لقد خرج «ثورو» إلى الغابة، وفر من المدينة الأمريكية التي كان يسكنها، وأراد بذلك أن يتعمق الحياة ويقف «على حدة» يتأملها في وحدته وعلى بعد من صخب المجتمع، ولكنه هو لم يترك مكتبته؛ لأن حياته كانت حياة الدرس والثقافة فقط.
أين الغابة التي يستطيع أن يلجأ إليها كي يفكر «على حدة» دون أن ينزل على آراء المجتمع؟ أين الغابة التي تحدث فيها الحوادث وتقع الأخطار ويجني منها الاختبار؟ •••
وفي هذا اليوم لم يفتح كتابا، ولم يكتب حرفا؛ إذ كان قاعدا وكأنه في ذهول، وسمع نفسه يقول إنه سيزور الهند واليابان قبل أن يموت.
وتنبه بصرير التليفون، فتناول السماعة، وإذا بصديق يدعوه إلى تمضية المساء عنده.
ورحب، على غير عادته السابقة، بهذه الدعوة، ووعد بالذهاب إلى منزل صديقه الساعة الثامنة.
إنه لا يريد أن يقرأ أو يكتب، إنه يريد لقاء الناس؛ إذ لم يبق من العمر سوى فترة قصيرة أو طويلة قبل نوبة أخرى كهذه النوبة التي أيقظته في الليلة الماضية.
وكان عند صديقه في الميعاد، وتحدث إلى كثيرين في طلاقة وابتسام، وأحس انتعاشا لجو الطرب الذي كان يسود الزائرين؛ فكانوا يضحكون لأتفه نكتة، ويشربون ويأكلون في سذاجة وحيوانية، وأكل معهم وشرب قليلا، ثم انتحى ناحية وقعد، وجاءت إليه فتاة عرف منها أنها معلمة، ويبدو أنها لا تزيد على الخامسة والعشرين من العمر، وطال الحديث بينهما، وكانت هي تتحدث كما لو كانت مسحورة بشخصيته، كما كان هو مرتاحا إلى إعجابها به، وإلى وسامة ملامحها وهدوء نظراتها، وكانت من أجمل ما سمعه منها قولها: أنت إنسان.
ومع أنه كان قد سمع هذه الكلمة قبل ذلك، فإنه كان لوقعها في نفسه، من هذه الفتاة، أثر الطرب الغامر؛ فقد قالتها في وداعة ورقة بالغتين، كما لو كانت تقبل رأسه وتمسح جبينه.
لا بد أنها قد قرأت مؤلفاته.
وتحدثت الفتاة إليه عن شخصية المرأة، وعن حكمة العيش، وعن الكتب، وعن التربية، وعن مؤلفات «أندريه جيد» و«بول سارتر»، وكان يجيب في يسر حتى أحست هي ألفة لم تكن تنتظرها، فلم تخجل ولم تتحفظ.
अज्ञात पृष्ठ