وحالما ظهرت مقدرته في علم اللغات اختير أستاذا فيه، في مدرسة أكسفورد الجامعة، فأقام فيها نحو خمسين سنة. ولبعض العلماء مثل هكسلي وتندل وفوستر مقدرة فائقة على بسط المواضيع العلمية وهم يخطبون فيها حتى ترى الناس يتقاطرون إلى نوادي الخطابة عن طيب نفس ولو كان الموضوع من المسائل الطبيعية العويصة، فجرى مكس مولر مجراهم وبلغ الطبقة العليا بينهم، فكان يخطب في علم اللغات وقد لا يقول شيئا جديدا أو شيئا لم يذكره أحد قبله، ولكنه كان يفصح عنه على أسلوب يختلب الألباب لم يسبقه أحد إليه حتى ذاع اسمه في البلاد الإنكليزية كلها وصارت خطبه من المواضيع التي يتحدث الناس بها في مجتمعاتهم وولائمهم وذهب كثير من أقواله أمثالا.
ولم تكن آراؤه كلها مما يقوى على النقد والتمحيص ولا لقي الطاعة العمياء من معاصريه والتسليم التام لمقدماته ونتائجه، بل لقي من علماء عصره كل منتقد عنيد كما ترى في ما ذكرناه في المجلد السادس عن رأيه في أصل اللغات وانتقاد الأستاذ «هوتني» عليه. وكذا مذهبه في اشتقاق الشعوب الأوربية من الشعوب الآرية وتولد الأوروبيين والهنود من أصل واحد ومهاجرة الأوروبيين إلى أوروبا من قلب آسيا، فإن كثيرين من نخبة العلماء يخالفونه الآن في هذا المذهب. ويقال بنوع عام إنه كان متطرفا في مذاهبه متسرعا في أحكامه، لكن لا ينكر أحد أن علم اللغات (الفيلولوجيا) الذي وضعه الأستاذ بوب سنة 1835 لم يوسعه أحد مثل تلميذه «مكس مولر». وكتابه في «عقائد الأمم» لا يخلو من آراء غير سديدة ولكنه هدى العلماء إلى مكتشفات عديدة في هذا الموضوع وأوضح كثيرا من الغوامض بذكاء عقله وقوة بداهته.
ولا شبهة عندنا في أنه وسع نطاق علم اللغات ورغب الناس في درسه وعلم الأوروبيين والمشارقة أنفسهم كثيرا مما لم يكونوا يعلمونه من تاريخ لغاتهم ومعتقداتهم، ولكننا نرتاب كثيرا في أن ذلك أفاد سكان المشرق سياسيا؛ فقد بذل جهده مدة خمسين سنة ليقنع الإنكليز أن الهنود أبناء أعمامهم، لكن هذا لم يغير رأي الإنكليز في الهنود ولا أفاد الهنود مثقال ذرة. ومن لا يقنعه قول الكتاب أن الناس كلهم من أب واحد وأم واحدة لا تقنعه آراء العلماء وأقوال الفلاسفة.
وكان رضي الأخلاق كثير الأصدقاء يقصده الزوار من أقطار المسكونة ويكاتبه الناس بلغات شتى. اختار إنكلترا وطنا له لكن حب ألمانيا وطنه الأصلي لم يهجر فؤاده، فلما نشبت الحرب بين فرنسا وألمانيا سنة 1870 نشر خمس مقالات في جريدة التيمس دافع فيها عن سياسة «بسمارك» وأقام الأدلة على أنه كان يقصد بها السلم لا الحرب. وبقي العمر كله عالما ألمانيا بين العلماء الإنكليز. وقد بذل الإنكليز جهدهم في إكرام مثواه وخلقوا له منصب أستاذية اللغات الأجنبية خلقة لكي لا يحرموا فوائده ولا يدعوه يهجر بلادهم. ثم أبدلوها بأستاذية علم اللغات (الفيلولوجيا). ولما كثرت أشغاله وود أن يعفى من هذا المنصب لأنه لم يعد قادرا على القيام به عينت المدرسة أستاذا آخر نائبا عنه يقوم بأعبائه وأبقت الأستاذية له. ولكن لما خلت كرسي أستاذ السنسكريت وترشح لها هو والأستاذ الإنكليزي «مونير وليمس» فضل المنتخبون «مونير وليمس» عليه، لا لأنه أكفى منه لهذا المنصب بل لأنه إنكليزي و«مكس مولر» ألماني، فاستاء من ذلك لكنه لم يحقد على الذين فضلوا غيره عليه. وود مرارا أن يترك أكسفورد، وأما أكسفورد فلم تتركه، وقد أكرمته كما أكرمت أشهر تلامذتها وأعظم أساتذتها، وكان الصلة المتينة بينها وبين علماء أوروبا ولا سيما علماء ألمانيا حتى إن إمبراطور ألمانيا كان يبعث إليه بتلغراف التهنئة كلما فازت أكسفورد في سباق أو نحوه.
توفي في الثامن والعشرين من أكتوبر سنة 1900 في بيته بأكسفورد على أثر مرض عقام في كبده، واحتفل بدفنه في غرة نوفمبر/تشرين الثاني وحضر الاحتفال الجنرال «غودفراي كلارك» من قبل جلالة الملكة، والهر «شلز ستينورتز» من قبل جلالة إمبراطور ألمانيا، وبعث الإمبراطور بإكليل فاخر من الأزهار البيضاء وضع على النعش وقد كتب عليه «لصديقي العزيز»، وبعث ملك اسوج إكليلا من الزنابق. وحضر الاحتفال أيضا ولي عهد سيام ونواب المدارس الجامعة والجمعيات العلمية.
مقدمة المؤلف
بقلم فريدريخ مكس مولر
الحرقة اللاذعة قلب من جلس إلى منضدة طالما اتكأ عليها صديق نام الآن في القبر ليستريح، ترى من لا يشعر بتلك الحرقة بعد فراق الحبيب؟ من ذا الذي لم يحاول ولو مرة فتح أبواب حفظت أسرار فؤاد يختفي اليوم وراء هدوء المدافن وجلالها؟
هذه رسائل أحبها كثيرا ذاك الذي أجمعنا القلوب على محبته. وهذه صور، وأشرطة، وكتب وضعت بين صفحاتها العلامات والرموز. من ذا الذي يستطيع الآن تقليبها ليستشف الغاية منها؟ وهل من يد سحرية تلم شمل هذه الوردة الممزقة الجافة وتنفث فيها من جديد روح الحياة وأريجها؟
كان اليونان يضعون موتاهم على فراش ناري فيلتهمها اللهيب. واعتاد الأقدمون إيداع النار كل عزيز لديهم، وإنما النار مستودع أمين لهاتيك الذخائر.
अज्ञात पृष्ठ