وأين نحن؟ من الواضح أننا جاوزنا في ثلاثة أسطر ما بين الفلسفة اليونانية والفلسفة الشرقية من فاصلة، ولكن هل انتهينا إلى مذهب جبري؟ إن من الصعب أن يعرف ذلك. ومع ذلك، فإن المؤلف يقول موضحا: «(49) إن ظن ظان أنه يفعل ويختار ما يشاء، استكشف عن اختياره هل هو حادث فيه بعدما لم يكن أو غير حادث، فإن كان غير حادث فيه لزم أن يصحبه ذلك الاختيار منذ أول وجوده، ويلزم أن يكون مطبوعا على ذلك الاختيار لا ينفك عنه، ولزم القول بأن اختياره مقتضى فيه من غيره، وإن كان حادثا، ولكل حادث سبب محدث، فيكون اختياره عن سبب اقتضاه ومحدث أحدثه، فإما أن يكون بالاختيار هو أو غيره، فإن كان هو بنفسه فلا يخلو إما أن يكون إيجاده للاختيار، وهذا يتسلسل إلى غير النهاية، أو يكون وجود الاختيار فيه، لا بالاختيار، فيكون محمولا على ذلك الاختيار من غيره، وينتهي إلى الأسباب الخارجة عنه التي ليست باختياره؛ فينتهي إلى الاختيار الأزلي، الذي أوجب ترتيب الكل في الخارج على ما هو عليه؛ فإنه إن انتهى إلى اختيار حادث عاد الكلام إلى الرأس، فتبين من هذا أن كل كائن من خير أو شر يستند إلى الأسباب المنبعثة عن الإرادة الأزلية.»
وهل أفضت هذه البرهنة القوية إلى الجبرية نهائيا؟ إنني لا أجرؤ على توكيد ذلك بالحقيقة؛ وذلك أنني لا أجد في أي قسم آخر من أثر الفارابي أنه أنكر حرية الإنسان، وترى له في كل موضع لهجة رجل يؤمن بالأخلاق والعمل الحر، ولو نظر إلى هذا المذهب المزعج، من حيث الأساس، لوجد أنه جبري وغير جبري معا؛ فالإنسان عند الفيلسوف مختار، وهذا ما أنا مطمئن إليه، ولكن الفيلسوف يرى وجود سبب للعمل الحر، وقد يكون من المناسب أن يطلق معنى آخر على كلمة السبب هنا؛ أي معنى أقل إطلاقا من المعنى الذي لها في الحياة الفزياوية. وكل سبب - ولو ضمن هذا المعنى الجديد - مسبب أيضا، والله هو سبب الأسباب؛ ولذا يوجد هناك تناقض، أو تعارض خفي على الأقل، ومن الجلي أن الفارابي لا يقصد حل ذلك إلا بالتصوف.
ويزدهر علم النفس لدى هذا المؤلف بالتصوف أيضا، «(27) فأنت مركب من جوهرين: أحدها مشكل مصور، مكيف مقدر، متحرك ساكن، متحيز منقسم، والثاني مباين للأول في هذه الصفات، غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل ويعرض عنه الوهم، فقد جمعت من عالم الخلق ومن عالم الأمر؛ لأن روحك من أمر ربك، وبدنك من خلق ربك.» ومما هو جدير بالنظر في هذه العبارة مقدار ما يفصل فيه من تقسيم الإنسان إلى روح وجسم تقسيما ثنائيا، وأغلب ما عليه الفلاسفة هو التقسيم الثلاثي مع الإيضاح، والقائم على كون النفس من روح وبدن. «(39) فالروح الإنسانية كمرآة، والعقل النظري كصقالها، والمعقولات ترتسم فيها من الفيض الإلهي كما ترتسم الأشباح في المرايا الصقيلة.» فإذا كان رونق نفسك صافيا ولا يداخله أي عائق «لحظت الملكوت الأعلى واتصلت باللذة العليا»، «(41) والروح الإنسانية - وهي التي تتلقى المعقولات بالقبول - جوهر غير جسماني، وليس بمتحيز ولا بمتمكن، بل غير داخل في وهم، ولا مدرك بالحس؛ لأنه من حيز الأمر.»
وتعبر صيغ كثيرة أخرى عن هذه المعارضة بين الحس والعقل إليك أكثرها تكثيفا: «(44) الحس تصرفه فيما هو من عالم الخلق، والعقل تصرفه فيما هو من عالم الأمر.» وقد أتبعت هذه الصيغة بهذه النتيجة، التي هي أكثر تصوفا أيضا: «وما هو فوق الأمر والخلق فهو محتجب عن الحس والعقل ، وليس حجابه غير انكشافه.»
ويرى الفارابي أن يعرف الله: «(45) الذات الأحدية لا سبيل إلى إدراكها، بل تعرف بصفاتها، وغاية السبيل إليها الاستبصار بأن لا سبيل إليها»، ونظرية الله عميقة جدا: «(8) واجب الوجود بذاته لا جنس له، ولا فصل له، ولا نوع له، ولا ند له ... وهو مبدأ كل فيض»، وهو داخل وخارج؛ أي ظاهر وباطن معا، «(53) فهو في ذاته ظاهر، ولشدة ظهوره باطن»؛ أي إن نور ظهوره وهو من الشدة ما يعمي، وهو خفي بهذا، «وبه يظهر كل ظاهر»، وكل شيء ظاهر فيه كما في نور الشمس، وله بعد ظهوره بذاته ظهور ثان بآياته، «وظاهريته الثانية تتصل بالكثرة، وتنبعث من ظاهريته الأولى التي هي الوحدة.»
وإليك بعض الصيغ التي تتعلق بالمعرفة بالله: «لا يجوز أن يقال: إن الحق الأول يدرك الأمور المبدعة عن قدرته من جهة تلك الأمور كما تدرك الأشياء المحسوسة من جهة حضورها وتأثيرها فينا، فتكون هي الأسباب لعالمية الحق، بل يجب أن يعلم أن يدرك الأشياء من ذاته تقدست؛ لأنه إذا لاحظ ذاته لاحظ القدرة المستعلية فلحظ من القدرة المقدور، فلحظ الكل، فيكون علمه بذاته سبب علمه بغيره، إذ يجوز أن يكون بعض العلم سببا لبعضه، فإن علم الحق الأول بطاعة العبد الذي قدر طاعته سبب لعلمه بأن ينال رحمته.» «(55) وفي علم الله الكثرة الغير المتناهية بحسب كثرة المعلومات الغير المتناهية، وبحسب مقابلة القوة والقدرة الغير المتناهية، فلا كثرة في الذات، بل بعد الذات، فإن الصفة بعد الذات لا بزمان، بل بترتيب الوجود.»
ومن ذلك كله، يرى أن الفارابي يبتعد عن النظرية الفلسفية القائلة: إن الله لا يعرف العالم، وأنه يوغل في الرأي الصوفي القائل إن الوجود الإلهي قادر على كل شيء، ويقدر كل شيء، ويرى كل شيء، ويعلم كل شيء، ويجاوز الفارابي معضلة الفلسفة اللاهوتية من بعض الوجوه، وهو في كل دقيقة يتخطى حدود الفلسفة إلى التصوف، وإليك العبارة الآتية أيضا: «(13) لحظت الأحدية نفسها فكانت قدرة، فلحظت القدرة، فلزم العلم الثاني المشتمل على الكثرة، وهناك أفق عالم الربوبية يليها عالم الأمر، يجري له القلم على اللوح،
17
فتتكثر الوحدة حيث يغشى السدرة ما يغشى، ويلقى الروح والكلمة، وهناك أفق عالم الأمر، يليها العرش والكرسي والسماوات وما فيها كل يسبح بحمده، ثم يدور على الأمر، وهناك عالم الخلق يلتفت منه إلى عالم الأمر، ويأتونه كل فردا.»
وقد خلط الفارابي اصطلاح القرآن بالاصطلاح الفلسفي، ولكنه ترك القرآن والفلسفة بالحقيقة، وذلك ليدخل مناطق لا نستطيع أن نتبعه إليها الآن على الأقل، وسنحيد عن هذه المذاهب، وسنتقبل منه هذا اللوم البسكالي تقريبا: «(11) انفذ إلى الأحدية تدهش إلى الأبدية.»
अज्ञात पृष्ठ