ثم تقص عليه كيف جيء به؛ بابنها مصطفى، بعد ذلك بساق واحدة، وكيف أنها حمدت الله على أنه لا يزال حيا، ولو بعاهة، الحمد لله!
ثم تعود إلى النظر في وجه جلجل وتقول: - لكن ربنا كان يكرهني! والله يا جلجل أنا ما عملت شيء يسخط الله، لكن لله أحكام؛ لما رجع لنا مصطفى؛ أنا وفاطمة زوجته، فرحنا، فرحنا كتير، ولكن رجله ورمت، وانتفخت، وطلعت منها روائح، وجاء الدكتور وقال: لا بد من حمله الآن إلى المستشفى، سامع يا جلجل يروح المستشفى، وكان الدكتور واقفا يتأمل الغرفة وينظر إلى السقف والأرض، وبعدها قال لي: اسمعي يا ولية، اخرجي من هنا واسكني غرفة تدخلها الشمس، اخرجوا كلكم، هنا رطوبة وموت.
وضحكت أم مصطفى ضحكة مرة كلها علقم، وانقلبت الضحكة إلى بكاء وانتحاب، ثم هدأت ونظرت إلى جلجل وهي تقول: - اسمع يا جلجل، أخرج من هنا أنا وراجي وأمه ونسكن في بيت تدخله الشمس، كلام الدكتور.
ثم تقص عليه التفاصيل: كيف أن أجرة هذه الغرفة 15 قرشا فقط في الشهر، وكان ابنها يؤديها وهو قادر، فلما مات بعد أن قطعوا ساقه العليا في المستشفى صار الجيران يدفعونها إحسانا وتصدقا، ثم ترفع جلجل على ساقيه الخلفيتين وتقول: - إنت فاكر يا جلجل لما قالوا لنا إن مصطفى ابني مات؟ كان موته بموتي، قل الله يرحمني، أنا مت يوم ما قالوا مصطفى مات.
وهي تقص عليه في كلمات مخنوقة، وحلقها يغص بالبكاء، كيف أن الدنيا لم تعد بعد موته كما كانت قبلا؛ كانت تأكل اللقمة بالفجل فتجد لها طعما، أما بعد ذلك فلم يعد لشيء في الدنيا طعم، ثم تنظر إلى جلجل وتقول: - أنا أقول لك الحق، فاطمة زوجة مصطفى ماتت، تعرف ماتت ليه؟ من السل، ثم تقص عليه، وهي تترنح من عذاب الذكرى، وبدنها يميل ذات اليمين وذات الشمال، كيف أن فاطمة صارت تخدم في القهوة بعد موت زوجها، ولكنها بردت، ورسخ البرد في صدرها، فكانت طوال الليل تسعل، حتى كان راجي يستيقظ من سعالها ويقول: ماما ماما، ويبكي. - وأنا كنت أحمله طول الليل وأمشي به حتى ينعس وينام.
ويموء جلجل؛ لعله جائع، ولكن الذكريات تتزاحم على أم مصطفى، وتكاد تنفجر من صدرها، وهي تقص عليه كيف ماتت فاطمة؛ فإنها تركت المقهى وباعوا ما فيه من كراسي وفناجين واشتروا الأدوية لها. - هو الدواء فيه فائدة يا جلجل؟
ثم تذكر أن الطبيب جاء وقال: اخرجوا من هذه الغرفة، وإن الرطوبة ستقتلهم كلهم. ولكنهم فقراء، وانقطعت فاطمة عن الطعام، وخمدت كما لو كانت شمعة وانطفأت، ولم تعد تأكل، وقبل أن تموت بيوم وقف إلى جانبها راجي فقبلت يده، وعضتها، حتى صرخ الطفل، ولما سألتها أم مصطفى عن السبب، قالت: أحب أنه يموت معي، أخاف عليه بعدي، آخذه معي.
ولم تطق أم مصطفى هذه الكلمات، فبكت وهي تقول: - كان لها حق تخاف، كان لها حق تخاف.
ثم سكتت، وعاد جلجل إلى حجرها يموء كأنه يترضاها بعد بكاءها، وأسندت ظهرها إلى الحائط تستعيد أنفاسها، وبقيت صامتة بعض الوقت؛ لأن رأسها كان يدور من أثر البكاء، وتتابعت الصور في خيالها: زوجة ابنها تقيء الدم، ثم تطلب ابنها راجي فتضمه إلى صدرها، وهنا تذكرت أنها عندما وثقت بأن فاطمة في لحظاتها الأخيرة تسلم الروح أرادت أن تنزع راجي منها، ولكن أمه حضنته وشدت عليه بيدها، فلم تستطع نزعه، ونظرت إلى جلجل وقالت في هدوء: - أنا مت الموتة الثانية يا جلجل لما دفنا فاطمة ورجعت ولقيت راجي بلا أم، راجي يتيم، عمره أقل من ثلاث سنين بلا أم، وبلا أب، إنت فاهم يا جلجل؟ بلا أم وبلا أب! ولما رجعت قال لي راجي فين ماما؟ ماما فين يا جدة؟
وماء القط، ودار حولها، لا بد أنه كان جائعا، وزاد مواؤه وعلا، وهنا تنبهت العجوز، فنهضت وأحضرت كسرات من الخبز وبعض الماء وبللتها، ثم جعلت تمضغها وتطعم القط، وما زالت به تمضغ له وتناوله حتى شبع، أما هي فلم تأكل، وقعد القط أمامها ومسحت فروته وهي تقول: - إنت فيك روايح راجي يا جلجل، إنت كنت كل ليلة تنام معه.
अज्ञात पृष्ठ