فعلام الازدجار وقد يكون حل المقدور؟ ألم يقل الطبيب إنها ضعيفة القلب وإنه يتوقع أن تفارق الحياة من إلى يوم؟ فهل أغتفر لنفسي تهاونها إذا غادرت صديقتي الدنيا دون أن أودعها وأبوح لها بحبي ولو في الساعة الأخيرة؟ ألا يتحتم علي البحث عنها الآن لأستمع منها كلمات الحب والغفران؟ لماذا يتردد الناس في قضاء الشئون ويؤجلون مخيرين غبطة تتيسر في الحال ناسين أن كل دقيقة قد تكون الأخيرة وأن ما فقد من الزمن فقد فقد من الأبدية؟
فكرت في اجتماعي والطبيب قبيل السفر فأدركت أني لم أرحل إلا لأثبت له أني قوي صلب الإرادة وقد عز علي الاعتراف بضعفي وباحتياجي إلى صديقتي، فاتضح لي الواجب في الحال وهو العودة إليها على استعداد لقبول ما تبعث به إلينا السماء من فرح وترح، وذكرت قول الطبيب بقرب ذهابها إلى البرية وقولها لي قبلئذ أنها اعتادت الاصطياف في قصرها في التيرول. أتكون إذن على مقربة مني لا يفصل بيننا سوى سفر ساعات قلائل؟ ما كاد يتضح الفكر حتى عاجلته بالتنفيذ، فغادرت المكان عند انبثاق الفجر ووجدني الغروب أمام قصرها.
وكان المساء هادئا جميلا وقد ضرب مجد الغروب فوق قمم الجبال رواقا عسجديا فسبحت الهضاب في زرقة وردية، وتصاعد من الأودية ضباب رمادي فجعل يستحيل لامعا بملامسة الهواء المنير، ثم اتجه نحو أعالي الجو كبحر ضياء متحرك. وتعدد تلك الألوان وألاعيب هاتيك الأنوار كان يعكس على صفحة البحيرة المضطربة فتبدو فيها ذرى الجبال مراقصة رءوس الأشجار وسطح الكنيسة المستدير، وكأن تلك الرسوم في الماء كانت هي بعينها الحد الفاصل بين عالمي المحسوس والخيال.
استقرت عيناي على القصر القديم حيث أرجو الاجتماع بها، ولم يكن في النوافذ نور ولا حول الجدران صوت يقلق سكون المساء. إن قلبي ليحدثني بلقياها، أيكذبني اليوم قلبي ويخونني الرجاء؟ مشيت متمهلا فاجتزت الباب الخارجي ووجدتني في ساحة القصر حيث يسير الجندي الحارس ذهابا وإيابا. بادرته بالسؤال عن الكونتس فأجاب إنها في القصر. فقرعت جرس الدخول وانتظرت، وفي تلك اللحظة دهشت لما أنا فاعل إذ قد يكون بين الخدم من يعرفني، ولا أنا أجرأ على ذكر اسمي لأني قضيت الأسابيع الماضية تائها في الجبال وقد أهملت أمر لباسي وهندامي حتى صرت أشبه بالمتسولين، فماذا أقول، وعمن أسأل؟ لم يطل هجسي لأن الباب فتح وظهر منه البواب في زي خدم الأمراء وحدق في مبهوتا.
سألت عن السيدة الإنجليزية وصيفة الكونتس فقال إنها هناك. فطلبت قرطاسا وقلما وكتبت إليها: إني قدمت للاستعلام عن صحة الكونتس.
فبعث البواب بالرسالة مع خادم سمعت وقع خطواته المتباعدة في أبهاء القصر وممراته، وما تلاشت تلك الخطوات حتى صار موقفي لا يحتمل، فأخذت أنظر إلى ما علق على الجدران من صور أفراد الأسرة الراحلين: فرسان تدججوا بالسلاح، وسيدات ارتدين الزي القديم وفي وسطهن راهبة بثوب ناصع البياض وعلى صدرها صليب أحمر. لقد رأيت هذه الصور قبل اليوم في أحوال مختلفة ولم أفكر قط أن قلوبا خفقت في هذه الصدور. وها إن ملامح هذه الوجوه تظهر اليوم كتبا ملأى بالمعاني وكأنها تقول جميعا: «لقد عشنا نحن أيضا وتألمنا مثلك.» نعم، نعم تحت هذه الأسلحة دفنت أسرار كالتي تفطر الآن حشاشتي، وفي صدر الراهبة ذات الثوب الأبيض والصليب الأحمر جاشت العواطف المتلاطمة الآن في صدري. خيل إلي أن العيون تطل علي من الرسوم مشفقة. ثم اختفت الشفقة وحل الكبرياء مكانها وقالت الصور وأهلها: «أنت لست منا» وكانت تمر الدقائق فينمو وجلي إلى أن سمعت وقع أقدام خفيفة. وإذا بالسيدة الإنجليزية تشير إلي بدخول إحدى الغرف، فنظرت إليها مستفسرا لأقف على ما تعرف مما جرى ولكن ملامحها بقيت هادئة لا يبدو عليها دهشة أو تعجب أو أي اهتمام خاص. وقالت بصوت رزين إن صحة الكونتس في تحسن وإنها ستقابلني بعد نصف ساعة.
مثلما يأمل الغريق بالنجاة بعد يأس الموت إذ يرى نفسه آمنا على الشاطئ عقب أن تقاذفته اللجج، كذلك كان وقع هذه الكلمات في نفسي. ها أنذا أدنو إذن من حقيقة جديدة وما آلامي الماضية سوى أضغاث أحلام. قليلة هي هذه اللمحات، لمحات الغبطة المتناهية، في حياة الإنسان وألوف ألوف من البشر لا يتذوقون هناءها. إنما الأم التي تناغي رضيعها لأول مرة، والوالد الذي يذهب لاستقبال وحيده عائدا من الحرب وقد أثقلت جبهته أكاليل المجد والنصر، والشاعر الذي تعترف له أمته بالعبقرية وتحييه بالهتاف والثناء، والشاب الذي يشعر بأن يد فتاته تسيل حبا في يده، أولئك وحدهم يدركون لذة الأحلام إذا هي انقلبت حقائق.
مضى الوقت المعين فجاء الخادم وسار بي خلال غرف كثيرة ثم فتح بابا فلمحت في نور الشفق الضئيل شبحا أبيض أمام نافذة عالية أطلت على البحيرة والجبال المتلظية الساطعة. - «ما أعجب تلاقى البشر بعد الفراق الطويل!» سمعت صوتها العذب يلفظ هذه الكلمات فكانت كل منها بردا على قلبي وسلاما.
فرددت كلماتها قائلا: «ما أعجب التلاقي وما أعجب الفراق!» وأمسكت بيدها فأدركت أننا معا وعلى مقربة الواحد من الآخر.
فقالت: «إذا هم افترقوا فما الذنب إلا ذنبهم.» قالت ذلك وصوتها المنسجم النبرات عادة كموسيقى سماوية، يتهدج قليلا.
अज्ञात पृष्ठ