وكان في هذه الصبية شيء لا يحدد إلا بأنه مزيج من أخشن الأشياء وألطفها، وقد تغلغل العطف في فحشائها، فوجمت حائرا في تقديرها، ولو أنها كانت التقت بي في شارع ومدت يدها إلي لتراجعت عنها مشمئزا، غير أنني وأنا في حالتي كنت أرى من الغرائب أن تتقدم نحوي فتاة ما رأيتها من قبل، فتجلس صامتة إلى خواني، وتتناول طعامها أمامي، ثم تجفف مدامعي بمنديلها؛ لذلك بت أمامها واجما ثائرا مخلوبا.
وسمعت صاحب الحانة يسائلها عما إذا كان لها معرفة بي، فأجابته إيجابا وطلبت ألا يتدخل أحد في أمري، وبعد قليل من الزمن انصرف اللاعبون، وأقفل صاحب الحانة أبوابها من الداخل، ثم انسحب إلى غرفته الخاصة، وهكذا بقيت لوحدي مع الفتاة.
وكانت هذه الحوادث، التي أثرتها بما فعلت وأنا مستسلم لليأس، قد مرت بسرعة توهمت معها أنني أشاهد حلما، فاضطربت أفكاري حتى حسبتني جننت، أو استولت علي قوة مجهولة.
وصحت بالفتاة فجأة: من أنت، وما تريدين مني؟ وأين عرفتني من قبل؟ من كلفك بمسح دموعي؟ أهذه واجبات مهنتك؟ وهل تظنين أنني أرضى بك؟ إنني لن أمسك بأطراف أناملي. ماذا تفعلين هنا؟ أجيبي، أمالا تطلبين؟ وبأي ثمن تبيعين إشفاقك؟
ونهضت طالبا الخروج، ولكنني شعرت بأن رجلي لا تقدران على حملي، وأن غشاوة أسدلت على عيني، ونفدت قواي فارتميت على مقعد مستطيل عثرت به.
أخذت الفتاة بيدي وقالت: أنت متألم ... لقد شربت كما يشرب الأطفال أمثالك، فما عرفت ماذا فعلت ... انتظر على هذا المقعد إلى أن تمر عربة ... قل لي عنوان أمك لأرسلك إليها.
ثم تضاحكت قائلة: اذهب إلى بيتك ما دمت قبيحة في نظرك ...
والتفت إليها وهي تتكلم، وما أعلم إذا كان السكر أراني ما رأيت، ولم أتبين إذا كان ضلالي سبق هداي أم هداي سبق الضلال، فرأيت في وجهها صورة لوجه خليلتي، وعند ذلك شعرت بصقيع الجليد في أعضائي.
إن الإنسان ليشعر أحيانا بارتعاش في شعر رأسه، ويقول السذج: إن ذلك دليل على مرور ملاك الموت، وما كان الموت ما مر على رأسي بل «داء العصر»، وما كانت هذه الفتاة إلا ذلك الداء بعينه تجسم فيها شاحبا هازئا بنبرات الصوت الأبح، وجاء يجالسني في زاوية من هذه الحانة.
الفصل العاشر
अज्ञात पृष्ठ