لأول مرة هاجمت فيها بريجيت بمثل هذا الكلام، أرسلت إلي نظرة هزت مشاعري ولن أنساها ما حييت، ولكنني قلت في نفسي: إذا أنا تعرضت للدفاع عن هذه المرأة؛ فإنها ستفعل بي ما فعلته خليلتي الأولى، فتعرضني لهزء الناس وسخريتهم؛ فأجني الغرم عما غنمت وعما غنم الآخرون.
إن المسافة لجد قصيرة بين الشك والإنكار، وما أقرب المتفلسفين إلى الملحدين. قلت لبريجيت: إنني أرتاب بسلوكها الماضي، فرأيتني مدفوعا إلى الارتياب حقيقة، وما طال الزمن حتى أسلمني هذا الشك إلى اليقين، فتصورت أن بريجيت تخونني، في حين أنني لم أكن أبارحها ساعة واحدة، وعمدت أخيرا إلى التغيب عنها من حين إلى حين، مقنعا نفسي أنني أحاول تجربتها، وما كنت أقصد بذلك إلا إطلاق العنان لشكوكي، ثم أعود بعد تغيبي لأقول لها: إنني برئت من غيرتي فأصبحت أهزأ بوساوسي القديمة، وما كان معنى ذلك سوى اضمحلال غيرتي لوهن طرأ على هيامي.
وكنت من قبل أحتفظ لنفسي بما ألاحظه من حالها، فأصبحت أجد لذة في إبداء ما يعن لخاطري؛ فأقول لها مثلا: إن ثوبك هذا جد حسن، وقد كان لإحدى صويحباتي مثله شكلا ولونا. فإذا جلسنا إلى المائدة أدعوها إلى الإنشاد قائلا: إن خليلتي القديمة كانت ترسل صوتها بعد الطعام، أفلا يجدر بك التشبه بها؟ وإذا أرادت العزف على البيانو أبادرها بقولي: أرجوك أن تسمعيني ألحان الرقصة التي كانت منتشرة في الشتاء المنصرم؛ فإنها تذكرني بأويقات المرح والسرور.
ودام الحال بيننا على هذا المنوال ستة أشهر لم أنقطع فيها عن اللوم والتقريع، وقد تحملت بريجيت أثناءها من الإهانات ما لا يوقعه إلا فاسق ببغي تتقاضاه أجرا عن تمتعه بها.
وكنت كلما اقتحمت هذه المشاكسات ملهبا أفكاري، ومقطعا قلبي بالاتهام والسخرية، أتراجع عنها، وقد بلغ الهيام بي أشده، فأقف أمام خليلتي وقفة الوثني أمام صنمه.
كنت أوجه أشد الإهانات إليها، ولا يمر ربع ساعة حتى أجثو عند قدميها، فإذا ما انتهيت من التقريع بدأت بالاستغفار، وإذا خرجت من التهكم لجأت إلى ذرف الدموع، وتثملني سعادتي فأطير فرحا، وتثور أعصابي فأنقلب إلى العنف، لا أدري ما يجب أن أقول أو أفعل للتكفير عما أخطأت به، فأهرع إلى بريجيت لأضمها إلى صدري طالبا منها أن تكرر مائة مرة قولها: إنها تحبني وتغضي عن إساءتي، واعدا بالتعويض عما بدر مني، مقسما بأنني سألهب دماغي بقذيفة إذا أنا عدت إلى إهانتها.
وكانت الثورة في عواطفي تمتد الليل بطوله، فلا أنقطع عن الكلام والبكاء والانطراح على أقدامها، وارتشاف كأس الغرام ثملا من ثمالتها، حتى إذا بزغ الفجر أجدني متهدما، فأستسلم للكرى، وأنهض بعد الصباح وعلى شفتي بسمة الساخر الذي لا يؤمن بشيء.
وكانت بريجيت في مثل هذه الليالي المشتعلة بنار الملذات تتناسى شخصيتي الجائرة، فلا تنظر مني إلا إلى الرجل الماثل بين ذراعيها، وإذا ما خطر لي أن أكرر طلب العفو منها تجيبني بقولها: أفما تعلم أنني غافرة لك؟ وكانت الحمى التي تتأكلني تلهب دمها، فلكم أعلنت لي ووجهها ممتقع شهوة وهياما: إنها راضية بي على ما أنا عليه، وإن في ثائرات عواطفي تتنفس حياتها، فسعادتها كامنة فيما أؤديه ثمنا لتعذيبي لها، وإنها لن تشكو أية شكوى ما دام في قلبي شرارة من نار الغرام، ثم تقول: لا ريب في أنني سألاقي الموت في هذه الحياة، ولكنني أرجو أن تلقاه أنت أيضا فيها؛ ولهذا أشعر باللذة تغمرني من كل ما توجهه إلي من إهانة، أو تذرفه من دموع، فهي السعادة التي حفرت قبري فيها.
ومرت الأيام يستفحل بكرورها دائي ، فأصبحت ثائرا، إذا ما حكمتني نوبة الجنون صحبتها حمى شديدة تهزني فجأة فلا تغادرني إلا وقد تصبب العرق من جميع أعضائي المرتعشة. وقد كان يكفيني أن يقع بي حادث ليس في الحسبان، أو أشاهد ما يثير دهشتي حتى تسودني رجفة يرتاع لها كل من يراني، وكتمت بريجيت شكواها، فنم عنها شحوبها، وما بدأت مرة بالإساءة إليها بعد هذا إلا خرجت من أمامي دون أن تفوه ببنت شفة، لاجئة إلى غرفتها توصد بابها عليها.
إنني أحمد الله لأنني ما رفعت يوما يدي على بريجيت حتى في أشد هياجي، وقد كنت أفضل الموت على هذه الفعلة النكراء.
अज्ञात पृष्ठ