كتاب الإيضاح في شرح المصباح
تأليف
القاضي العلامة أحمد بن يحيى حابس رضي الله تعالى عنه
[ خطبة الكتاب ]
بسم الله الرحمن الرحيم ، وبه نستعين
الحمد لله الذي أنشأ العالم من العدم، واخترعه اختراعا، وأوجده بعد العدم المحض ، وأبتدعه ابتداعا، وجعل حدوث المعلوم بقبوله الزيادة والنقصان، وملازمة المحدث من الأعراض إذ الانفكاك خارج عن دائرة الإمكان، والعرض معدود منه غير خارج عنه ، دليلا على وجود ذاته جل وعلا وكمال صفاته سبحانه وتعالى عما يقول الجاحدون وما يعتقده الملحدون (علوا كبيرا) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة سببها اليقين به والنظر المؤدي إلى معرفته مدخرة ليوم القيامة أرجو بها الفوز والكرامة،وأن محمدا عبده ورسوله الذي أيده بالمعجزات الدالة على صدقه التي أعظمها (ما هو الآن) بين أظهرنا وهو القرآن ، إذ نظمه خارج عن طوق البشر حيث تحدى به العرب وهم يومئذ الصمم والخلاصة وممن يشار إليهم بالبنان ، فأقحموا عن المعارضة ورجعوا إلى الحرب الدالة على العجز إذ ليست هي بإقامة برهان، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين وأصحابه المحقين وتابعيهم وتابع التابعين بإحسان إلى يوم الدين.
وبعد: فلما كان علم الكلام أشرف العلوم، (إذ هو لمعرفة الحي القيوم) ، والعلم يشرف بشرف المعلوم،وكان سبب افتراق الأمة إلى الفرق الهالكة والناجية اختلاف العقائد،وقد جمع سلفنا الصالح من الأدلة الصحيحة على مذاهب العترة الناجية ما هو (مطلوب الطالب و) بغية الرايد وضالة الناشد.
पृष्ठ 1
ووجدت بين القدماء والمتأخرين اختلافا في مسائل معروفة وأطراف مألوفة لا ينبغي لرصين عقل أن يجعل ذلك سلما إلى التفرقة بين العترة الكرام والأئمة الأعلام إذ لم يختلفوا مع التحقيق فيما يوجب هلكة أحدهم،ولا فيما يقدح في نجاتهم وعلو مرتبتهم ودقة نظرهم، ووجدت الهمم قد تقاعدت عن اقتناص فوائدهم وعن تتبع معرفة حقائق عقائدهم.
أحببت أن أعلق شرحا مفيدا على الكتاب الشهير المعروف بمصباح العلوم في معرفة الحي القيوم لسهولة المأخذ منه على الطالبين وكونهم لطلب المذاكرة فيه لا يزالون سائلين،منبها على عقائد القدماء من أئمتنا الهادين ، ذاكرا أدلتهم وبراهينهم مميزا لها أكمل تمييز على مذاهب المتأخرين،وكما أن للأول فضيلة الموصل السابق فللمتأخر درجة المقتدي اللاحق.
نجوم سماء كلما انقض كوكب بدا كوكب تأوي إليه كواكبه
مقدمة
ينبغي قبل الشروع في شرح ألفاظ الكتاب،معرفة حد علم الكلام ،وثمرته، واستمداده،ولم سمي علم الكلام؟، وفضله على غيره من سائر العلوم.
أما حده: فهو القواعد اللاتي يتوصل بها إلى معرفة توحيد الله تعالى وعدله وما يترتب عليهما، فقولنا القواعد نعني بها القوانين الكلية،كقولنا كل ما لم يخل من المحدث فهو محدث متوصلين إلى معرفة الله تعالى بذلك،ونعني بقولنا وما يترتب عليهما الكلام في النبؤات والإمامة ومسائل الوعد والوعيد و(غير ذلك) ، ونعني بالترتيب الترتب الأخص بحيث لا يكون أحدهما أصلا والثاني فرعا،فلا يرد دخول مسائل الشرع الفرعية في قيد الترتيب .
وأما ثمرته: فهي ثلاث فوائد:-
पृष्ठ 2
الأولى: أن يكون الإنسان من دينه على يقين،ومن علمه وعمله على بصيرة، ليعرف ما يقدم عليه من دينه، وما يحجمه عنه،وليخرج من ضمن من دخل في قوله تعالى { إذ تبرأ الذين اتبعوا من الذين اتبعوا ورأوا العذاب وتقطعت بهم الأسباب } (البقرة:166.)وقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم:(لا تكونوا إمعة تقولوا إن أحسن الناس أحسنا وإن أساؤا أسأنا ولكن وطنوا أنفسكم أنه إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤا لم تسيؤا).وقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(تفترق أمتي على ثلاث وسبعين فرقة كلها هالكة إلا فرقة)، فلينظر الإنسان لنفسه ليدخل في الفرقة الناجية.
الفائدة الثانية: أن يكون آمنا عن أن يخدعه عن الحق المبطلون، ويدخله في الضلالة الضالون،ويدخل في الخبر المأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (من أخذ دينه عن التفكر في ألآء الله والتدبر لكتاب الله والتفهم لسنتي زالت الرواسي ولم يزل ، ومن أخذ دينه عن أفواه الرجال وقلدهم فيه ذهبت به الرجال من يمين إلى يسار وكان من دين الله على أعظم زوال).
الفائدة الثالثة: أن يكون متمكنا من إرشاد الضالين وهداية الغاوين، ويدخل في الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو قوله:(يا علي لأن يهدي الله على يديك رجلا خير لك مما طلعت عليه الشمس)، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم (أنه قال) : (ما أهدى المسلم لأخيه المسلم أفضل من كلمة حكمة سمعها فانطوى عليها ثم علمه إياها يزيده الله بها هدى أو يرده عن ردى،وإنها لتعدل عند الله إحياء نفس ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا).
पृष्ठ 3
وأما استمداده: فمن العقل باستعمال الفكر في صنع الله تعالى وقياس فعل الباري على فعلنا في الاحتياج إلى المحدث مع الاشتراك في الحدث، وسيأتيك نبأه ومن السمع أيضا فيصح الاستدلال على الباري تعالى بالآيات المثيرة لدفائن العقول وهي زهاء خمسمائة آية عند أئمتنا عليهم السلام والجمهور ، وعند أبي رشيد وبعض متأخري صفوة الشيعة : أنه يصح الاستدلال بالقطعي مطلقا. وعند الإمامية والبكرية وبعض المحدثين : أنه يصح بالظني مطلقا. وقال أبو هاشم: لا يصح بالجميع مطلقا.
قلنا: المعلوم قطعا باتفاق علماء الكلام أن الدليل ما اهتدى به العقل إلى المطلوب بواسطة النظر ولو بالتدريج والانتقال من دليل إلى دليل إلى المطلوب، والآيات التي وصفناها تدل العقل بواسطة النظر إلى الدليل على كون ذلك الدليل مصنوعا ، إذ لابد من النظر فيها بدليل قوله تعالى{أفلا يتدبرون القرآن}الآية(النساء:82.)، ونحو ذلك. (وينتقل) إلى كونه له صانع يشهد بذلك تفسيرهم اسم الله تعالى في قوله تعالى{هو الظاهر والباطن}(الحديد:3.)حيث قالوا: هو الظاهر بصنعه ولا يكون ظاهرا حتى يعرف حق معرفته ولا يعرف حق معرفته حتى تعرف صفاته وكالاستدلال على (كونه حيا) بالمصنوع.
وأبو هاشم يجريها مجرى محض الدعوى ولم يقر بأنها منبهة وهو مردود بعدم الفرق بينهما وبين الاستدلال بالصنع على كونه تعالى حيا،وبقوله تعالى{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم}(الإسراء:9.)ولم يفصل ، (وبقول) علي عليه السلام في خطبة الأشباح: فانظر أيها السائل بعقلك فما دلك (القرآن عليه ) من صفته فأتمر به.
पृष्ठ 4
[ تعريف علم الكلام وأدلة من الكتاب والسنة ]
وأما لم سمي علم الكلام ؟:فذلك اسم غلب عليه وإن كان كل علم كلاما،كما غلب على علم النحو اسم النحو وإن كان كل علم منحوا أي مقصودا، وكذا علم الفقه فإنه غلب عليه هذا الاسم وإن كان كل علم مفقوها. وقال الغزالي: إنه العلم الكلي لأنه كلام في كل شيء من الخالق والمخلوق والمعدوم والموجود والقديم والمحدث.
وأما فضله: على سائر العلوم فمن جهة العقل والسمع، أما من جهة العقل فلأن الشيء يشرف بشرف معلومه ، ألا ترى أن التفاسير لما كان معلومها كتاب الله تعالى واستخراج أسراره شرفت بشرفه،ولما كان معلوم الفقه الحلال والحرام والتمييز بينهما
شرف بذلك،ومعلوم هذا الفن الله تعالى وصفاته وعدله وهو أعظم الأشياء فوجب أن يشرف بذلك وأن يكون أشرف العلوم.
وأما من جهة السمع فالكتاب والسنة والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى { شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وألوا العلم } (آل عمران:18) فذكرهم الله بعد ملائكته،وأخبر أنهم شهدوا على وحدانيته،ولا يقال ليس في الآية دليل على أنها واردة في أهل علم الكلام خاصة لأن ظاهرها يقتضي العموم، لأنا نقول الشهادة لا تكون إلا على القطع لقوله صلى الله عليه وآله وسلم لعلي عليه السلام:(مثل هذه الشمس وإلا فدع)، ولا يعرف الله على القطع الذي تجوز معه الشهادة إلا أهل هذا العلم، ولا يقال دلالتها على فضل العلماء (لا العلم) ، وذلك خروج من المطلوب ،لأنا نقول المعلوم قطعا استواءهم لهم وغيرهم في كونهم بشرا مكلفين فلابد من مزية اختصوا بها ففضلوا وليست إلا شهادتهم بالواحدانية ، (وفي ذلك) حكم بفضيلة هذه المزية كما لا يخفى ، والله أعلم.
पृष्ठ 5
وأما السنة: فما روي أن رجلا أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: يارسول الله علمني من غرائب العلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:(وماذا صنعت في رأس العلم حتى تسألني عن غرائبه؟ فقال الرجل: يارسول الله وما رأس العلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: معرفة الله حق معرفته، قال: وما معرفة الله حق معرفته؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: أن تعرفه بلا مثل ولا شبيه وأن تعرفه إلاها واحدا أولا آخرا ظاهرا باطنا لا كفو له ولا مثل له). وما روي أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال : (رأس مالي التوحيد وكنزي عقلي ومالي عملي).وروي عنه صلى الله عليه وآله وسلم : (قسم الله العقل ثلاثة أجزاء،حسن المعرفة بالله،وحسن الطاعة،وحسن الصبر لله). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أن رجلا سأله فقال يارسول الله أي العمل أفضل؟، فقال صلى الله عليه وآله وسلم : (العلم بالله. ثم قال: أي العمل أفضل يارسول الله؟ قال: العلم بالله. فأعادها عليه الثالثة فقال الرجل: يارسول الله أسألك عن العمل وتخبرني عن العلم فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ( إن قليل العمل مع العلم كثير وكثير العمل لا ينفع مع الجهل). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(لو عرفتم الله حق معرفته لزلزلت لدعائكم الرواسي ولو خفتم الله حق خيفته لعلمتم العلم الذي ليس معه جهل). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم:(يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين). ويدل على ذلك أيضا ما ورد من الأخبار في فضل آية الكرسي وسورة الإخلاص. قال الزمخشري: إنما خصتا بهذا الفضل لما تضمنتا من توحيد الله تعالى. إلى غير ذلك من الأخبار الواردة عنه صلى الله عليه وآله وسلم.
पृष्ठ 6
وأما الإجماع: فلا خلاف بين علماء الإسلام أن معرفة الله تعالى وما يتصل بذلك أفضل العلوم، وأن من فضل علما من سائر العلوم فإنه يقول بعد المعارف الإلاهية بلسان المقال أو بلسان الحال بحيث لو سئل عن ذلك لاعترف به.
بسم الله الرحمن الرحيم
ابتدأ المصنف ببسم الله ، لدليلين عقلي ، وسمعي.
أما العقلي: فلما تقرر في العقول من وجوب شكر المنعم ضرورة،وقد علمنا قطعا توارد نعم الله علينا قال تعالى{وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}(النحل:18) والشكر هو الثناء باللسان والعمل بالأركان والاعتقاد بالجنان فيكون ذكره شعبة من شعب الشكر.
وأما السمع: فأدلة ثلاثة الكتاب ، والسنة ، والإجماع.
أما الكتاب: فقوله تعالى{بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين}(الفاتحة:1،2) وقوله تعالى{إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}(النمل:30) وقوله تعالى{اقرأ باسم ربك الذي خلق}(العلق:1).
وأما السنة: فما روي عن عائشة أنه أتي إليها بقميص مخيط فقالت: هل ذكر عليه اسم الله؟، قيل: لا، قالت: ردوه فافتقوه ثم سموا عليه وخيطوه فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول : (كل أمر ذي بال لا يذكر عليه اسم الله فهو أجذ) (وقيل أقطع وقيل أبتر) وقيل خداج. والمعنى بذلك أنه منزوع البركة.
قال الدواري: هكذا في الرواية وهو يحتمل وجهين أن يكون الشك في الرواية عن عائشة،وأن يكون منها عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم والأول أقرب.ومعنى ذي بال: أي خطر بالبال،وقيل له خطر وشأن.
पृष्ठ 7
وأما الإجماع : فلا خلاف بين العلماء أن من ألف بابا أو صنف كتابا أو قام خطيبا إلى غير ذلك ولم يذكر اسم الله عليه فإنه معترض عليه ما لم يكن فعل قلب أو كلاما أوله ذكر الله كالأذان والخطبة وإن لم يورد على جهة التسمية أو كتاب غضب ويكون للكاتب على المكتوب سطوة كسورة براءة فإنها نزلت على المشركين بوعد ووعيد وزجر وتهديد.وروي أن عليا عليه السلام كان يكاتب معاوية بن أبي سفيان بكتب محذوفة التسمية وفيه يقول الشاعر:
يدل على وجد الهمام كتابه وتخليفه للصدر عمن يكاتبه
والمراد بالبداية باسم الله تعالى أن يذكر في أول الأمر اسم من أسماء الله مثل بسم الله أو الله أو الرحمن أو الرحيم أو الرب وغير ذلك.
قلت:لا يبعد أن للتسمية على تلك الهيئة أرجحية لما في الكتاب العزيز من قوله{بسم الله الرحمن الرحيم،الحمد لله رب العالمين}(الفاتحة:1،2).ولقوله صلى الله عليه وآله وسلم:(بسم الله الرحمن الرحيم مفتاح كل كتاب)، رواه السيوطي في الجامع الصغير عن الخطيب في الجامع عن أبي جعفر مرسلا.ولا تبعد دعوى الإجماع على ذلك.
نعم: ولا بأس بتحقيق الأسماء الشريفة التي اشتملت (البسملة عليها) .
فنقول : أما الجلالة فذهب المتكلمون إلى أنها اسم لله بإزاء صفة ذات ، وتلك الصفة هي صفات الكمال اللاتي لأجلها تحق له العبادة . ومعنى أنه موضوع بإزائها : أنه إذا أطلق يفهم منه تلك الصفات ، وهو مشتق من الإله وهو الفرع ، وهو فعال بمعنى مفعول كإمام بمعنى مأموم لكنه قد صار اسم جنس لمن يحق له ذلك .
وقال البلخي: بل هو مشتق من وله العباد أي فزعهم.
قلنا: إذا لقيل الولاه لا إله بالهمزة .
وقالت النحاة : بل هو علم.
पृष्ठ 8
قلنا: العلم لا يفيد المدح إذ لا يزيد على تمييز مسماه من جنسه مع أن الله تعالى لا جنس له ، وأيضا الأعلام ألقاب وهي لا تجوز على الله تعالى لأنها للغائب كالإشارة إلى الحاضر.
قال بعض المحققين : لا خلاف عائد إلى المعنى لأن المتكلمين إنما يمنعون أن يكون الله تعالى موضوعا على العلمية من أصل وضعه كزيد وعمرو ونحوهما،وهذه هي الألقاب التي لا تجوز على الله تعالى ، وأما كونه صار علما بالغلبة بعد أن كان في الأصل غير علم بل موضوعا بإزاء صفة ذات ، فهذا مما لا سبيل إلى منعه فيكون قولهم الله هو من تحق له العبادة في الأصل قبل الإدغام والتفخيم ، ثم أنه بقي ذلك المعنى ملحوظا فيه أيضا بعد الغلبة كما هو حكم الأعلام الغالبة .
قلت: هذا يحتاج إلى تأمل ، فإن دعوى أن الله كان جريه على الألسن بلفظ الإله قريب من دعوى علم الغيب ، فإنه لم يسمع في جاهلية ولا إسلام إلا لفظ الجلالة ولا يطلق على غير الباري ، وأما الإلاه فكانت الجاهلية تطلقه على آلهتها ، فمن أين لكم أنه كان ينطق به على لفظ الإله قبل الاهتداء إلى الجلالة ؟
وأما الرحمن الرحيم : فهما صفتان لله تعالى حقيقيتان دينيتان ،وقال المتأخرون: بل مجاز.
قال في الأساس:لو كانا مجازين (كما زعموا) لافتقرا إلى القرينة وهما لا يفتقران (إلى قرينة) بل لا يجري رحمن مطلقا ورحيم غير مضاف الإله تعالى ، وليستا لغويتين لاستلزامهما التشبيه لو كانا كذلك ورحيم منقول إذ هو كلمة تستعمل للخالق والمخلوق ، ففي المخلوق (لا تجوز) إلا بحذف التعريف وإثبات الإضافة هكذا قيل.
पृष्ठ 9
قال الدواري : والصحيح أنه يجوز بالتعريف وحذف الإضافة للخبر الذي فيه: (ألا وإن العالم الرحيم) (وأما الرحمن) فهو غير منقول إذ لم يطلق على غير الباري لغة البتة.وقولهم رحمن اليمامة كقول الصوفية الله للمرأة الحسناء . وأما الرحمة فإنما أثبتت للباري على سبيل المجاز بعد وجود خلقه تشبيها لفعله بفعل ذي الحنو والشفقة فلا يصح إدعاء اشتقاق الرحمن الرحيم منها.
اعلم أيها الطالب للعبادة أنه لا ينبغي لك الاشتغال بها قبل معرفة المعبود . وأن أول ما يجب والواجب في أصل اللغة الساقط كما يقال : وجبت الشمس أي سقطت.ومنه: وجبت جنوبها. والثابت : قال صلى الله عليه وآله وسلم : (إذا وجب المريض فلا تبكيه باكية) وهو في عرف اللغة والاصطلاح : ما يستحق الثواب بفعليهما السلامله والعقاب بتركه أو ما استحق المدح على فعله والذم على تركه بوجه ما ، يدخل فيه كل واجب المعين والمخير والمضيق والموسع والكفاية.إذ المخير يستحق الذم لتركه وترك ما يقوم مقامه، والكفاية يستحقه عند عدم قيام غيره به.
على المكلف : هو من أعلم بوجوب بعض المقدورات عليه وقبح بعضها منه ، وما الأولى له إيجاده وما الأولى له تركه مع مشقة تلحقه في الفعل والترك أو أحدهما أو في سبب ذلك أو ما يتصل بذلك ما لم يبلغ الحال به حد الإلجاء.
قلنا: أعلم ليدخل الكفار لأنهم أعلموا ولم يعملوا بالتكاليف الشرعية وهم مكلفون بها.
وقلنا: بوجوب بعض المقدورات وقبح بعضها لأنه مكلف بهما، وما الأولى إيجاده كالمندوب، وما الأولى تركه كالمكروه.
وقلنا: مع مشقة احتراز من أهل الجنة فإنهم مع علمهم لا مشقة معهم.
पृष्ठ 10
وقلنا: أو في سبب ذلك كعلم المتنبه بالله فلا مشقة عليه فيه وإنما المشقة في سببه وهو النظر.
وقلنا: أو ما يتصل بذلك نحو حراسة الفعل من الرياء والسمعة وغير ذلك من المحبطات وإن كان الفعل لا مشقة فيه كتلاوة القرآن بالصوت الحسن وبعض العبادات لمن اعتادها ووفق لها، وإنما المشقة في المحافظة على صيانته من الرياء والعجب. وقد احترزنا عن الباري بقولنا أعلم، وبقولنا مع مشقة لأنه سبحانه لا يعلم ولا تلحقه مشقة، وقولنا ما لم يكن ملجأ احترازا من المحتضر وأهل الآخرة فإنهم عالمون بالواجبات والمقبحات وليسوا بمكلفين لما هم فيه من الإلجاء وزيادة هذا القيد مبني على القول بأن الإلجاء بجامع الوجوب، وعلى القول بأنه لا يجامعه لا لحاجة إليه.
قال الدواري: الأولى أن يحذف من الحد ما الأولى فعله وتركه لأنه لا يكلف بهما إلا على جهة التبع للواجب والقبيح، ففي الواجب والقبيح غنية عن ذكرهما.
نعم وما يلزم المكلف على ضربين عقلي وشرعي :
أما العقلي: فهو ما عرف من جهة العقل، أما وجوبه كمعرفة الله تعالى وقضاء الدين ورد الوديعة وشكر المنعم وما أشبه ذلك، وأما قبحه كالجهل بالله تعالى والظلم والكذب والعبث وترك رد الوديعة وما أشبه ذلك.
وأما الشرعي: فهو ما عرف من جهة الشرع، أما وجوبه كالصلاة والزكاة والصوم والحج وما أشبه ذلك، وأما قبحه كالزنا والسرقة وشرب الخمر وترك الصلاة والزكاة والحج والصوم ويعتبر في التكليف العقلي كمال العقل فقط .
पृष्ठ 11
[ العقل ]
واختلفوا في العقل ما هو؟ وأين هو؟ أما حقيقته فهو عند أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة : عرض .وذهبت المطرفية : إلى أنه القلب لقوله تعالى{لمن كان له قلب}(ق:37) أي عقل .
وذهب بعض الفلاسفة : إلى أنه جوهر بسيط ويعنون بالبسيط غير المتحيز، وقال بعضهم:جوهر لطيف، ومنهم من قال : إنه قوة للنفس لأجلها يتمكن من تحصيل العلوم عن النظر وهذا يحكى عن الغزالي وغيره.
وقال بعض الطبائعية: بل طبيعة مخصوصة.
والحجة لنا: على أنه عرض أنه يزول عند النوم ونحوه ويعود عند خلافه، فلو كان القلب كما زعمت المطرفية أو جوهر على ما زعمت الفلاسفة لم يزل، وأما القوة والطبيعة فإن كان المراد بهما العرض الذي ذكرنا فقول حق (لا خلاف) وإلا كان قولا لا يعقل وهو باطل ، واحتجاج المطرفية بالآية باطل لأن (المراد به قلب) يعقل به دليله الآية الأخرى وهي قوله تعالى{لهم قلوب لا يعقلون بها}(الأعراف:179). ونظيره ما يقال هذا الأمر واضح لمن له عين وأذن وتارة يزاد يبصر بها أو يسمع بها فبطل ما قالوا .
وأما محله : فمذهب أئمتنا عليهم السلام والمعتزلة أن محله القلب لقوله تعالى { أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها } (الحج:46) ، ودلالتها على المطلوب ظاهرة لأنه كما يحكم في قول القائل له عين يبصر بها. إن البصر معنى محله العين كذلك يحكم بأن معنى قوله{يعقلون بها} أن العقل معنى محله القلب هذا لاشك فيه ولا مرية ولا دليل على ما ذكرناه سوى السمع وقد صح الاستدلال به كما يأتي إنشاء الله تعالى .
पृष्ठ 12
وقالت الفلاسفة : محله الدماغ ودليلهم ما يعلم من كي دماغ متغير العقل وصلاحه به وذلك يدل دلالة ظاهرة على كونه فيه ولا حجة لهم في هذا إلا ما نقول له مادة من الدماغ ككي باطن العقب لبعض أوجاع البطن، وكالمجبوب فإنها لا تنبت لحيته والفساد وقع بالجب وموضع نبات الشعر سالم، لكن هناك مواد من ناحية الموضع الذي جب فلما انقطعت تلك المواد لم تنبت الشعر، فالشعر دليل على الذكر ولا بعدم الشعر مع وجود الذكر إلا في النادر من الناس ويقال له الكوسج الذي ذمه أمير المؤمنين عليه السلام في قوله: لا يوجد في أربعين كوسجا رجل خير.
ثم اعلم إن الذين قالوا : بأن العقل عرض محله القلب كما هو المختار. اختلفوا في تعيينه فقال جمهور أئمتنا : إنه معنى غير العلوم العشرة الضرورية إذ هو مدرك وهي إدراك فهو في منزلة المعنى الموجود في الحدق وهي بمنزلة المشاهدة، وقال المهدي عليه السلام والمعتزلة : بل هو مجموع العلوم العشرة الضرورية وقد جمعها الإمام المهدي عليه السلام في قوله:-
فعلم بحال النفس ثم بديهة كذا خبرة ثم المشاهد رابع
ودائرة والقصد بعد تواتر جلي أمور والتعلق تاسع
وعاشرها تمييز حسن وضده فتلك علوم العقل مهما تراجع
بيانها : أما العلم بحال النفس فالمراد : علمه بكونه مريدا وكارها ومشتهيا ونافرا وغير ذلك.
ومعنى البديهة نحو : ما يعلم من أن العشرة أكثر من الخمسة.
والخبرة تعني : ما كان يستند إلى الخبرة والتجربة نحو كون الحجر تكسر الزجاجة والنار تحرق القطن.
والمشاهدة تعني : علم ما نشاهده وذلك واضح.
पृष्ठ 13
والدائرة يعني : بها علمه بالقسمة الدائرة بين النفي والإثبات نحو زيد لا يخلو إما أن يكون في الدار أولا ونحو الشيء لا يخلو من كونه موجودا أو معدوما فيعلم أنه لا يصح اجتماع الأمرين ولا يخلو من أحدهما.
والقصد المراد به : علمه بمقاصد المخاطبين الجلية نحو أن يقول الغير أرأيت زيدا؟ فإنك تعلم مقصده الذي هو الاستفهام عن رؤية زيد.
وقوله بعد تواتر المراد به : العلم بمخبر الأخبار المتواترة كتواتر الأخبار بمكة فإنه يعلمها من لم يشاهدها لتواتر الأخبار خلافا لأبي هاشم فإنه لم يعد ذلك من علوم العقل.
وقوله جلي أمور المراد به : العلم بالأمور الجلية قريبة العهد كالزلازل الظاهرة وموت سلطان البلد وإطباق الغيم ونحو ذلك.
وقوله التعلق تاسع المراد به : العلم بإسناد الفعل إلى فاعله كإسناد البناء إلى بانيه والكتابة إلى كاتبها.
وقوله وعاشرها تمييز حسن وضده المراد به : العلم بحسن الحسن وقبح القبيح نحو علم الواحد منا بحسن رد الوديعة ووجوب قضاء الدين وغير ذلك وعلمه بقبح الظلم والكذب ونحو ذلك.
पृष्ठ 14
فهذه العلوم العشرة زعم المهدي والمعتزلة ومن تابعهم أنها نفس
العقل وكلامهم باطل .وبيان بطلانه أنا نعلم قطعا أنه يعد من العقلاء من لم يتصور جميعها بل بعضها وأيضا فإن العاقل منا يشتغل بدقيق الفكر والنظر ويستنبط العلوم الغامضة ولا يخطرها (جميعا بباله) ذلك معلوم عند كل عاقل غير مكابر، فلو كانت هي العقل لم يعد من العقلاء إلا من تصور جميعها، ولما أمكن عاقلا الاشتغال بنحو النظر إلا بإحضارها جميعا بباله وقد بينا بطلانه، هذا وأما تكليف المكلف بالشرعي فيعتبر فيه ما تقدم من كمال العقل وبلوغه بالاحتلام أو الإنبات أو السنين أو نحو ذلك على ما هو مقرر في كتب الفقه. وقد بنى إمام زماننا القاسم بن محمد أيده الله تعالى على أن من عد من العقلاء وأولي الألباب فهو مخاطب بالكل لأنه لم يفصل الدليل والخطاب وقد قال تعالى { واتقون يا أولي الألباب } (البقرة:193) ( هو) : النظر .
[ النظر ]
اختلف فيه فقيل : لفظة مشتركة وهو قول الأكثر، وقيل : معناه
مفرد وهو نظر الفكر الذي هو المراد هنا وهو حقيقة فيه مجاز في غيره، والظاهر ما عليه الأكثرون من القول باشتراكه بين معان خمسة:-
[ معاني النظر ]
القول باشتراكه بين معان خمسة:-
أولها : نظر العين وهو تقلب الحدقة السليمة إلى جهة المرئي التماسا لرؤيته ومنه قول الشاعر:
نظروا إليك بأعين مزورة نظر التيوس إلى شفار الجازر
وعلى هذا حمل قوله تعالى في قصة المنافقين{وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد}(التوبة:127) معناه قلب بعضهم حدقته السليمة في جهة البعض الآخر التماسا لرؤيته.
पृष्ठ 15
وثانيها: نظر المقابلة يقال الجبلان يتناظران والداران تتناظران معناه تتقابلان ويدل عليه قول الشاعر:
إذا نظرت إلي جبال أحد أفادتني بنظرتها سرورا
معناه قابلتني .
قال الدواري: فيه نظر إذ مقصود الشاعر بنظر جبال أحد تقليب أحداقها أورده على جهة الاستعارة والتجوز.
وثالثها: نظر الانتظار وهو التوقع لحصول أمر في المستقبل ومنه قول الشاعر:
وجوه يوم بدر ناظرات إلى الرحمن يأتي بالخلاص
معناه منتظرة وعليه قول الله تعالى في قصة بلقيس السبأية { إني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون } (النمل:35) معناه منتظرة.
ورابعها: نظر الرحمة وهو إرادة حصول منفعة للغير أو دفع مضرة عنه ومنه قول الشاعر:
أنظر إلي بنظرة من رحمة فالفقر يزري والنعيم متجل
ويروى بعين برك نظرة .
قال الدواري: فيه نظر لأنه أراد تقليب الحدقة ، وكأنه جعل للرحمة حدقة ، ولتلك الحدقة نظرات تعطف ورأفة فأمره أن ينظر إليه بتلك النظرات ، وهذا على جهة الاستعارة الرائقة ، ويشهد بذلك أن الرحمة قد ذكرت فلا (يصح أن يكون المراد) نظر الرحمة ، ومن ذلك قول الله تعالى في قصة أهل النار { ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم } (آل عمران:77) معناه ولا يرحمهم.
وخامسها: نظر الفكر وهو المراد هنا وهو إجالة الخاطر في شيء لتحصيل اعتقاد ويرادفه التفكر ، وعليه حمل قول الشاعر:
पृष्ठ 16
انظر بفكرك تستبين المنهجا .... واعلم بأن الفكر هو سبب النجا ومنه قوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت...الآية } (الغاشية:17) معناه أفلا يتفكرون في خلقها لأنهم قد كانوا ينظرون إليها نظر الأحداق فحثهم على ما أهملوه ، وهو الفكر بالقلب وهو منقسم إلى صحيح وفاسد، فالصحيح ما تتبع به أثر نحو التفكر في المصنوع ليعرف الصانع. والثاني : ما كان رجما بغيب نحو التفكر في ماهية الروح وذات الباري.
نعم والقول بأن النظر الصحيح يجب على المكلف هو مذهب أئمتنا عليهم السلام وصفوة الشيعة والمعتزلة وغيرهم، ووجوبه من جهة العقل و(من جهة) السمع على ما نبينه، وإنما قالوا : بوجوبه لأنه المؤدي أي الموصل إلى معرفة الله تعالى وهو موجب لها، وأنكر أبو علي الأسواري وصاحب الجوهرة ذلك ، وقالا: ليس بموصل إليها ولا موجب لها وإنما هو شرط اعتيادي كما يشترط في الحفظ الدرس، وعلى القولين فالمعرفة هي المقصودة،ولكن لولاه لما حصلت،واختلفوا أيهما أحق بأن يطلق عليه أنه أول الواجبات.فقالت الزيدية والمعتزلة البصرية : الأحق بهذا الاسم النظر لأنه سابق لتأدية المعرفة. وقالت البغدادية : الأحق بهذا الاسم المعرفة لأنها المقصودة وإنما هو وصلة إلى حصولها .
وخالف في وجوبه قوم منهم أهل المعارف والتقليد ومنهم أهل الخبرة قالوا: وجدنا كل فرقة قد بذلت وسعها وأفضى بها النظر إلى صحة اعتقادها وبطلان اعتقاد مخالفها فوجب اطراح النظر ومنهم أهل التكافؤ قالوا: وجدنا كل فرقة قد أقامت البراهين على اعتقادها وعتقدت أنما نظر فيه المخالف لها شبهة وليس بعض ذلك أولى من بعض فوجب اطراح النظر.
पृष्ठ 17
والجواب: أن الدلالة الصحيحة قد دلتنا على وجوب النظر@ عقلا وسمعا ولا يترك ما دلت عليه الدلالة الجلية لأجل أمر محتمل، أما من جهة العقل فالمعلوم قطعا أن شكر المنعم واجب وإن الإخلال به قبيح ، وجهله يستلزم الإخلال بشكره على النعم، لأن توجيه الشكر إلى المنعم مترتب على معرفته ضرورة وهي واجبة لذلك لا لغيره.ولا طريق للمكلفين إليها سواه ، أي النظر لامتناع أن تعرفه بالبديهة وإلا لما اختلف العقلاء فيه،ومعلوم خلافهم، وبالمشاهدة لأنها لو صحت مشاهدته في حال من الأحوال لشاهدناه الآن،ومعلوم أنا لا نشاهده الآن وسيأتي لهذا مزيد إيضاح.وبالأخبار المتواترة لأن الأخبار المتواترة لا تكون طريقا إلى العلم إلا إذا كانت مستندة إلى المشاهدة بدليل أنه لو أخبرتنا طائفة عظيمة بوجود بلد في الدنيا يقال لها بغداد لعلمنا ذلك ، ولو أخبرتنا تلك الطائفة أن الله تعالى يرى بالأبصار لم نعلم صحة خبرها ، ولم يكن فرق إلا أن الأول مستندة إلى المشاهدة التي لا يجوز فيها الالتباس ، والثاني مستندة إلى الاعتقاد الذي يدخله الالتباس . فلما سبرنا هذه الأقسام ولم نجد واحدا منها يصح أن يكون طريقا إلى معرفة الباري ، علمنا أنه لا طريق إليها سوى النظر الذي هو الفكر،إذ لا طريق تعدو هذه الأربع .
وإذا تقرر ذلك علمنا وجوب النظر، لأن من المعلوم : أن ما لا يتم الواجب الذي هو المعرفة مثلا إلا به يكون واجب كوجوبه ، وإلا وقع الإخلال بالواجب ، وقد قضى العقل بقبحه .
पृष्ठ 18
دليل ذلك : أن من وجب عليه قضاء دين أو رد وديعة أو نحو ذلك ولم يتمكن من ذلك إلا بالقيام وفتح الباب وإخراج المال فإنها تجب عليه هذه الأفعال كلها، وإنما وجبت عليه لكونها وصلة إلى الواجب، بدليل أن العقلاء يذمون على الإخلال بها كما يذمون على الإخلال برد الوديعة. فتقرر بهذا الدليل وجوب النظر لأجل كون المعرفة لا تحصل إلا به.
تنبيه : ما ذكرناه في أثناء الدليل من قولنا : أن جهل المنعم (مستلزم للإخلال) بشكره . فمبني على أن الطاعات شكرا كما هو مذهب الهادي عليه السلام وقدماء العترة،وأما من يقول : أن الشرائح ألطاف في العقليات،وأن الشكر الاعتراف فقط . كما هو مذهب المهدي عليه السلام ، وكثير من المعتزلة وبعض صفوة الشيعة فيقولون : إن وجه وجوب المعرفة كونها ألطافا في أداء الواجبات . ومعنى ذلك أن العبد إذا عرف أن له خالقا يثيبه إن أطاعه ويعاقبه إن عصاه كان أقرب إلى أداء الواجبات ، وكلامهم من أصله باطل لقوله تعالى { اعملوا آل داود شكرا } (سبأ:13) ، وإجماع أهل العربية على أن الشكر قول باللسان واعتقاد بالجنان وعمل بالأركان في مقابلة النعمة قال الشاعر:
أفادكم النعماء مني ثلاثة .... يدي ولساني والضمير المحجبا
[ أدلة وجوب النظر ]
وأما الدليل:على وجوب النظر من جهة السمع فقوله تعالى { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } (الغاشية:17). ونحوها،وقصرت المجبرة الاستدلال على ذلك على السمع وأنكرت أن يكون العقل دليلا بناء منهم على أصلهم وهو إنكار التحسين والتقبيح العقليين،وكلامنا عليهم من جهة إبطال أصلهم بالكلية،ومن جهة إبطال إنكار أن يكون العقل دليلا على وجوب النظر خاصة.
पृष्ठ 19
أما الأول:فهو أنا نعلم من حال العقلاء أنهم يصوبون من مدح المحسن أو أحسن إليه،ومن ذم المسيء أو عاقبه وما ذاك إلا لكونهم يرون الإحسان في العقل حسنا والإساءة في العقل قبيحة،فإنكارهم لذلك مخالفة لما عليه العقلاء.
وأما الثاني : فإنه يلزم من قولكم أحد محذورين،أما الدور وأما الكفر. أما الدور فحيث نقول بوجوب النظر على المكلفين في صحة دعوى الأنبياء عليهم السلام. لأنه لا يجب النظر إلا بالسمع والسمع لا يثبت إلا بالنظر،وأما الكفر فحيث نقول بعدم وجوب ذلك عليهم لأنه يلزم منه تصويب من أعرض عن دعوة الأنبياء عليهم السلام إذ لا واجب عليه وذلك كفر لأنه رد لما جاءت به الرسل وما علم من دين كل نبي ضرورة،وأيما كان فهو باطل.
ثم اعلم أن الذين قالوا بوجوب النظر اختلفوا هل هو فرض عين أو فرض كفاية؟.
فالذي عليه أئمتنا والجمهور أنه فرض عين. وقال أبو إسحاق بن عياش والبلخي والعنبري ورواية عن القاسم ورواية عن المؤيد بالله: بل فرض كفاية، ثم افترقوا في التقليد،فابن عياش والعنبري وغيرهما ورواية عن المؤيد بالله يجوز مطلقا أي تقليد المحق وغيره هكذا رواه في الأساس عنهم،ونسب الدواري ذلك إلى البلخي والحشوية،ونسب إلى ابن عياش جواز التقليد لمن غفل عن طريق النظر كالنساء والعبيد والعوام،قال وقد روي مثل ذلك عن البلخي أيضا،قال الدواري: وذكر القاسم أن مقلد المحق ناج . قال في الأساس: هذه رواية عنه وهو مذهب البلخي.
पृष्ठ 20