وجاء بعد ذلك بآماد الشيخ عبد القاهر الجرجاني، المتوفى سنة 471، ورسم في كتابه دلائل الإعجاز طريقا جديدا للبحث النحوي، تجاوز أواخر الكلم وعلامات الإعراب، وبين أن للكلام «نظما» وأن رعاية هذا النظم واتباع قوانينه هي السبيل إلى الإبانة والإفهام، وأنه إذا عدل بالكلام عن سنن هذا النظم لم يكن مفهما معناه، ولا دالا على ما يراد منه، وضرب المثل لذلك بالمطلع المشهور، وهو:
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
لو خولف فيه «النظم» وعدل به عن سننه وقواعده، فقيل:
نبك قفا حبيب من ومنزل ذكرى
لكان لغوا من الكلام وعبثا. ثم بين أن هذا النظم يشمل ما في الكلام من تقديم وتأخير، وتعريف وتنكير، وفصل ووصل، وعدول عن اسم إلى فعل، أو عن صيغة إلى أخرى، وغير هذا من سائر أحوال الكلمة إذا ألفت مع غيرها لتفهم.
ثم بين أنه ليس شيء من هذا «النظم» إلا وبيانه إلى علم النحو. قال في صفحة 61 من دلائل الإعجاز:
7 «واعلم أنه ليس النظم إلا أن تضع الكلام الوضع الذي يقتضيه علم النحو، وتعمل على قوانينه وأصوله، وتعرف مناهجه التي نهجت فلا تزيغ عنها، وتحفظ الرسوم التي رسمت فلا تخل بشيء منها؛ وذلك أنا لا نعلم شيئا يتبعه الناظم بنظمه، غير أن ينظر في وجوه كل باب وفروقه، فينظر في الخبر إلى الوجوه التي تراها في قولك: زيد منطلق، وزيد ينطلق، وينطلق زيد، ومنطلق زيد، وزيد المنطلق، والمنطلق زيد، وزيد هو المنطلق. وفي الشرط والجزاء إلى الوجوه التي تراها في قولك: إن تخرج أخرج، وإن خرجت خرجت، وإن تخرج فأنا خارج، وأنا خارج إن خرجت، وأنا إن خرجت خارج ... وينظر في التعريف والتنكير، والتقديم والتأخير، وفي الكلام كله، وفي الحذف والتكرار، والإضمار والإظهار، فيضع كلا من ذلك مكانه، ويستعمله على الصحة، وعلى ما ينبغي له. هذا هو السبيل فلست بواجد شيئا يرجع صوابه إن كان صوابا وخطؤه إن كان خطأ إلى النظم، ويدخل تحت هذا الاسم، إلا وهو معنى من معاني النحو قد أصيب به موضعه، ووضع في حقه، أو عومل بخلاف هذه المعاملة فأزيل عن موضعه؛ واستعمل في غير ما ينبغي له.» ا.ه.
وكرر عبد القاهر بيان هذا المعنى في مواضع من كتابه، وبالغ في الاستدلال له، وكأنه أحس ذلك من صنيعه، فقال: «واعلم أنه وإن كانت الصورة في الذي أعدنا وأبدأنا فيه من أنه لا معنى للنظم غير توخي معاني النحو فيما بين الكلم، قد بلغت من الوضوح والظهور والانكشاف إلى أقصى الغاية، وإلى أن تكون الزيادة عليه، كالتكلف لما لا يحتاج إليه، فإن النفس تنازع إلى تتبع كل ضرب من الشبهة.»
8
إلخ.
अज्ञात पृष्ठ