حاج يعظ المنصور
وذكر الغزالي وابن بليان وغيرهما، أن أبا جعفر المنصور حج ونزل في دار الندوة، وكان يخرج سحرا فيطوف بالبيت، فخرج ذات ليلة سحرا، فبينما هو يطوف إذ سمع قائلا يقول: اللهم أشكو إليك ظهور البغي والفساد في الأرض، وما يحول بني الحق وأهله من الطمع. فهرول المنصور في مشيته حتى ملأ سمعه ثم رجع إلى دار الندوة. وقال لصاحب شرطته: إن بالبيت رجلا يطوف فأتني به. فخر صاحب الشرطة فوجد رجلا عند الركن اليمني. فقال: أجب أمير المؤمنين. فلما دخل عليه، قال: أنا الذي سمعتك آنفا تشكو إلى الله من ظهور البغي والفساد في الأرض وما يحول بين الحق وأهله من الطمع، فوالله لقد حشوت مسامعي ما أمرضني.
فقال له: يا أمير المؤمنين، إن الذي داخله الطمع حتى حال بين الحق وأهله وامتلأت بلاد الله بذلك بغيا وفسادا أنت هو.
فقال له المنصور: ويحك كيف يداخلني الطمع، والصفراء والبيضاء ببابي وملك الأرض في قبضتي.
فقال الرجل: سبحان الله يا أمير المؤمنين، وهل داخل أحدا من الطمع ما داخلك؟ استرعاك الله أمور المؤمنين وأموالهم فأهملت أمورهم واهتممت بجمع أموالهم، واتخذت بينك وبين رعيتك حجابا من الجبس والآجر وحجبة معهم السلاح وأمرت أن لا يدخل عليك إلا فلان وفلان، نفر استخلصتهم لنفسك وأمرتهم على رعيتك، ولم تأمر بإيصال المظلوم ولا الجائع ولا العاري، ولا أحد إلا وله في هذا المال حق. فلما رآك هؤلاء الذين استخلصتهم لنفسك وآثرتهم على رعيتك تجمع الأموال وتقسمها، قالوا: هذا خان الله ورسوله فما لنا لا نخونه؟ فأجمعوا على أن لا يصل إليك من أموال الناس إلا ما أرادوا. فصار هؤلاء شركاءك في سلطانك، وأنت غافل عنهم، فإذا جاء المظلوم إلى بابك وجدك وقفت رجلا ينظر في مظالم الناس، فإن كان الظالم من بطانتك علل صاحب المظالم بالمظلوم وسوف من وقت إلى وقت، فإذا اجتهد وظهرت أنت صرخ بين يديك، فضربه أعوانك ضربا شديدا ليكون نكالا لغيره، وأنت ترى ذلك ولا تنكر. لقد كانت الخلفاء قبلك من بني أمية إذا أتت إليهم الظلامة أزيلت في الحال، ولقد كنت أسافر إلى الصين يا أمير المؤمنين، فقدمت مرة فوجدت الملك الذي به قد فقد سمعه، فبكى، فقال له وزراؤه: ما يبكيك أيها الملك؟ لا أبكى الله لك عينا إلا من خشيته.
पृष्ठ 87