وجلست إلى البيانو وقالت: إنها ستعزف مقطوعة «ستراديلا»، وكنت - ولا أزال - أحب الموسيقى الخاشعة، وكانت أسمعتني هذه القطعة من قبل فهزت أوتار قلبي.
وبعد أن أتمت عزفها التفتت إلي وقالت: إن هذه القطعة من تأليفي أنا. - أأنت واضعة هذه الأنغام؟ - أجل، وكنت أوهمتك أنها من موضوعات «ستراديلا» لأعلم رأيك فيها، وما تعودت أن أوقع على البيانو الأنغام التي أتوصل أحيانا إلى تأليفها، وقد أردت هذه المرة أن أعرف مبلغ نجاحي، فجاء انخداعك مؤيدا حسن ظني.
يا للإنسان وما فيه من غرائب!
إن هذه الحيلة البريئة التي تخطر لولد يريد مفاجأة معلمه نشرت أمام عيني غماما، ولحظت هي أن سحنتي تغيرت فسألتني، فأخفيت عنها ما بي ورجوتها أن تكرر العزف.
وبدأت أخطر ذهابا وإيابا في الغرفة وأنا أستمع إلى الأنغام، فأمرر راحتي على جبيني كأني أحاول طرد ما يخيم على عيني من ضباب، فكنت أضرب الأرض بقدمي وأهز كتفي كأنني أوقع على ما يساورني من جنون، وجلست أخيرا على وسادة على الأرض فهرعت بريجيت إلي وأنا أنازع تفكيري فيما يجتاحه من لبدات الظنون فقلت لها : الحق أنك ماهرة في الكذب. أأنت واضعة هذه الأنغام؟ أبمثل هذه السهولة تكذبين؟
فنظرت إلي باستغراب متسائلة عما يدور في خلدي وهي لا تصدق أن بي من الجنون ما يدفعني إلى تقريعها على مثل هذا المجون البريء، وكانت تعلم تفاهة السبب في كدري، فزاد هذا الكدر أهمية في تقديرها، ولاح لها أنني أردت مقابلة مجونها بمثله، ولكنها رأت على جبيني من الشحوب ما منعها من الأخذ بهذا الافتراض، فانفرجت شفتاها وانحنت فوقي وقد خانتها القوى فقالت: يا الله! أهذا ممكن؟
لقد تبتسم أيها القارئ وأنت تطالع هذه الصفحة، ولكنني - أنا كاتبها - لا أزال أرتعش منها حتى الآن.
إن للمصائب ما للأمراض من أعراض تدل عليها، ولا شيء أشد خطرا في البحر من نقطة سوداء تلوح على أفقه.
ولما طلع الفجر وضعت بريجيت في وسط الغرفة خوانا صغيرا أعدت عليه طعام العشاء أو بالحري فطور الصباح؛ لأن العصافير كانت بدأت بالزقزقة في الحديقة، وأسراب النحل بدأت في الطنين.
وما كنت أرفع الكأس إلى فمي قبل أن ترطب مرشفه بشفتيها.
अज्ञात पृष्ठ