इहकाम अहकाम शरह उमदत अहकाम

Ibn Daqiq al-'Id d. 702 AH

इहकाम अहकाम शरह उमदत अहकाम

إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

प्रकाशक

مطبعة السنة المحمدية

[كِتَابُ الطَّهَارَةِ] [حَدِيثُ إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ] ١ - الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ: عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ﵁ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَفِي رِوَايَةٍ: «بِالنِّيَّةِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى، فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» .. ــ [إحكام الأحكام] أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بْنِ نُفَيْلِ بْنِ عَبْدِ الْعُزَّى بْنِ رِيَاحٍ بِكَسْرِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا يَاءٌ آخِرُ الْحُرُوفِ وَبَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ ابْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطِ بْنِ رَزَاحٍ بِفَتْحِ الرَّاءِ الْمُهْمَلَةِ بَعْدَهَا زَاي مُعْجَمَةٍ وَحَاءٍ مُهْمَلَةٍ ابْنِ عَدِيّ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَشِيُّ الْعَدَوِيُّ يَجْتَمِعُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ أَسْلَمَ بِمَكَّةَ قَدِيمًا، وَشَهِدَ الْمَشَاهِدَ كُلَّهَا، وَوَلِيَ الْخِلَافَةَ بَعْدَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، وَقُتِلَ سَنَةَ

1 / 59

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ الْهِجْرَةِ فِي ذِي الْحِجَّةِ لِأَرْبَعٍ مَضَيْنَ، وَقِيلَ لِثَلَاثٍ. ثُمَّ الْكَلَامُ عَلَى هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُصَنِّفَ ﵀ بَدَأَ بِهِ لِتَعَلُّقِهِ بِالطَّهَارَةِ، وَامْتَثَلَ قَوْلَ مَنْ قَالَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ: إنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يُبْتَدَأَ بِهِ فِي كُلِّ تَصْنِيفٍ وَوَقَعَ مُوَافِقًا لِمَا قَالَهُ. الثَّانِي: كَلِمَةُ إنَّمَا لِلْحَصْرِ، عَلَى مَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ، فَإِنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ﵄ فَهِمَ الْحَصْرَ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ «إنَّمَا الرِّبَا فِي النَّسِيئَةِ» وَعُورِضَ بِدَلِيلٍ آخَرَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ رِبَا الْفَضْلِ، وَلَمْ يُعَارَضْ فِي فَهْمِهِ لِلْحَصْرِ وَفِي ذَلِكَ اتِّفَاقٌ عَلَى أَنَّهَا لِلْحَصْرِ. وَمَعْنَى الْحَصْرِ فِيهَا: إثْبَاتُ الْحُكْمِ فِي الْمَذْكُورِ، وَنَفْيِهِ عَمَّا عَدَاهُ. وَهَلْ نَفْيُهُ عَمَّا عَدَاهُ: بِمُقْتَضَى مَوْضُوعِ اللَّفْظِ، أَوْ هُوَ مِنْ طَرِيقِ الْمَفْهُومِ؟ فِيهِ بَحْثٌ. الثَّالِثُ: إذَا ثَبَتَ أَنَّهَا لِلْحَصْرِ: فَتَارَةً تَقْتَضِي الْحَصْرَ الْمُطْلَقَ، وَتَارَةً تَقْتَضِي حَصْرًا مَخْصُوصًا. وَيُفْهَمُ ذَلِكَ بِالْقَرَائِنِ وَالسِّيَاقِ. كَقَوْلِهِ تَعَالَى ﴿إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ﴾ [الرعد: ٧] وَظَاهِرُ ذَلِكَ: الْحَصْرُ لِلرَّسُولِ ﷺ فِي النِّذَارَةِ. وَالرَّسُولُ لَا يَنْحَصِرُ فِي النِّذَارَةِ، بَلْ لَهُ أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ كَثِيرَةٌ، كَالْبِشَارَةِ وَغَيْرِهَا. وَلَكِنَّ مَفْهُومَ الْكَلَامِ يَقْتَضِي حَصْرَهُ فِي النِّذَارَةِ لِمَنْ يُؤْمِنُ، وَنَفْي كَوْنِهِ قَادِرًا عَلَى إنْزَالِ مَا شَاءَ الْكُفَّارُ مِنْ الْآيَاتِ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ ﷺ «إنَّمَا أَنَا بَشَرٌ وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إلَيَّ» مَعْنَاهُ: حَصْرُهُ فِي الْبَشَرِيَّةِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى بَوَاطِنِ الْخُصُومِ، لَا بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَإِنَّ لِلرَّسُولِ ﷺ أَوْصَافًا أُخَرَ كَثِيرَةً. وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى ﴿إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ﴾ [محمد: ٣٦] يَقْتَضِي - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - الْحَصْرَ بِاعْتِبَارِ مَنْ آثَرَهَا. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا هُوَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: فَقَدْ تَكُونُ سَبِيلًا إلَى الْخَيْرَاتِ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ بَابِ التَّغْلِيبِ لِلْأَكْثَرِ فِي الْحُكْمِ عَلَى الْأَقَلِّ. فَإِذَا وَرَدَتْ لَفْظَةُ " إنَّمَا " فَاعْتَبِرْهَا، فَإِنْ دَلَّ السِّيَاقُ

1 / 60

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] وَالْمَقْصُودُ مِنْ الْكَلَامِ عَلَى الْحَصْرِ فِي شَيْءٍ مَخْصُوصٍ: فَقُلْ بِهِ. وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي شَيْءٍ مَخْصُوص: فَاحْمِلْ الْحَصْرَ عَلَى الْإِطْلَاقِ. وَمِنْ هَذَا: قَوْلُهُ ﷺ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ وَبِالْقُلُوبِ] ١ الرَّابِعُ: مَا يَتَعَلَّقُ بِالْجَوَارِحِ وَبِالْقُلُوبِ، قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ عَمَلٌ، وَلَكِنَّ الْأَسْبَقَ إلَى الْفَهْمِ: تَخْصِيصُ الْعَمَلِ بِأَفْعَالِ الْجَوَارِحِ، وَإِنْ كَانَ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْقُلُوبِ فِعْلًا لِلْقُلُوبِ أَيْضًا. وَرَأَيْتُ بَعْضَ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْخِلَافِ خَصَّصَ الْأَعْمَالَ بِمَا لَا يَكُونُ قَوْلًا. وَأَخْرَجَ الْأَقْوَالَ مِنْ ذَلِكَ وَفِي هَذَا عِنْدِي بُعْدٌ. وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ لَفْظُ " الْعَمَلِ " يَعُمُّ جَمِيعَ أَفْعَالِ الْجَوَارِحِ. نَعَمْ لَوْ كَانَ خُصِّصَ بِذَلِكَ لَفْظُ " الْفِعْلِ " لَكَانَ أَقْرَبَ. فَإِنَّهُمْ اسْتَعْمَلُوهُمَا مُتَقَابِلَيْنِ، فَقَالُوا: الْأَفْعَالُ، وَالْأَقْوَالُ. وَلَا تَرَدُّدَ عِنْدِي فِي أَنَّ الْحَدِيثَ يَتَنَاوَلُ الْأَقْوَالَ أَيْضًا. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. [الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ] ١ الْخَامِسُ: قَوْلُهُ ﷺ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ. فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي تَقْدِيرِهِ. فَاَلَّذِينَ اشْتَرَطُوا النِّيَّةَ، قَدَّرُوا: " صِحَّةُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " أَوْ مَا يُقَارِبُهُ. وَاَلَّذِينَ لَمْ يَشْتَرِطُوهَا: قَدَّرُوهُ " كَمَالُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " أَوْ مَا يُقَارِبُهُ. وَقَدْ رُجِّحَ الْأَوَّلُ بِأَنَّ الصِّحَّةَ أَكْثَرُ لُزُومًا لِلْحَقِيقَةِ مِنْ الْكَمَالِ، فَالْحَمْلُ عَلَيْهَا أَوْلَى؛ لِأَنَّ مَا كَانَ أَلْزَمَ لِلشَّيْءِ: كَانَ أَقْرَبَ إلَى خُطُورِهِ بِالْبَالِ عِنْدَ إطْلَاقِ اللَّفْظِ. فَكَانَ الْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى. وَكَذَلِكَ قَدْ يُقَدِّرُونَهُ " إنَّمَا اعْتِبَارُ الْأَعْمَالِ بِالنِّيَّاتِ " وَقَدْ قَرَّبَ ذَلِكَ بَعْضُهُمْ بِنَظَائِرَ مِنْ الْمُثُلِ، كَقَوْلِهِمْ: إنَّمَا الْمُلْكُ بِالرِّجَالِ؛ أَيْ قِوَامُهُ وَوُجُودُهُ. وَإِنَّمَا الرِّجَالُ بِالْمَالِ. وَإِنَّمَا الْمَالُ بِالرَّعِيَّةِ. وَإِنَّمَا الرَّعِيَّةُ بِالْعَدْلِ. كُلُّ ذَلِكَ يُرَادُ بِهِ: أَنَّ قِوَامَ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ بِهَذِهِ الْأُمُورِ. [مَنْ نَوَى شَيْئًا حصل لَهُ] السَّادِسُ: قَوْلُهُ ﷺ «وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى» يَقْتَضِي أَنَّ مَنْ نَوَى شَيْئًا يَحْصُلُ لَهُ، وَكُلُّ مَا لَمْ يَنْوِهِ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ فَيَدْخُلَ تَحْتَ ذَلِكَ مَا لَا يَنْحَصِرُ مِنْ الْمَسَائِلِ. وَمِنْ هَذَا عَظَّمُوا هَذَا الْحَدِيثَ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَدْخُلُ فِي حَدِيثِ «الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» ثُلُثَا الْعِلْمِ. فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ حَصَلَتْ فِيهَا نِيَّةٌ، فَلَكَ أَنْ

1 / 61

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] تَسْتَدِلَّ بِهَذَا عَلَى حُصُولِ الْمَنْوِيِّ. وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ خِلَافِيَّةٍ لَمْ تَحْصُلْ فِيهَا نِيَّةٌ، فَلَكَ أَنْ تَسْتَدِلَّ بِهَذَا عَلَى عَدَمِ حُصُولِ مَا وَقَعَ فِي النِّزَاعِ. [وَسَيَأْتِي مَا يُقَيَّدُ بِهِ هَذَا الْإِطْلَاقُ] فَإِنْ جَاءَ دَلِيلٌ مِنْ خَارِجٍ يَقْتَضِي أَنَّ الْمَنْوِيَّ لَمْ يَحْصُلْ، أَوْ أَنَّ غَيْرَ الْمَنْوِيِّ يَحْصُلُ، وَكَانَ رَاجِحًا: عُمِلَ بِهِ وَخَصَّصَ هَذَا الْعُمُومَ. [أَنْوَاع الْهِجْرَة] ١ السَّابِعُ: قَوْلُهُ " فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ " اسْمُ " الْهِجْرَةِ " يَقَعُ عَلَى أُمُورٍ، الْهِجْرَةُ الْأُولَى: إلَى الْحَبَشَةِ. عِنْدَمَا آذَى الْكُفَّارُ الصَّحَابَةَ. الْهِجْرَةُ الثَّانِيَةُ: مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ. الْهِجْرَةُ الثَّالِثَةُ: هِجْرَةُ الْقَبَائِلِ إلَى النَّبِيِّ ﷺ لِتَعْلَمَ الشَّرَائِعَ، ثُمَّ يَرْجِعُونَ إلَى الْمَوَاطِنِ، وَيُعَلِّمُونَ قَوْمَهُمْ. الْهِجْرَةُ الرَّابِعَةُ: هِجْرَةُ مَنْ أَسْلَمَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ لِيَأْتِيَ إلَى النَّبِيِّ ﷺ ثُمَّ يَرْجِعَ إلَى مَكَّةَ. الْهِجْرَةُ الْخَامِسَةُ: هِجْرَةُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ. وَمَعْنَى الْحَدِيثِ وَحُكْمُهُ يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ، غَيْرَ أَنَّ السَّبَبَ يَقْتَضِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْحَدِيثِ الْهِجْرَةُ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ؛ لِأَنَّهُمْ نَقَلُوا أَنَّ رَجُلًا هَاجَرَ مِنْ مَكَّةَ إلَى الْمَدِينَةِ، لَا يُرِيدُ بِذَلِكَ فَضِيلَةَ الْهِجْرَةِ وَإِنَّمَا هَاجَرَ لِيَتَزَوَّجَ امْرَأَةً تُسَمَّى أُمَّ قَيْسٍ. فَسُمِّيَ مُهَاجِرَ أُمِّ قَيْسٍ وَلِهَذَا خُصَّ فِي الْحَدِيثِ ذِكْرُ الْمَرْأَةِ، دُونَ سَائِرِ مَا تُنْوَى بِهِ الْهِجْرَةُ مِنْ أَفْرَادِ الْأَغْرَاضِ الدُّنْيَوِيَّةِ، ثُمَّ أُتْبِعَ بِالدُّنْيَا. الثَّامِنُ: الْمُتَقَرَّرُ عِنْدَ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ: أَنَّ الشَّرْطَ وَالْجَزَاءَ وَالْمُبْتَدَأَ أَوْ الْخَبَرَ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَتَغَايَرَا. وَهَهُنَا وَقَعَ الِاتِّحَادُ فِي قَوْلِهِ «فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ» وَجَوَابُهُ: أَنَّ التَّقْدِيرَ: فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ نِيَّةً وَقَصْدًا، فَهِجْرَتُهُ إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ حُكْمًا وَشَرْعًا. التَّاسِعُ: شَرَعَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ فِي تَصْنِيفٍ فِي أَسْبَابِ الْحَدِيثِ، كَمَا صُنِّفَ فِي أَسْبَابِ النُّزُولِ لِلْكِتَابِ الْعَزِيزِ. فَوَقَفْتُ مِنْ ذَلِكَ عَلَى شَيْءٍ يَسِيرٍ لَهُ. وَهَذَا الْحَدِيثُ - عَلَى مَا قَدَّمْنَا مِنْ الْحِكَايَةِ عَنْ مُهَاجِرِ أُمِّ قَيْسٍ - وَاقِعٌ عَلَى سَبَبٍ يُدْخِلُهُ فِي هَذَا الْقَبِيلِ. وَتَنْضَمُّ إلَيْهِ نَظَائِرُ كَثِيرَةٌ لِمَنْ قَصَدَ تَتَبُّعَهُ.

1 / 62

٢ - الْحَدِيثُ الثَّانِي: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ» . ــ [إحكام الأحكام] الْعَاشِرُ: فَرْقٌ بَيْنَ قَوْلِنَا " مَنْ نَوَى شَيْئًا لَمْ يَحْصُلْ لَهُ غَيْرُهُ " وَبَيْنَ قَوْلِنَا " مَنْ لَمْ يَنْوِ الشَّيْءَ لَمْ يَحْصُلْ لَهُ " وَالْحَدِيثُ مُحْتَمِلٌ لِلْأَمْرَيْنِ. أَعْنِي قَوْلَهُ ﷺ «إنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ» وَآخِرُهُ يُشِيرُ إلَى الْمَعْنَى الْأَوَّلِ، أَعْنِي قَوْلَهُ «وَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ امْرَأَةٍ يَتَزَوَّجُهَا، فَهِجْرَتُهُ إلَى مَا هَاجَرَ إلَيْهِ» . [حَدِيثُ لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ أَحَدِكُمْ إذَا أَحْدَثَ حَتَّى يَتَوَضَّأَ] " أَبُو هُرَيْرَةَ " فِي اسْمِهِ اخْتِلَافٌ شَدِيدٌ. وَأَشْهُرُهُ: عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَخْرٍ. أَسْلَمَ عَامَ خَيْبَرَ سَنَةَ سَبْعٍ مِنْ الْهِجْرَةِ، وَلَزِمَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ وَكَانَ مِنْ أَحْفَظِ الصَّحَابَةِ، سَكَنَ الْمَدِينَةَ. وَتُوُفِّيَ - قَالَ خَلِيفَةُ: سَنَةَ سَبْعٍ وَخَمْسِينَ. وَقَالَ الْهَيْثَمُ: سَنَةَ ثَمَانٍ، وَقَالَ الْوَاقِدِيُّ: سَنَةَ تِسْعٍ. الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: أَحَدُهَا: " الْقَبُولُ " وَتَفْسِيرُ مَعْنَاهُ. قَدْ اسْتَدَلَّ جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ بِانْتِفَاءِ الْقَبُولِ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ ﷺ «لَا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلَاةَ حَائِضٍ إلَّا بِخِمَارٍ» أَيْ مَنْ بَلَغَتْ سِنَّ الْمَحِيضِ. وَالْمَقْصُودُ بِهَذَا الْحَدِيثِ: الِاسْتِدْلَال عَلَى اشْتِرَاطِ الطَّهَارَةِ مِنْ الْحَدَثِ فِي صِحَّةِ الصَّلَاةِ. وَلَا يَتِمُّ ذَلِكَ إلَّا بِأَنْ يَكُونَ انْتِفَاءُ الْقَبُولِ دَلِيلًا عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ. وَقَدْ حَرَّرَ الْمُتَأَخِّرُونَ فِي هَذَا بَحْثًا. ؛ لِأَنَّ انْتِفَاءَ الْقَبُولِ قَدْ وَرَدَ فِي مَوَاضِعَ مَعَ ثُبُوتِ الصِّحَّةِ، كَالْعَبْدِ إذَا أَبَقَ لَا تُقْبَلُ لَهُ صَلَاةٌ، وَكَمَا وَرَدَ فِيمَنْ أَتَى عَرَّافًا. وَفِي شَارِبِ الْخَمْرِ. فَإِذَا أُرِيدَ تَقْرِيرُ الدَّلِيلِ عَلَى انْتِفَاءِ الصِّحَّةِ مِنْ انْتِفَاءِ الْقَبُولِ. فَلَا بُدَّ مِنْ تَفْسِيرِ مَعْنَى الْقَبُولِ، وَقَدْ فُسِّرَ بِأَنَّهُ تَرَتُّبُ الْغَرَضِ الْمَطْلُوبِ مِنْ الشَّيْءِ عَلَى الشَّيْءِ. يُقَالُ: قَبِلَ فُلَانٌ عُذْرَ فُلَانٍ: إذَا رَتَّبَ عَلَى عُذْرِهِ الْغَرَضَ الْمَطْلُوبَ مِنْهُ. وَهُوَ مَحْوُ الْجِنَايَةِ وَالذَّنْبِ.

1 / 63

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] فَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ فَيُقَالُ، مَثَلًا فِي هَذَا الْمَكَانِ: الْغَرَضُ مِنْ الصَّلَاةِ: وُقُوعُهَا مُجْزِئَةً بِمُطَابَقَتِهَا لِلْأَمْرِ. فَإِذَا حَصَلَ هَذَا الْغَرَضُ: ثَبَتَ الْقَبُولُ، عَلَى مَا ذُكِرَ مِنْ التَّفْسِيرِ. وَإِذَا ثَبَتَ الْقَبُولُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: ثَبَتَتْ الصِّحَّةُ. وَإِذَا انْتَفَى الْقَبُولُ عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: انْتَفَتْ الصِّحَّةُ. وَرُبَّمَا قِيلَ مِنْ جِهَةِ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنَّ " الْقَبُولَ " كَوْنُ الْعِبَادَةِ بِحَيْثُ يَتَرَتَّبُ الثَّوَابُ وَالدَّرَجَاتُ عَلَيْهَا. وَ" الْإِجْزَاءُ " كَوْنُهَا مُطَابِقَةً لِلْأَمْرِ وَالْمَعْنَيَانِ إذَا تَغَايَرَا، وَكَانَ أَحَدُهُمَا أَخَصُّ مِنْ الْآخَرِ: لَمْ يَلْزَمْ مِنْ نَفْيِ الْأَخَصِّ نَفْيِ الْأَعَمِّ. و" الْقَبُولُ " عَلَى هَذَا التَّفْسِيرِ: أَخَصُّ مِنْ الصِّحَّةِ، فَإِنَّ كُلَّ مَقْبُولٍ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ كُلُّ صَحِيحٍ مَقْبُولًا. وَهَذَا - إنْ نَفَعَ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نُفِيَ عَنْهَا الْقَبُولُ مَعَ بَقَاءِ الصِّحَّةِ فَإِنَّهُ يَضُرُّ فِي الِاسْتِدْلَالِ بِنَفْيِ الْقَبُولِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ، كَمَا حَكَيْنَا عَنْ الْأَقْدَمِينَ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُقَالَ: دَلَّ الدَّلِيلُ عَلَى كَوْنِ الْقَبُولِ مِنْ لَوَازِمِ الصِّحَّةِ. فَإِذَا انْتَفَى انْتَفَتْ، فَيَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِنَفْيِ الْقَبُولِ عَلَى نَفْيِ الصِّحَّةِ حِينَئِذٍ. وَيُحْتَاجُ فِي تِلْكَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي نُفِيَ عَنْهَا الْقَبُولُ مَعَ بَقَاءِ الصِّحَّةِ إلَى تَأْوِيلٍ، أَوْ تَخْرِيجِ جَوَابٍ. عَلَى أَنَّهُ يَرُدُّ عَلَى مَنْ فَسَّرَ " الْقَبُولَ " بِكَوْنِ الْعِبَادَةِ مُثَابًا عَلَيْهَا، أَوْ مَرْضِيَّةً، أَوْ مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ - إذَا كَانَ مَقْصُودُهُ بِذَلِكَ: أَنْ لَا يَلْزَمَ مِنْ نَفْي الْقَبُولِ نَفْي الصِّحَّةِ: أَنْ يُقَالَ: الْقَوَاعِدُ الشَّرْعِيَّةُ تَقْتَضِي: أَنَّ الْعِبَادَةَ إذَا أُتِيَ بِهَا مُطَابِقَةً لِلْأَمْرِ كَانَتْ سَبَبًا لِلثَّوَابِ وَالدَّرَجَاتِ وَالْإِجْزَاءِ. وَالظَّوَاهِرُ فِي ذَلِكَ لَا تَنْحَصِرُ. [رَفْع الْحَدَثِ] ١ الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَفْسِيرِ مَعْنَى: " الْحَدَثِ " فَقَدْ يُطْلَقُ بِإِزَاءِ مَعَانٍ ثَلَاثَةٍ: أَحَدُهَا: الْخَارِجُ الْمَخْصُوصُ الَّذِي يَذْكُرُهُ الْفُقَهَاءُ فِي بَابِ نَوَاقِضِ الْوُضُوءِ. وَيَقُولُونَ: الْأَحْدَاثُ كَذَا وَكَذَا. الثَّانِي: نَفْسُ خُرُوجِ ذَلِكَ الْخَارِجِ. الثَّالِثُ: الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْخُرُوجِ. وَبِهَذَا الْمَعْنَى يَصِحُّ قَوْلُنَا " رَفَعْت الْحَدَثَ " وَ" نَوَيْت رَفْعَ الْحَدَثِ " فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْخَارِجِ وَالْخُرُوجِ قَدْ وَقَعَ. وَمَا وَقَعَ يَسْتَحِيلُ رَفْعُهُ، بِمَعْنَى أَنْ لَا يَكُونَ وَاقِعًا. وَأَمَّا الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى الْخُرُوجِ: فَإِنَّ الشَّارِعَ حَكَمَ بِهِ. وَمَدَّ غَايَتَهُ إلَى اسْتِعْمَالِ الْمُكَلَّفِ الطَّهُورَ، فَبِاسْتِعْمَالِهِ يَرْتَفِعُ الْمَنْعُ. فَيَصِحُّ قَوْلُنَا " رَفَعْت الْحَدَثَ " وَ" ارْتَفَعَ الْحَدَثُ " أَيْ

1 / 64

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] ارْتَفَعَ الْمَنْعُ الَّذِي كَانَ مَمْدُودًا إلَى اسْتِعْمَالِ الْمُطَهِّرِ. وَبِهَذَا التَّحْقِيقِ يَقْوَى قَوْلُ مَنْ يَرَى أَنَّ التَّيَمُّمَ يَرْفَعُ الْحَدَثَ. ؛ لِأَنَّا لَمَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْمُرْتَفِعَ: هُوَ الْمَنْعُ مِنْ الْأُمُورِ الْمَخْصُوصَةِ، وَذَلِكَ الْمَنْعُ مُرْتَفِعٌ بِالتَّيَمُّمِ. فَالتَّيَمُّمُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ. غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ: أَنَّ رَفْعَهُ لِلْحَدَثِ مَخْصُوصٌ بِوَقْتٍ مَا، أَوْ بِحَالَةٍ مَا. وَهِيَ عَدَمُ الْمَاءِ. وَلَيْسَ ذَلِكَ بِبِدْعٍ، فَإِنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ مَحَالِّهَا. وَقَدْ كَانَ الْوُضُوءُ فِي صَدْرِ الْإِسْلَامِ وَاجِبًا لِكُلِّ صَلَاةٍ، عَلَى مَا حَكَوْهُ وَلَا نَشُكُّ أَنَّهُ كَانَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ فِي وَقْتٍ مَخْصُوصٍ. وَهُوَ وَقْتُ الصَّلَاةِ. وَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ انْتِهَائِهِ بِانْتِهَاءِ وَقْتِ الصَّلَاةِ فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ: أَنْ لَا يَكُونَ رَافِعًا لِلْحَدَثِ. ثُمَّ نُسِخَ ذَلِكَ الْحُكْمُ عِنْدَ الْأَكْثَرِينَ. وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِهِمْ؛ أَنَّهُ مُسْتَمِرٌّ. وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَقُولُ: إنَّ الْوُضُوءَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ. نَعَمْ هَهُنَا مَعْنًى رَابِعٌ، يَدَّعِيهِ كَثِيرٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ وَصْفٌ حُكْمِيٌّ مُقَدَّرٌ قِيَامُهُ بِالْأَعْضَاءِ عَلَى مُقْتَضَى الْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ. وَيُنْزِلُونَ ذَلِكَ الْحُكْمِيَّ مَنْزِلَةَ الْحِسِّيِّ فِي قِيَامِهِ بِالْأَعْضَاءِ. فَمَا نَقُولُ: إنَّهُ يَرْفَعُ الْحَدَثَ - كَالْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ - يُزِيلُ ذَلِكَ الْأَمْرَ الْحُكْمِيَّ. فَيَزُولُ الْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ الْأَمْرِ الْمُقَدَّرِ الْحُكْمِيِّ. وَمَا نَقُولُ بِأَنَّهُ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، فَذَلِكَ الْمَعْنَى الْمُقَدَّرُ الْقَائِمُ بِالْأَعْضَاءِ حُكْمًا بَاقٍ لَمْ يَزُلْ. وَالْمَنْعُ الْمُرَتَّبُ عَلَيْهِ زَائِلٌ. فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ نَقُولُ: إنَّ التَّيَمُّمَ لَا يَرْفَعُ الْحَدَثَ، بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَزُلْ ذَلِكَ الْوَصْفُ الْحُكْمِيُّ الْمُقَدَّرُ وَإِنْ كَانَ الْمَنْعُ زَائِلًا. وَحَاصِلُ هَذَا: أَنَّهُمْ أَبْدَوْا لِلْحَدَثِ مَعْنًى رَابِعًا، غَيْرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ الثَّلَاثَةِ الْمَعَانِي. وَجَعَلُوهُ مُقَدَّرًا قَائِمًا بِالْأَعْضَاءِ حُكْمًا، كَالْأَوْصَافِ الْحِسِّيَّةِ، وَهُمْ مُطَالَبُونَ بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ يَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ هَذَا الْمَعْنَى الرَّابِعِ، الَّذِي ادَّعَوْهُ مُقَدَّرًا قَائِمًا بِالْأَعْضَاءِ، فَإِنَّهُ مَنْفِيٌّ بِالْحَقِيقَةِ، وَالْأَصْلُ مُوَافَقَةُ الشَّرْعِ لَهَا، وَيَبْعُدُ أَنْ يَأْتُوا بِدَلِيلٍ عَلَى ذَلِكَ. وَأَقْرَبُ مَا يُذْكَرُ فِيهِ: أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ قَدْ انْتَقَلَ إلَيْهِ الْمَانِعُ، كَمَا يُقَالُ، وَالْمَسْأَلَةُ مُتَنَازَعٌ فِيهَا. فَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ بِطَهُورِيَّةِ الْمَاءِ الْمُسْتَعْمَلِ. وَلَوْ قِيلَ بِعَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ أَوْ بِنَجَاسَتِهِ: لَمْ يَلْزَمْ مِنْهُ انْتِقَالُ مَانِعٍ إلَيْهِ. فَلَا يَتِمُّ الدَّلِيلُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. الْوَجْهُ الثَّالِثُ: اسْتَعْمَلَ الْفُقَهَاءُ " الْحَدَثَ " عَامًّا فِيمَا يُوجِبُ الطَّهَارَةَ، فَإِذَا حُمِلَ الْحَدِيثُ عَلَيْهِ - أَعْنِي قَوْلَهُ «إذَا أَحْدَثَ» - جَمَعَ أَنْوَاعَ النَّوَاقِضِ عَلَى

1 / 65

٣ - الْحَدِيثُ الثَّالِثُ: عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَعَائِشَةَ ﵃ قَالُوا: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» . ــ [إحكام الأحكام] مُقْتَضَى هَذَا الِاسْتِعْمَالِ، لَكِنْ أَبُو هُرَيْرَةَ قَدْ فَسَّرَ الْحَدَثَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ - لَمَّا سُئِلَ عَنْهُ - بِأَخَصَّ مِنْ هَذَا الِاصْطِلَاحِ، وَهُوَ الرِّيحُ، إمَّا بِصَوْتٍ أَوْ بِغَيْرِ صَوْتٍ، فَقِيلَ لَهُ: " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، مَا الْحَدَثُ؟ فَقَالَ: فُسَاءٌ أَوْ ضُرَاطٌ " وَلَعَلَّهُ قَامَتْ لَهُ قَرَائِنُ حَالِيَّةٌ اقْتَضَتْ هَذَا التَّخْصِيصَ. الْوَجْهُ الرَّابِعُ: اُسْتُدِلَّ بِهَذَا الْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ الْوُضُوءَ لَا يَجِبُ لِكُلِّ صَلَاةٍ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ بِهِ: أَنَّهُ ﷺ نَفَى الْقَبُولَ مُمْتَدًّا إلَى غَايَةِ الْوُضُوءِ. وَمَا بَعْدَ الْغَايَةِ مُخَالِفٌ لِمَا قَبْلَهَا. فَيَقْتَضِي ذَلِكَ قَبُولَ الصَّلَاةِ بَعْدَ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا. وَتَدْخُلُ تَحْتَهُ الصَّلَاةُ الثَّانِيَةُ قَبْلَ الْوُضُوءِ لَهَا ثَانِيًا. [حَدِيثُ وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ] الْحَدِيثُ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ تَعْمِيمِ الْأَعْضَاءِ بِالْمُطَهِّرِ، وَأَنْ تَرْكَ الْبَعْضِ مِنْهَا غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَنَصُّهُ إنَّمَا هُوَ فِي الْأَعْقَابِ. وَسَبَبُ التَّخْصِيصِ: أَنَّهُ وَرَدَ عَلَى سَبَبٍ. وَهُوَ أَنَّهُ ﷺ " رَأَى قَوْمًا وَأَعْقَابُهُمْ تَلُوحُ ". وَالْأَلِفُ وَاللَّامُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ لِلْعَهْدِ. وَالْمُرَادُ: الْأَعْقَابُ الَّتِي رَآهَا كَذَلِكَ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا تُخَصَّ بِتِلْكَ الْأَعْقَابِ الَّتِي رَآهَا كَذَلِكَ. وَتَكُونُ الْأَعْقَابُ الَّتِي صِفَتُهَا هَذِهِ الصِّفَةُ، أَيْ الَّتِي لَا تُعَمَّمُ بِالْمُطَهِّرِ. وَلَا يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِلْعُمُومِ الْمُطْلَقِ. وَقَدْ وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «رَآنَا وَنَحْنُ نَمْسَحُ عَلَى أَرْجُلِنَا فَقَالَ: وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ» فَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ مَسْحَ الْأَرْجُلِ غَيْرُ مُجْزِئٍ. وَهُوَ عِنْدِي لَيْسَ بِجَيِّدٍ. ؛ لِأَنَّهُ قَدْ فُسِّرَ فِي الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى " أَنَّ الْأَعْقَابَ كَانَتْ تَلُوحُ لَمْ يَمَسَّهَا الْمَاءُ " وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا مُوجِبٌ لِلْوَعِيدِ بِالِاتِّفَاقِ.

1 / 66

٤ - الْحَدِيثُ الرَّابِعُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ «إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً، ثُمَّ لِيَنْتَثِرْ، وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ، وَإِذَا اسْتَيْقَظَ أَحَدُكُمْ مِنْ نَوْمِهِ فَلْيَغْسِلْ يَدَيْهِ قَبْلَ أَنْ يُدْخِلَهُمَا فِي الْإِنَاءِ ثَلَاثًا فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ» . وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ «فَلْيَسْتَنْشِقْ بِمَنْخِرَيْهِ مِنْ الْمَاءِ» وَفِي لَفْظٍ «مَنْ تَوَضَّأَ فَلْيَسْتَنْشِقْ» . ــ [إحكام الأحكام] وَاَلَّذِينَ اسْتَدَلُّوا عَلَى أَنَّ الْمَسْحَ غَيْرُ مُجْزِئٍ إنَّمَا اعْتَبَرُوا لَفْظَ هَذِهِ الرِّوَايَةِ فَقَطْ، وَقَدْ رُتِّبَ فِيهَا الْوَعِيدُ عَلَى مُسَمَّى الْمَسْحِ. وَلَيْسَ فِيهَا تَرْكُ بَعْضِ الْعُضْوِ. وَالصَّوَابُ - إذَا جُمِعَتْ طُرُقُ الْحَدِيثِ -: أَنْ يَسْتَدِلُّ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، وَيُجْمَعُ مَا يُمْكِنُ جَمْعُهُ. فَبِهِ يَظْهَرُ الْمُرَادُ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. وَيُسْتَدَلُّ بِالْحَدِيثِ عَلَى أَنَّ " الْعَقِبَ " مَحَلٌّ لِلتَّطْهِيرِ، فَيَبْطُلُ قَوْلُ مَنْ يَكْتَفِي بِالتَّطْهِيرِ فِيمَا دُونَ ذَلِكَ. [حَدِيثُ إذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ مَاءً] فِيهِ مَسَائِلُ: الْأُولَى: فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ: " فَلْيَجْعَلْ فِي أَنْفِهِ " وَلَمْ يَقُلْ " مَاءً " وَهُوَ مُبَيَّنٌ فِي غَيْرِهَا وَتَرَكَهُ لِدَلَالَةِ الْكَلَامِ عَلَيْهِ. الثَّانِيَةُ: تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ يَرَى وُجُوبَ الِاسْتِنْشَاقِ، وَهُوَ مَذْهَبُ أَحْمَدَ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ وَمَالِكٍ: عَدَمُ الْوُجُوبِ. وَحَمَلَا الْأَمْرَ عَلَى النَّدْبِ، بِدَلَالَةِ مَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ ﷺ لِلْأَعْرَابِيِّ «تَوَضَّأْ كَمَا أَمَرَكَ اللَّهُ» فَأَحَالَهُ عَلَى الْآيَةِ. وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الِاسْتِنْشَاقِ. الثَّالِثَةُ: الْمَعْرُوفُ أَنَّ " الِاسْتِنْشَاقَ " جَذْبُ الْمَاءِ إلَى الْأَنْفِ.

1 / 67

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] وَ" الِاسْتِنْثَارُ " دَفْعُهُ لِلْخُرُوجِ. وَمِنْ النَّاسِ مَنْ جَعَلَ الِاسْتِنْثَارَ لَفْظًا يَدُلُّ عَلَى الِاسْتِنْشَاقِ الَّذِي هُوَ الْجَذْبُ وَأَخَذَهُ مِنْ النَّثْرَةِ، وَهِيَ طَرَفُ الْأَنْفِ. وَالِاسْتِفْعَالُ مِنْهَا يَدْخُلُ تَحْتَهُ الْجَذْبُ وَالدَّفْعُ مَعًا. وَالصَّحِيحُ: هُوَ الْأَوَّلُ. ؛ لِأَنَّهُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَهُمَا فِي حَدِيثٍ وَاحِدٍ وَذَلِكَ يَقْتَضِي التَّغَايُرَ. [اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِطَابَةِ] ١ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ ﷺ «وَمَنْ اسْتَجْمَرَ فَلْيُوتِرْ» الظَّاهِرُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ: اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ فِي الِاسْتِطَابَةِ وَإِيتَارٌ فِيهَا بِالثَّلَاثِ وَاجِبٌ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ. فَإِنَّ الْوَاجِبَ عِنْدَهُ ﵀ فِي الِاسْتِجْمَارِ أَمْرَانِ. أَحَدُهُمَا: إزَالَةُ الْعَيْنِ. وَالثَّانِي: اسْتِيفَاءُ ثَلَاثِ مَسَحَاتٍ. وَظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. لَكِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى الْإِيتَارِ بِالثَّلَاثِ. فَيُؤْخَذُ مِنْ حَدِيثٍ آخَرَ. وَقَدْ حَمَلَ بَعْضُ النَّاسِ الِاسْتِجْمَارَ عَلَى اسْتِعْمَالِ الْبَخُورِ لِلتَّطَيُّبِ. فَإِنَّهُ يُقَالُ فِيهِ: تَجَمَّرَ وَاسْتَجْمَرَ. فَيَكُونُ الْأَمْرُ لِلنَّدْبِ عَلَى هَذَا. وَالظَّاهِرُ: هُوَ الْأَوَّلُ، أَعْنِي أَنَّ الْمُرَادَ: هُوَ اسْتِعْمَالُ الْأَحْجَارِ. [غَسْل الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ] ١ الْخَامِسَةُ: ذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى وُجُوبِ غَسْلِ الْيَدَيْنِ قَبْلَ إدْخَالِهِمَا فِي الْإِنَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ، عِنْدَ الِاسْتِيقَاظِ مِنْ النَّوْمِ، لِظَاهِرِ الْأَمْرِ. وَلَا يُفَرِّقُ هَؤُلَاءِ بَيْنَ نَوْمِ اللَّيْلِ وَنَوْمِ النَّهَارِ، لِإِطْلَاقِ قَوْلِهِ ﷺ «إذَا اسْتَيْقَظَ مِنْ نَوْمِهِ» وَذَهَبَ أَحْمَدُ إلَى وُجُوبِ ذَلِكَ مِنْ نَوْمِ اللَّيْلِ، دُونَ نَوْمِ النَّهَارِ. لِقَوْلِهِ ﷺ «أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟» وَالْمَبِيتُ يَكُونُ بِاللَّيْلِ. وَذَهَبَ غَيْرُهُمْ إلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا. وَهُوَ مَذْهَبُ مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ. وَالْأَمْرُ مَحْمُولٌ عَلَى النَّدْبِ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِوَجْهَيْنِ. أَحَدُهُمَا: مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ الْأَعْرَابِيِّ.

1 / 68

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] وَالثَّانِي: أَنَّ الْأَمْرَ - وَإِنْ كَانَ ظَاهِرَهُ الْوُجُوبُ - إلَّا أَنَّهُ يُصْرَفُ عَنْ الظَّاهِرِ لِقَرِينَةٍ وَدَلِيلٍ، وَقَدْ دَلَّ الدَّلِيلُ، وَقَامَتْ الْقَرِينَةُ هَهُنَا. فَإِنَّهُ ﷺ عَلَّلَ بِأَمْرٍ يَقْتَضِي الشَّكَّ. وَهُوَ قَوْلُهُ «فَإِنَّهُ لَا يَدْرِي أَيْنَ بَاتَتْ يَدُهُ؟» وَالْقَوَاعِدُ تَقْتَضِي أَنَّ الشَّكَّ لَا يَقْتَضِي وُجُوبًا فِي الْحُكْمِ، إذَا كَانَ الْأَصْلُ الْمُسْتَصْحَبُ عَلَى خِلَافِهِ مَوْجُودًا. وَالْأَصْلُ: الطَّهَارَةُ فِي الْيَدِ، فَلْتُسْتَصْحَبْ [وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ مَسْأَلَةِ الصَّيْدِ] . السَّادِسَةُ، قِيلَ: إنَّ سَبَبَ هَذَا الْأَمْرِ: أَنَّهُمْ كَانُوا يَسْتَنْجُونَ بِالْأَحْجَارِ، فَرُبَّمَا وَقَعَتْ الْيَدُ عَلَى الْمَحِلِّ وَهُوَ عَرِقٌ، فَتَنَجَّسَتْ. فَإِذَا وُضِعَتْ فِي الْمَاءِ نَجَّسَتْهُ؛ لِأَنَّ الْمَاءَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيثِ: هُوَ مَا يَكُونُ فِي الْأَوَانِي الَّتِي يُتَوَضَّأُ مِنْهَا. وَالْغَالِبُ عَلَيْهَا الْقِلَّةُ. وَقِيلَ: إنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَخْلُو مِنْ حَكِّ بَثْرَةٍ فِي جِسْمِهِ، أَوْ مُصَادَفَةِ حَيَوَانٍ ذِي دَمٍ فَيَقْتُلُهُ، فَيَتَعَلَّقُ دَمُهُ بِيَدِهِ. السَّابِعَةُ: الَّذِينَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّ الْأَمْرَ لِلِاسْتِحْبَابِ: اسْتَحَبُّوا غَسْلَ الْيَدِ قَبْلَ إدْخَالِهَا فِي الْإِنَاءِ فِي ابْتِدَاءِ الْوُضُوءِ مُطْلَقًا، سَوَاءً قَامَ مِنْ النَّوْمِ أَمْ لَا. وَلَهُمْ فِيهِ مَأْخَذَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّ ذَلِكَ: وَارِدٌ فِي صِفَةِ وُضُوءِ النَّبِيِّ ﷺ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِسَبْقِ نَوْمٍ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي عُلِّلَ بِهِ فِي الْحَدِيثِ - وَهُوَ جَوَلَان الْيَدِ مَوْجُودٌ فِي حَالِ الْيَقَظَةِ. فَيَعُمُّ الْحُكْمُ لِعُمُومِ عِلَّتِهِ. الثَّامِنَةُ: فَرَّقَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، أَوْ مَنْ فَرَّقَ مِنْهُمْ، بَيْنَ حَالِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ وَغَيْرِ الْمُسْتَيْقِظِ. فَقَالُوا فِي الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ: يُكْرَهُ أَنْ يَغْمِسَ يَدَهُ فِي الْإِنَاءِ، قَبْلَ غَسْلِهَا ثَلَاثًا. وَفِي غَيْرِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ: يُسْتَحَبُّ لَهُ غَسْلُهَا، قَبْلَ إدْخَالِهَا فِي الْإِنَاءِ. وَلْيُعْلَمْ الْفَرْقُ بَيْنَ قَوْلِنَا " يُسْتَحَبُّ فِعْلُ كَذَا " وَبَيْنَ قَوْلِنَا " يُكْرَهُ تَرْكُهُ " فَلَا تَلَازُمَ بَيْنَهُمَا. فَقَدْ يَكُونُ الشَّيْءُ مُسْتَحَبَّ الْفِعْلِ، وَلَا يَكُونُ مَكْرُوهَ التَّرْكِ، كَصَلَاةِ

1 / 69

٥ - الْحَدِيثُ الْخَامِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ الَّذِي لَا يَجْرِي، ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ» وَلِمُسْلِمٍ «لَا يَغْتَسِلُ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» . ــ [إحكام الأحكام] الضُّحَى مَثَلًا، وَكَثِيرٍ مِنْ النَّوَافِلِ. فَغَسْلُهَا لِغَيْرِ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ، قَبْلَ إدْخَالِهَا الْإِنَاءَ: مِنْ الْمُسْتَحَبَّاتِ. وَتَرْكُ غَسْلِهَا لِلْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ: مِنْ الْمَكْرُوهَاتِ. وَقَدْ وَرَدَتْ صِيغَةُ النَّهْيِ عَنْ إدْخَالِهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ الْغَسْلِ فِي حَقِّ الْمُسْتَيْقِظِ مِنْ النَّوْمِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْكَرَاهَةَ عَلَى أَقَلِّ الدَّرَجَاتِ. وَهَذِهِ التَّفْرِقَةُ هِيَ الْأَظْهَرُ. [وُرُود الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ] التَّاسِعَةُ: اُسْتُنْبِطَ مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ: الْفَرْقُ بَيْنَ وُرُودِ الْمَاءِ عَلَى النَّجَاسَةِ، وَوُرُودِ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ. وَوَجْهُ ذَلِكَ: أَنَّهُ قَدْ نَهَى عَنْ إدْخَالِهَا فِي الْإِنَاءِ قَبْلَ غَسْلِهَا، لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي: أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ. وَأَمَرَ بِغَسْلِهَا بِإِفْرَاغِ الْمَاءِ عَلَيْهَا لِلتَّطْهِيرِ. وَذَلِكَ يَقْتَضِي: أَنَّ مُلَاقَاتَهَا لِلْمَاءِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ غَيْرُ مُفْسِدٍ لَهُ بِمُجَرَّدِ الْمُلَاقَاةِ، وَإِلَّا لَمَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ التَّطْهِيرِ. [الْمَاءَ الْقَلِيلَ يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ] ١ الْعَاشِرَةُ: اُسْتُنْبِطَ مِنْهُ: أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ يَنْجَسُ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ. فَإِنَّهُ مُنِعَ مِنْ إدْخَالِ الْيَدِ فِيهِ، لِاحْتِمَالِ النَّجَاسَةِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَيَقُّنَهَا مُؤَثِّرٌ فِيهِ، وَإِلَّا لَمَا اقْتَضَى احْتِمَالُ النَّجَاسَةِ الْمَنْعَ. وَفِيهِ نَظَرٌ عِنْدِي. ؛ لِأَنَّ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ: أَنَّ وُرُودَ النَّجَاسَةِ عَلَى الْمَاءِ مُؤَثِّرٌ فِيهِ، وَمُطْلَقُ التَّأْثِيرِ أَعَمُّ مِنْ التَّأْثِيرِ بِالتَّنْجِيسِ. وَلَا يَلْزَمُ مِنْ ثُبُوتِ الْأَعَمِّ ثُبُوتُ الْأَخَصِّ الْمُعَيَّنِ. فَإِذَا سَلَّمَ الْخَصْمُ أَنَّ الْمَاءَ الْقَلِيلَ بِوُقُوعِ النَّجَاسَةِ فِيهِ يَكُونُ مَكْرُوهًا، فَقَدْ ثَبَتَ مُطْلَقُ التَّأْثِيرِ. فَلَا يَلْزَمُ مِنْهُ ثُبُوتُ خُصُوصِ التَّأْثِيرِ بِالتَّنْجِيسِ. وَقَدْ يُورَدُ عَلَيْهِ: أَنَّ الْكَرَاهَةَ ثَابِتَةٌ عِنْدَ التَّوَهُّمِ. فَلَا يَكُونُ أَثَرُ الْيَقِينِ هُوَ الْكَرَاهَةُ. وَيُجَابُ عَنْهُ: بِأَنَّهُ ثَبَتَ عِنْدَ الْيَقِينِ زِيَادَةٌ فِي رُتْبَةِ الْكَرَاهَةِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

1 / 70

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] [حَدِيثُ لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ] الْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: " الْمَاءُ الدَّائِمُ " هُوَ الرَّاكِدُ. وَقَوْلُهُ " الَّذِي لَا يَجْرِي " تَأْكِيدٌ لِمَعْنَى الدَّائِمِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ مِمَّا يَسْتَدِلُّ بِهِ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى تَنْجِيسِ الْمَاءِ الرَّاكِدِ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ؛ فَإِنَّ الصِّيغَةَ صِيغَةُ عُمُومٍ. وَأَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: يَخُصُّونَ هَذَا الْعُمُومَ، وَيَحْمِلُونَ النَّهْيَ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ. وَيَقُولُونَ بِعَدَمِ تَنْجِيسِ الْقُلَّتَيْنِ - فَمَا زَادَ - إلَّا بِالتَّغَيُّرِ: مَأْخُوذٌ مِنْ حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ. فَيُحْمَلُ هَذَا الْحَدِيثُ الْعَامُّ فِي النَّهْيِ عَلَى مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ، جَمْعًا بَيْنَ الْحَدِيثَيْنِ. فَإِنَّ حَدِيثَ الْقُلَّتَيْنِ يَقْتَضِي عَدَمَ تَنْجِيسِ الْقُلَّتَيْنِ فَمَا فَوْقَهُمَا. وَذَلِكَ أَخَصُّ مِنْ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْعَامِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ. وَالْخَاصُّ مُقَدَّمٌ عَلَى الْعَامِّ. وَلِأَحْمَدَ طَرِيقَةٌ أُخْرَى: وَهِيَ الْفَرْقُ بَيْنَ بَوْلِ الْآدَمِيِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ، مِنْ عَذِرَتِهِ الْمَائِعَةِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ النَّجَاسَاتِ. فَأَمَّا بَوْلُ الْآدَمِيِّ، وَمَا فِي مَعْنَاهُ: فَيُنَجِّسُ الْمَاءَ، وَإِنْ كَانَ أَكْثَرَ مِنْ قُلَّتَيْنِ. وَأَمَّا غَيْرُهُ مِنْ النَّجَاسَاتِ: فَتُعْتَبَرُ فِيهِ الْقُلَّتَانِ، وَكَأَنَّهُ رَأَى الْخَبَثَ الْمَذْكُورَ فِي حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ عَامًّا بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَنْجَاسِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ خَاصٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى بَوْلِ الْآدَمِيِّ. فَيُقَدَّمُ الْخَاصُّ عَلَى الْعَامِّ، بِالنِّسْبَةِ إلَى النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْمَاءِ الْكَثِيرِ. وَيَخْرُجُ بَوْلُ الْآدَمِيِّ وَمَا فِي مَعْنَاهُ مِنْ جُمْلَةِ النَّجَاسَاتِ الْوَاقِعَةِ فِي الْقُلَّتَيْنِ بِخُصُوصِهِ. فَيُنَجِّسُ الْمَاءَ دُونَ غَيْرِهِ مِنْ النَّجَاسَاتِ. وَيَلْحَقُ بِالْبَوْلِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ: مَا يُعْلَمُ أَنَّهُ فِي مَعْنَاهُ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا بُدَّ مِنْ إخْرَاجِهِ عَنْ ظَاهِرِهِ بِالتَّخْصِيصِ أَوْ التَّقْيِيدِ. ؛ لِأَنَّ الِاتِّفَاقَ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَبْحِرَ الْكَثِيرَ جِدًّا: لَا تُؤَثِّرُ فِيهِ النَّجَاسَةُ. وَالِاتِّفَاقُ وَاقِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ إذَا غَيَّرَتْهُ النَّجَاسَةُ: امْتَنَعَ اسْتِعْمَالُهُ. فَمَالِكٌ ﵀

1 / 71

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] إذَا حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ - لِاعْتِقَادِهِ أَنَّ الْمَاءَ لَا يَنْجَسُ إلَّا بِالتَّغَيُّرِ - لَا بُدَّ أَنْ يَخْرُجَ عَنْهُ صُورَةُ التَّغَيُّرِ بِالنَّجَاسَةِ، أَعْنِي عَنْ الْحُكْمِ بِالْكَرَاهِيَةِ، فَإِنَّ الْحُكْمَ ثَمَّ: التَّحْرِيمُ، فَإِذًا لَا بُدَّ مِنْ الْخُرُوجِ عَنْ الظَّاهِرِ عِنْدَ الْكُلِّ. فَلِأَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ يَقُولُوا: خَرَجَ عَنْهُ الْمُسْتَبْحِرُ الْكَثِيرُ جِدًّا بِالْإِجْمَاعِ، فَيَبْقَى مَا عَدَاهُ عَلَى حُكْمِ النَّصِّ، فَيَدْخُلُ تَحْتَهُ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ. وَيَقُولُ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ: خَرَجَ الْكَثِيرُ الْمُسْتَبْحِرُ بِالْإِجْمَاعِ الَّذِي ذَكَرْتُمُوهُ. وَخَرَجَ الْقُلَّتَانِ فَمَا زَادَ، بِمُقْتَضَى حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ، فَيَبْقَى مَا نَقَصَ عَنْ الْقُلَّتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ. وَيَقُولُ مَنْ نَصَرَ قَوْلَ أَحْمَدَ الْمَذْكُورِ: خَرَجَ مَا ذَكَرْتُمُوهُ، وَبَقِيَ مَا دُونَ الْقُلَّتَيْنِ دَاخِلًا تَحْتَ النَّصِّ، إلَّا أَنَّ مَا زَادَ عَلَى الْقُلَّتَيْنِ، مُقْتَضَى حَدِيثِ الْقُلَّتَيْنِ فِيهِ عَامٌّ فِي الْأَنْجَاسِ، فَيُخَصُّ بِبَوْلِ الْآدَمِيِّ. وَلِمُخَالِفِهِمْ أَنْ يَقُولَ: قَدْ عَلِمْنَا جَزْمًا أَنَّ هَذَا النَّهْيَ إنَّمَا هُوَ لِمَعْنًى فِي النَّجَاسَةِ، وَعَدَمِ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ بِمَا خَالَطَهَا. وَهَذَا الْمَعْنَى يَسْتَوِي فِيهِ سَائِرُ الْأَنْجَاسِ، وَلَا يَتَّجِهُ تَخْصِيصُ بَوْلِ الْآدَمِيِّ مِنْهَا، بِالنِّسْبَةِ إلَى هَذَا الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْمُنَاسِبَ لِهَذَا الْمَعْنَى - أَعْنِي التَّنَزُّهَ عَنْ الْأَقْذَارِ - أَنْ يَكُونَ مَا هُوَ أَشَدُّ اسْتِقْذَارًا أَوْقَعَ فِي هَذَا الْمَعْنَى وَأَنْسَبَ لَهُ، وَلَيْسَ بَوْلُ الْآدَمِيِّ بِأَقْذَرَ مِنْ سَائِرِ النَّجَاسَاتِ، بَلْ قَدْ يُسَاوِيهِ غَيْرُهُ، أَوْ يَرْجَحُ عَلَيْهِ فَلَا يَبْقَى لِتَخْصِيصِهِ دُونَ غَيْرِهِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَنْعِ مَعْنًى. فَيُحْمَلُ الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ ذِكْرَ الْبَوْلِ وَرَدَ تَنْبِيهًا عَلَى غَيْرِهِ، مِمَّا يُشَارِكُهُ فِي مَعْنَاهُ مِنْ الِاسْتِقْذَارِ. وَالْوُقُوفُ عَلَى مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ هَهُنَا - مَعَ وُضُوحِ الْمَعْنَى، وَشُمُولِهِ لِسَائِرِ الْأَنْجَاسِ - ظَاهِرِيَّةٌ مَحْضَةٌ. وَأَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -: فَإِذَا حَمَلَ النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهِيَةِ يَسْتَمِرُّ حُكْمُ الْحَدِيثِ فِي الْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، غَيْرِ الْمُسْتَثْنَى بِالِاتِّفَاقِ [وَهُوَ الْمُسْتَبْحِرُ] مَعَ حُصُولِ الْإِجْمَاعِ عَلَى تَحْرِيمِ الِاغْتِسَالِ بَعْدَ تَغَيُّرِ الْمَاءِ بِالْبَوْلِ. فَهَذَا يَلْتَفِتُ إلَى حَمْلِ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ إلَى مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ أُصُولِيَّةٌ. فَإِنْ جَعَلْنَا النَّهْيَ لِلتَّحْرِيمِ: كَانَ اسْتِعْمَالُهُ فِي الْكَرَاهَةِ وَالتَّحْرِيمِ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي حَقِيقَتِهِ وَمَجَازِهِ. وَالْأَكْثَرُونَ عَلَى مَنْعِهِ. وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

1 / 72

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] وَقَدْ يُقَالُ عَلَى هَذَا: إنَّ حَالَةَ التَّغَيُّرِ مَأْخُوذَةٌ مِنْ غَيْرِ هَذَا اللَّفْظِ. فَلَا يَلْزَمُ اسْتِعْمَالُ اللَّفْظِ الْوَاحِدِ فِي مَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ. وَهَذَا مُتَّجِهٌ، إلَّا أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ التَّخْصِيصُ فِي هَذَا الْحَدِيثِ. وَالْمُخَصِّصُ: الْإِجْمَاعُ عَلَى نَجَاسَةِ الْمُتَغَيِّرِ] . الْوَجْهُ الثَّانِي: اعْلَمْ أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الِاغْتِسَالِ لَا يَخُصُّ الْغُسْلَ، بَلْ التَّوَضُّؤُ فِي مَعْنَاهُ. وَقَدْ وَرَدَ مُصَرَّحًا بِهِ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ «لَا يَبُولَنَّ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ، ثُمَّ يَتَوَضَّأُ مِنْهُ» وَلَوْ لَمْ يَرِدْ لَكَانَ مَعْلُومًا قَطْعًا، لِاسْتِوَاءِ الْوُضُوءِ وَالْغُسْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، لِفَهْمِ الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرْنَاهُ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: التَّنَزُّهُ عَنْ التَّقَرُّبِ إلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ بِالْمُسْتَقْذِرَاتِ. الثَّالِثُ: وَرَدَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " ثُمَّ يَغْتَسِلُ مِنْهُ " وَفِي بَعْضِهَا " ثُمَّ يَغْتَسِلُ فِيهِ " وَمَعْنَاهُمَا مُخْتَلِفٌ، يُفِيدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حُكْمًا بِطَرِيقِ النَّصِّ وَآخَرَ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ، وَلَوْ لَمْ يَرِدْ فِيهِ لَفْظَةُ " فِيهِ " لَاسْتَوَيَا، لِمَا ذَكَرْنَا. الرَّابِعُ: مِمَّا يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ قَطْعًا: مَا ذَهَبَتْ إلَيْهِ الظَّاهِرِيَّةُ الْجَامِدَةُ: مِنْ أَنَّ الْحُكْمَ مَخْصُوصٌ بِالْبَوْلِ فِي الْمَاءِ حَتَّى لَوْ بَالَ فِي كُوزٍ وَصَبَّهُ فِي الْمَاءِ: لَمْ يَضُرَّ عِنْدَهُمْ. أَوْ لَوْ بَالَ خَارِجَ الْمَاءِ فَجَرَى الْبَوْلُ إلَى الْمَاءِ: لَمْ يَضُرَّ عِنْدَهُمْ أَيْضًا. وَالْعِلْمُ الْقَطْعِيُّ حَاصِلٌ بِبُطْلَانِ قَوْلِهِمْ. لِاسْتِوَاءِ الْأَمْرَيْنِ فِي الْحُصُولِ فِي الْمَاءِ وَأَنَّ الْمَقْصُودَ: اجْتِنَابُ مَا وَقَعَتْ فِيهِ النَّجَاسَةُ مِنْ الْمَاءِ. وَلَيْسَ هَذَا مِنْ مَجَالِ الظُّنُونِ، بَلْ هُوَ مَقْطُوعٌ بِهِ. وَأَمَّا الرِّوَايَةُ الثَّانِيَةُ: وَهِيَ قَوْلُهُ ﷺ «لَا يَغْتَسِلْ أَحَدُكُمْ فِي الْمَاءِ الدَّائِمِ وَهُوَ جُنُبٌ» فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَسْأَلَةِ الْمُسْتَعْمَلِ وَأَنَّ الِاغْتِسَالَ فِي الْمَاءِ يُفْسِدُهُ. ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ وَارِدٌ هَهُنَا عَلَى مُجَرَّدِ الْغُسْلِ. فَدَلَّ عَلَى وُقُوعِ الْمَفْسَدَةِ بِمُجَرَّدِهِ. وَهِيَ

1 / 73

٦ - الْحَدِيثُ السَّادِسُ: عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ﵁: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ «إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا» وَلِمُسْلِمٍ «أُولَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» وَلَهُ فِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُغَفَّلٍ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ: قَالَ: «إذَا وَلَغَ الْكَلْبُ فِي الْإِنَاءِ فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» . ــ [إحكام الأحكام] خُرُوجُهُ عَنْ كَوْنِهِ أَهْلًا لِلتَّطْهِيرِ بِهِ: إمَّا لِنَجَاسَتِهِ، أَوْ لِعَدَمِ طَهُورِيَّتِهِ وَمَعَ هَذَا فَلَا بُدَّ فِيهِ مِنْ التَّخْصِيصِ. فَإِنَّ الْمَاءَ الْكَثِيرَ - إمَّا الْقُلَّتَانِ فَمَا زَادَ عَلَى مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، أَوْ الْمُسْتَبْحِرُ عَلَى مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ - لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الِاسْتِعْمَالُ. وَمَالِكٌ لِمَا رَأَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُسْتَعْمَلَ طَهُورٌ، غَيْرَ أَنَّهُ مَكْرُوهٌ: يَحْمِلُ هَذَا النَّهْيَ عَلَى الْكَرَاهَةِ. وَقَدْ يُرَجِّحُهُ: أَنَّ وُجُوهَ الِانْتِفَاعِ بِالْمَاءِ لَا تَخْتَصُّ بِالتَّطْهِيرِ. وَالْحَدِيثُ عَامٌّ فِي النَّهْيِ. فَإِذَا حُمِلَ عَلَى التَّحْرِيمِ لِمَفْسَدَةِ خُرُوجِ الْمَاءِ عَنْ الطَّهُورِيَّةِ: لَمْ يُنَاسَبْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ بَعْضَ مَصَالِحِ الْمَاءِ تَبْقَى بَعْدَ كَوْنِهِ خَارِجًا عَنْ الطَّهُورِيَّةِ، وَإِذَا حُمِلَ عَلَى الْكَرَاهَةِ: كَانَتْ الْمَفْسَدَةُ عَامَّةً؛ لِأَنَّهُ يُسْتَقْذَرُ بَعْدَ الِاغْتِسَالِ فِيهِ. وَذَلِكَ ضَرَرٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَنْ يُرِيدُ اسْتِعْمَالَهُ فِي طَهَارَةٍ أَوْ شُرْبٍ، فَيَسْتَمِرُّ النَّهْيُ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمَفَاسِدِ الْمُتَوَقَّعَةِ، إلَّا أَنَّ فِيهِ حَمْلَ اللَّفْظِ عَلَى الْمَجَازِ، أَعْنِي حَمْلَ النَّهْيِ عَلَى الْكَرَاهَةِ. فَإِنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي التَّحْرِيمِ. [حَدِيثُ إذَا شَرِبَ الْكَلْبُ فِي إنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْسِلْهُ سَبْعًا] فِيهِ مَسَائِلُ. الْأُولَى: الْأَمْرُ بِالْغَسْلِ ظَاهِرٌ فِي تَنْجِيسِ الْإِنَاءِ. وَأَقْوَى مِنْ هَذَا الْحَدِيثِ فِي الدَّلَالَةِ عَلَى ذَلِكَ: الرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ. وَهِيَ قَوْلُهُ ﷺ «طُهُورُ إنَاءِ أَحَدِكُمْ، إذَا وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ: أَنْ يُغْسَلَ سَبْعًا» فَإِنَّ لَفْظَةَ " طُهُورُ " تُسْتَعْمَلُ إمَّا عَنْ الْحَدَثِ، أَوْ عَنْ الْخَبَثِ. وَلَا حَدَثَ عَلَى الْإِنَاءِ بِالضَّرُورَةِ. فَتَعَيَّنَ الْخَبَثُ. وَحَمَلَ مَالِكٌ هَذَا الْأَمْرَ عَلَى التَّعَبُّدِ، لِاعْتِقَادِهِ طَهَارَةَ الْمَاءِ وَالْإِنَاءِ. وَرُبَّمَا رَجَّحَهُ أَصْحَابُهُ

1 / 74

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] بِذِكْرِ هَذَا الْعَدَدِ الْمَخْصُوصِ، وَهُوَ السَّبْعُ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلنَّجَاسَةِ: لَاكْتَفَى بِمَا دُونَ السَّبْعِ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ. وَقَدْ اكْتَفَى فِيهَا بِمَا دُونَ السَّبْعِ. وَالْحَمْلُ عَلَى التَّنْجِيسِ أَوْلَى. ؛ لِأَنَّهُ مَتَى دَارَ الْحُكْمُ بَيْنَ كَوْنِهِ تَعَبُّدًا، أَوْ مَعْقُولَ الْمَعْنَى، كَانَ حَمْلُهُ عَلَى كَوْنِهِ مَعْقُولَ الْمَعْنَى أَوْلَى. لِنُدْرَةِ التَّعَبُّدِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَحْكَامِ الْمَعْقُولَةِ الْمَعْنَى. وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَكُونُ أَغْلَظَ مِنْ نَجَاسَةِ الْعَذِرَةِ، فَمَمْنُوعٌ عِنْدَ الْقَائِلِ بِنَجَاسَتِهِ، نَعَمْ لَيْسَ بِأَقْذَرَ مِنْ الْعَذِرَةِ، وَلَكِنْ لَا يَتَوَقَّفُ التَّغْلِيظُ عَلَى زِيَادَةِ الِاسْتِقْذَارِ. وَأَيْضًا فَإِذَا كَانَ أَصْلُ الْمَعْنَى مَعْقُولًا قُلْنَا بِهِ. وَإِذَا وَقَعَ فِي التَّفَاصِيلِ مَا لَمْ يُعْقَلْ مَعْنَاهُ فِي التَّفْصِيلِ، لَمْ يَنْقُصْ لِأَجْلِهِ التَّأْصِيلُ. وَلِذَلِكَ نَظَائِرُ فِي الشَّرِيعَةِ، فَلَوْ لَمْ تَظْهَرْ زِيَادَةُ التَّغْلِيظِ فِي النَّجَاسَةِ لَكُنَّا نَقْتَصِرُ فِي التَّعَبُّدِ عَلَى الْعَدَدِ، وَنَمْشِي فِي أَصْلِ الْمَعْنَى عَلَى مَعْقُولِيَّةِ الْمَعْنَى. [نَجَاسَة عَيْنِ الْكَلْبِ] ١ الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إذَا ظَهَرَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْغَسْلِ لِلنَّجَاسَةِ: فَقَدْ اُسْتُدِلَّ بِذَلِكَ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ. وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ طَرِيقَانِ. أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ إذَا ثَبَتَتْ نَجَاسَةُ فَمِهِ مِنْ نَجَاسَةِ لُعَابِهِ، فَإِنَّهُ جُزْءٌ مِنْ فَمِهِ، وَفَمُهُ أَشْرَفُ مَا فِيهِ. فَبَقِيَّةُ بَدَنِهِ أَوْلَى. الثَّانِي: إذَا كَانَ لُعَابُهُ نَجِسًا - وَهُوَ عَرَقُ فَمِهِ - فَفَمُهُ نَجِسٌ. وَالْعَرَقُ جُزْءٌ مُتَحَلَّبٌ مِنْ الْبَدَنِ. فَجَمِيعُ عَرَقِهِ نَجِسٌ. فَجَمِيعُ بَدَنِهِ نَجِسٌ، لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ أَنَّ الْعَرَقَ جُزْءٌ مِنْ الْبَدَنِ.

1 / 75

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] فَتَبَيَّنَ بِهَذَا: أَنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى النَّجَاسَةِ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْفَمِ، وَأَنَّ نَجَاسَةَ بَقِيَّةِ الْبَدَنِ بِطَرِيقِ الِاسْتِنْبَاطِ. وَفِيهِ بَحْثٌ. وَهُوَ أَنْ يُقَالَ: إنَّ الْحَدِيثَ إنَّمَا دَلَّ عَلَى نَجَاسَةِ الْإِنَاءِ الْوُلُوغُ. وَذَلِكَ قَدْرٌ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ نَجَاسَةِ عَيْنِ اللُّعَابِ وَعَيْنِ الْفَمِ، أَوْ تَنَجُّسِهِمَا بِاسْتِعْمَالِ النَّجَاسَةِ غَالِبًا. وَالدَّالُ عَلَى الْمُشْتَرَكِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَحَدِ الْخَاصَّيْنِ. فَلَا يَدُلُّ الْحَدِيثُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْفَمِ، أَوْ عَيْنِ اللُّعَابِ. فَلَا تَسْتَقِيمُ الدَّلَالَةُ عَلَى نَجَاسَةِ عَيْنِ الْكَلْبِ كُلِّهِ. وَقَدْ يُعْتَرَضُ عَلَى هَذَا بِأَنْ يُقَالَ: لَوْ كَانَتْ الْعِلَّةُ تَنْجِيسَ الْفَمِ أَوْ اللُّعَابِ - كَمَا أَشَرْتُمْ إلَيْهِ - لَزِمَ أَحَدُ أَمْرَيْنِ. وَهُوَ إمَّا وُقُوعُ التَّخْصِيصِ فِي الْعُمُومِ، أَوْ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ لِأَنَّا إذَا فَرَضْنَا تَطْهِيرَ فَمِ الْكَلْبِ بِمَاءٍ كَثِيرٍ، أَوْ بِأَيِّ وَجْهٍ كَانَ، فَوَلَغَ فِي الْإِنَاءِ: فَإِمَّا أَنْ يَثْبُتَ وُجُوبُ غَسْلِهِ أَوْ لَا. فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ وَجَبَ تَخْصِيصُ الْعُمُومِ. وَإِنْ ثَبَتَ لَزِمَ ثُبُوتُ الْحُكْمِ بِدُونِ عِلَّتِهِ. وَكِلَاهُمَا عَلَى خِلَافِ الْأَصْلِ. وَاَلَّذِي يُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ بِهِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ، أَنْ يُقَالَ: الْحُكْمُ مَنُوطٌ بِالْغَالِبِ وَمَا ذَكَرْتُمُوهُ مِنْ الصُّوَرِ نَادِرٌ، لَا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وَهَذَا الْبَحْثُ إذَا انْتَهَى إلَى هُنَا يُقَوِّي قَوْلَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْغَسْلَ لِأَجْلِ قَذَارَةِ الْكَلْبِ. [اعْتِبَارِ السَّبْعِ فِي عَدَدِ الْغَسَلَاتِ مِنْ ولوغ الْكَلْب] ١ الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: الْحَدِيثُ نَصٌّ فِي اعْتِبَارِ السَّبْعِ فِي عَدَدِ الْغَسَلَاتِ. وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ، فِي قَوْلِهِ: يَغْسِلُ ثَلَاثًا. [الزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ فِي رواية الْحَدِيث] الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي رِوَايَةِ ابْنِ سِيرِينَ زِيَادَةُ " التُّرَابِ " وَقَالَ بِهَا الشَّافِعِيُّ وَأَصْحَابُ الْحَدِيثِ. وَلَيْسَتْ فِي رِوَايَةِ مَالِكٍ هَذِهِ الزِّيَادَةُ: فَلَمْ يَقُلْ بِهَا. وَالزِّيَادَةُ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ. وَقَالَ بِهَا غَيْرُهُ. [غَسْلَة التَّتْرِيبِ مِنْ ولوغ الْكَلْب] ١ الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: اخْتَلَفَتْ الرِّوَايَاتُ فِي غَسْلَةِ التَّتْرِيبِ، فَفِي بَعْضِهَا " أُولَاهُنَّ " وَفِي بَعْضِهَا " أُخْرَاهُنَّ " وَفِي بَعْضِهَا " إحْدَاهُنَّ " وَالْمَقْصُودُ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ وَأَصْحَابِهِ: حُصُولُ التَّتْرِيبِ فِي مَرَّةٍ مِنْ الْمَرَّاتِ، وَقَدْ يُرَجَّحُ كَوْنُهُ فِي الْأُولَى: بِأَنَّهُ إذَا تَرَّبَ أَوَّلًا، فَعَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يَلْحَقَ بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الطَّاهِرَةِ رَشَاشُ

1 / 76

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] بَعْضِ الْغَسَلَاتِ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَتْرِيبِهِ، وَإِذَا أُخِّرَتْ غَسْلَةُ التَّتْرِيبِ، فَلَحِقَ رَشَاشُ مَا قَبْلَهَا بَعْضَ الْمَوَاضِعِ الطَّاهِرَةِ: اُحْتِيجَ إلَى تَتْرِيبِهِ، فَكَانَتْ الْأُولَى أَرْفَقَ بِالْمُكَلَّفِ. فَكَانَتْ أَوْلَى. ١ - الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: الرِّوَايَةُ الَّتِي فِيهَا «وَعَفِّرُوهُ الثَّامِنَةَ بِالتُّرَابِ» تَقْتَضِي زِيَادَةَ مَرَّةٍ ثَامِنَةٍ ظَاهِرًا، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَقِيلَ: لَمْ يَقُلْ بِهِ غَيْرُهُ، وَلَعَلَّهُ الْمُرَادُ بِذَلِكَ مِنْ الْمُتَقَدِّمِينَ. وَالْحَدِيثُ قَوِيٌّ فِيهِ، وَمَنْ لَمْ يَقُلْ بِهِ: احْتَاجَ إلَى تَأْوِيلِهِ بِوَجْهٍ فِيهِ اسْتِكْرَاهٌ. الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ: قَوْلُهُ ﷺ «فَاغْسِلُوهُ سَبْعًا، أُولَاهُنَّ، أَوْ أُخْرَاهُنَّ بِالتُّرَابِ» قَدْ يَدُلُّ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ: إنَّهُ لَا يَكْتَفِي بِذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَجْعَلَهُ فِي الْمَاءِ، وَيُوَصِّلَهُ إلَى الْمَحِلِّ. وَوَجْهُ الِاسْتِدْلَالِ: أَنَّهُ جَعَلَ مَرَّةَ التَّتْرِيبِ دَاخِلَةً فِي قِسْمِ مُسَمَّى الْغَسَلَاتِ، وَذَرُّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ لَا يُسَمَّى غَسْلًا، وَهَذَا مُمْكِنٌ. وَفِيهِ احْتِمَالٌ؛ لِأَنَّهُ إذَا ذَرَّ التُّرَابَ عَلَى الْمَحِلِّ، وَأَتْبَعَهُ بِالْمَاءِ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: غَسَلَ بِالتُّرَابِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِثْلِ هَذَا فِي أَمْرِهِ ﷺ فِي غُسْلِ الْمَيِّتِ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، عِنْدَ مَنْ يَرَى أَنَّ الْمَاءَ الْمُتَغَيِّرَ بِالطَّاهِرِ غَيْرُ طَهُورٍ، إنْ جَرَى عَلَى ظَاهِرِ الْحَدِيثِ فِي الِاكْتِفَاءِ بِغَسْلَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّهَا تُحَصِّلُ مُسَمَّى الْغَسْلِ [وَهَذَا جَيِّدٌ] . إلَّا أَنَّ قَوْلَهُ " وَعَفِّرُوهُ " قَدْ يُشْعِرُ بِالِاكْتِفَاءِ بِالتَّتْرِيبِ بِطَرِيقِ ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى

1 / 77

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ــ [إحكام الأحكام] الْمَحِلِّ، فَإِنْ كَانَ خَلْطُهُ بِالْمَاءِ لَا يُنَافِي كَوْنَهُ تَعْفِيرًا لُغَةً، فَقَدْ ثَبَتَ مَا قَالُوهُ، وَلَكِنْ لَفْظَةُ " التَّعْفِيرِ " حِينَئِذٍ تَنْطَلِقُ عَلَى ذَرِّ التُّرَابِ عَلَى الْمَحِلِّ، وَعَلَى إيصَالِهِ بِالْمَاءِ إلَيْهِ، وَالْحَدِيثُ الَّذِي دَلَّ عَلَى اعْتِبَارِ مُسَمَّى الْغَسْلَةِ، إذْ دَلَّ عَلَى خَلْطِهِ بِالْمَاءِ وَإِيصَالِهِ إلَى الْمَحِلِّ بِهِ. فَذَلِكَ أَمْرٌ زَائِدٌ عَلَى مُطْلَقِ التَّعْفِيرِ، عَلَى التَّقْدِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مِنْ شُمُولِ اسْمِ " التَّعْفِيرِ " لِلصُّورَتَيْنِ مَعًا، أَعْنِي ذَرَّ التُّرَابِ وَإِيصَالَهُ بِالْمَاءِ. [اتَّخَذَ مَا أُبِيحَ لَهُ اتِّخَاذُهُ مِنْ الْكِلَاب فولغ فِي الْإِنَاء] ١ الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: الْحَدِيثُ عَامٌّ فِي جَمِيعِ الْكِلَابِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: قَوْلٌ بِتَخْصِيصِهِ بِالْمَنْهِيِّ عَنْ اتِّخَاذِهِ. وَالْأَقْرَبُ: الْعُمُومُ. ؛ لِأَنَّ الْأَلِفَ وَاللَّامِ إذَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ عَلَى صَرْفِهَا إلَى الْمَعْهُودِ الْمُعَيَّنِ، فَالظَّاهِرُ كَوْنُهَا لِلْعُمُومِ، وَمَنْ يَرَى الْخُصُوصَ قَدْ يَأْخُذُهُ مِنْ قَرِينَةٍ تَصْرِفُ الْعُمُومَ عَنْ ظَاهِرِهِ فَإِنَّهُمْ نُهُوا عَنْ اتِّخَاذِ الْكِلَابِ إلَّا لِوُجُوهٍ مَخْصُوصَةٍ. وَالْأَمْرُ بِالْغَسْلِ مَعَ الْمُخَالَطَةِ عُقُوبَةٌ يُنَاسِبُهَا الِاخْتِصَاصُ بِمِنْ ارْتَكَبَ النَّهْيَ فِي اتِّخَاذِ مَا مُنِعَ مِنْ اتِّخَاذِهِ. وَأَمَّا مَنْ اتَّخَذَ مَا أُبِيحَ لَهُ اتِّخَاذُهُ، فَإِيجَابُ الْغَسْلِ عَلَيْهِ مَعَ الْمُخَالَطَةِ عُسْرٌ وَحَرَجٌ، وَلَا يُنَاسِبُهُ الْإِذْنُ وَالْإِبَاحَةُ فِي الِاتِّخَاذِ. وَهَذَا يَتَوَقَّفُ عَلَى أَنْ تَكُونَ هَذِهِ الْقَرِينَةُ مَوْجُودَةً عِنْدَ النَّهْيِ. ١ - الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ: الْإِنَاءُ عَامٌّ بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ إنَاءٍ. وَالْأَمْرُ بِغَسْلِهِ لِلنَّجَاسَةِ. إذَا ثَبَتَ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَنْجِيسَ مَا فِيهِ، فَيَقْتَضِي الْمَنْعَ مِنْ اسْتِعْمَالِهِ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ: قَوْلٌ: إنَّ ذَلِكَ يَخْتَصُّ بِالْمَاءِ، وَأَنَّ الطَّعَامَ الَّذِي وَلَغَ فِيهِ الْكَلْبُ لَا يُرَاقُ وَلَا يُجْتَنَبُ. وَقَدْ وَرَدَ الْأَمْرُ بِالْإِرَاقَةِ مُطْلَقًا فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الصَّحِيحَةِ. [ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ] الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ: ظَاهِرُ الْأَمْرِ الْوُجُوبُ. وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ قَوْلٌ: إنَّهُ لِلنَّدْبِ وَكَأَنَّهُ لَمَّا اعْتَقَدَ طَهَارَةَ الْكَلْبِ - بِالدَّلِيلِ الَّذِي دَلَّهُ عَلَى ذَلِكَ - جَعَلَ ذَلِكَ

1 / 78