دخلت الغرفة لاجئا من المطر، وإذ كنت أتساءل عن سبب وجود هذه السيدة في هذا المكان في مثل هذه الساعة المتأخرة، سمعت أنينا، فأدرت وجهي نحو مصدره، فإذا امرأة الزارع منطرحة على سريرها وقد رسم الموت طابعه على وجهها.
وقعدت مدام بيارسون تجاه زوج العليلة وقد انهدم في جزعه وحزنه، وأشارت إلي بعدم الإتيان بأقل حركة؛ لأن المريضة كانت نائمة، فأخذت مقعدا وجلست منتظرا مرور العاصفة.
وكانت مدام بيارسون تنهض من آن لآخر لقرب فراش المريضة، ثم تعود لتقول للزارع بعض كلمات بصوت خافت، وكان أحد أطفال البيت قد اقترب مني فأجلسته على ركبتي، فقال لي: إن هذه السيدة تجيء كل مساء لعيادة أمه، وإنها تمضي الليل عندهم بعض الأحيان؛ لأنها كانت تعتني بالمريضة لعدم وجود راهبات في هذه الأنحاء، وأضاف الولد إلى هذه المعلومات قوله بصوت جد منخفض: ليس من ممرضة سواها، ولا طبيب عندنا إلا الطبيب الجاهل ... أما هي فتدعى بريجيت الوردية، أفلا تعرفها؟
فقلت: لا، ولكن لماذا يلقبونها بالوردية؟
فقال: لا أدرى، ولعلها احتفظت بهذا اللقب منذ كانت بائعة ورود.
وكانت مدام بيارسون نزعت قناعها، ولما نزل الولد عن ركبتي نظرت إليها، فإذا هي واقفة أمام سرير المريضة تقدم لها كأسا لتشربها وقد انتبهت هذه المريضة من نومها. وكانت الممرضة شاحبة الوجه، ممتقعة اللون، ذات شعر أشقر يضرب إلى الرمادي، وما أدري ما أقول عن جمالها، غير أنني حين رأيتها تحدق بعينيها السوداوين بعيني المريضة، والمريضة تعلق أبصارها بها، رأيت بين لحظات هذا الإحسان وهذا الامتنان نوعا من الجمال يقصر عن وصفه كل بيان.
واشتد انهمار المطر، وغرقت الحقول المقفرة بالظلام تمزقه من حين إلى حين بروق خاطفة تتبعها قعقعة الرعود، فكان زئير العاصفة، وأزير الريح، وثورة العناصر خارج الكوخ يزيد رهبة ما في داخله من صمت خاشع، فيبدو المشهد أمامي أشد روعة في قدسيته.
وكنت أجيل الطرف فيما حولي على الجدران الحقيرة، وزجاج النوافذ تقرعه الأمطار، والضباب الكثيف تقذفه العاصفة كالدخان، فأرى يأس الزارع في جزعه الجامد، وذعر الأطفال، وهذه المدنفة تحاصرها كل هذه العناصر الثائرة الصاخبة، وأرى قربها على هذا المسرح الفجيع هذه المرأة المنتصبة بشحوبها ولطفها تذهب وتجيء كأنها تجس الأرض جسا وهي مستغرقة بما تهتم به، فلا تبالي بالعاصفة ولا بأحد ممن ينظرون إليها حتى كأنها لا تبالي بجرأتها وإقدامها، فكنت أشعر أن بهذا العمل المبرور من الصفاء في رصانته ما هو أبهى من صفاء السماء وقد انقشعت عنها الغيوم، فأنظر إلى هذه المرأة كأنها مخلوق أسمى من البشر؛ لأنها وقد أحاطت بها كل هذه المفجعات لم يداخلها الشك لحظة في وجود ربها ورحمته.
من هي يا ترى هذه المرأة؟ ومن أين أتت؟ وهل هي هنا منذ زمن بعيد؛ إذ يذكر الناس أنها كانت بائعة ورود؟ لماذا لم أسمع بها من قبل؟ لقد جاءت وحدها إلى هذا الكوخ في مثل هذه الساعة، فهي إذن لا تسارع إلا إلى حيث تدعوها المصائب والأخطار، فتتجول تحت العواصف بين الغابات في الجبال مقنعة تحمل الحياة لمن يحتاجون إلى الحياة، وبينما تحمل كأس الدواء للأعلاء لا تنسى أن تلاطف جديها الأبيض في طريقها.
إن هذه المرأة تسير بخطواتها المتزنة الهادئة لمكافحة الموت ماشية بالخطوات نفسها إلى موتها.
अज्ञात पृष्ठ