع هذه الفوضى ومع هذه الحرية التي لا حد لها، وإنما استقام الأمر في الأمم الراقية مع زوال هذا الخوف لأن الشعور بالواجب حل محل الخوف، وتبادل العطف بين الشعب والحكومة حل محل الرعب والاستبداد، وتحكيم العقل فيما يصلح وما لا يصلح من الأوضاع والتقاليد حل محل الطاعة العمياء، وهذا - للأسف - ما لم نصل إليه بعد. •••
أكبر ما يؤلمني فيك وفي أمثالك من الشبان، أنكم فهمتم الحقوق أكثر مما فهمتم الواجب، وطالبتم غيركم بحقوقكم أكثر مما طالبتم أنفسكم بواجباتكم، والأمة لا يستقيم أمرها إلا إذا تعادل في أبنائها الشعور بالحقوق والواجبات معا، ولم يطغ أحدهما على الآخر. وكل ما نرى في الأمة من فساد وارتباك وفوضى وتدهور نشأ من عدم الشعور بالواجب. فلو تصورنا الموظفين في المصالح الحكومية شعروا بواجبهم نحو الأفراد فأدوا ما عليهم في عدل وسرعة، وأدى الطلبة ما عليهم نحو دروسهم وجامعاتهم وأساتذتهم، وأدى الصانع ما عليه في صناعته، وأدت الحكومة ما عليها لشعبها، لاستقامت الأمور وقلت الشكوى، وسعد الناس بحكومتهم وسعدت الحكومة بشعبها، ولكن أنى لنا ذلك وحاجتنا شديدة إلى تفهم الواجب والعمل على وفقه؟
إن العلم في زمنكم أكثر أضعافا مضاعفة من العلم في زمننا، ولكن ليس نجاحكم في الحياة ولا سعادتكم فيها تناسب تقدمكم العلمي ... لأن العلم لا يفيد في السعادة والرقي إلا إذا صحبه الشعور بالواجب؛ والعلم كالمصباح قد تكتشف به طريق الهداية وقد تكتشف به طريق الضلال. •••
إن أسوأ ما كان في زمنك حدوث الحرب ... والحرب - عادة - تزلزل الأخلاق وتغري النفوس الضعيفة بالشره والجشع، وتقدم لنا أمثلة كثيرة ممن اغتنوا بعد فقر لأسباب خسيسة أو أعمال وضيعة، ثم تضغط على صغار الموظفين والصناع والتجار ... فيرون أنهم لا يستطيعون العيش الكافي في مجال رزقهم المحدود، فإذا هم لم يتحصنوا بالخلق المتين مدوا أيديهم وخربوا ذممهم. ولذلك كانت الحرب في أكثر الأمم مبعثا لفساد الخلق وخراب الذمم، وهي في الأمم الضعيفة أشد فتكا وأسوأ أثرا، وواجب المصلحين بعد الحرب أن ينشلوا الأمة من وهدتها وينقذوها من ورطتها؛ ولذلك تحتاج أنت وأمثالك في مثل هذا الموقف إلى مجهود كبير يعلي مستواكم ويرفع مثلكم، والأمل فيكم أكبر أمل، لأنكم رجال المستقبل وقادة الغد. فلا يستهوينكم من أثرى حولكم بالخداع والنفاق والكذب والرياء ... وخير أن تعيشوا فقراء أعزاء من أن تعيشوا أغنياء أذلاء.
إننا في هذا الزمان أحوج ما نكون إلى منارات تضيء للسائرين في لجج الظلام، يكون شعارهم القيام بالواجب مهما كلفهم - لأنه واجب - لا طلبا للصيت ولا جريا وراء المجد ... لا يعرفون المجاملة ولا النفاق، ولا يستهويهم وعد ولا يرهبهم وعيد، لسانهم مطابق لقلبهم، وعملهم متفق مع وحي ضميرهم ... فكن إحدى هذه المنارات.
अज्ञात पृष्ठ