50
أن الخليفة المأمون كان ذاهبا لغزو دولة الروم في سنة 215، فمر من حران، فدهش إذ رأى بين أهلها الذين أتوا لتحيته أناسا ذوي زي غريب؛ أي لابسين ثيابا ضيقة وطويلي الشعور، فسأل الخليفة هؤلاء الرجال عن أصلهم فأجابوه: نحن حرانيون، هل أنتم نصارى؟ كلا. يهود؟ كلا. مجوس؟
51
كلا. هل لكم كتاب مقدس أو نبي؟ فأتوه بجواب قائم على المراوغة، فقال الخليفة صارخا: إذن، أنتم زنادقة. وبما أنهم طلبوا أن يدفعوا الجزية، فقد صرح لهم بأنه لن يطيق وجودهم ما لم يسلموا أو يعتنقوا - على الأقل - أحد الأديان التي كان النبي قد بين أنه يمكن المسامحة فيها، وإن لم يفعلوا ذلك فإنه يبيدهم عن بكرة أبيهم.
وقد منح الخليفة أهل حران - كيما يقطعون في الموضوع - جميع الوقت الذي ينقضي حتى رجوعه، وقد مات في طريقه، غير أنه كان من الممكن إثارة المسألة في كل وقت، ولا بد لأهل حران من البت، فاعتنق بعضهم الإسلام والنصرانية، وتردد طويلا عدد كبير منهم كان متمسكا بدينه، فنجا من الورطة بفضل عالم مسلم كان يقيم بحران، فقد قال لهم هذا العالم: «إنه يوجد دين معروف قليلا جدا، وإن النبي سمح به، وهذا الدين هو دين الصابئين، وهو دين لا يعرف ما هو مطلقا، فانتحلوا اسمهم، فإذا فعلتم ذلك لم يعارضكم أحد، وعشتم مطمئنين.» وهكذا رئي في زمن خلفاء المأمون ظهور جماعات صابئية في حران وفي أماكن أخرى كانت مجهولة سابقا، ولم يكن بينها وبين المندائية أية صلة كانت.
وقديما كان أهل حران قد تعرضوا لأخطار عظيمة في عهد الرشيد؛ وذلك أنه وجد في معبدهم - كما يزعم - رأس بشري مجفف، مزخرف بشفتين من ذهب، كان ينفعهم في كشف الغيب، ففكر في استئصالهم، فأقاموا بهذه المناسبة مذخرا من البلايا.
وقد اطلعنا على مذهب صابئة حران بمصدرين رئيسين، مستقل كل منهما عن الآخر وهما: الفهرست الذي هو مجموعة عربية مهمة عن تاريخ العلوم ألفها النديم، وكتاب الشهرستاني الذي صار مألوفا لدى قرائنا، ويقوم أساس هذا المذهب الديني على عبادة أرواح النجوم مع اتباع علم التنجيم والسحر له، وهذه مواصلة للوثنية البابلية، كما قال مسيو دوغويه.
ومع ذلك، فإن هنالك ما يدعو إلى الاعتقاد - من قبل العلماء على الأقل - بأن هذه الوثنية كانت قد قامت على أفكار مستنبطة من الأفلاطونية الجديدة أو الأدرية، ولم يتفق العلماء على معرفة هل كان أهل حران موحدين، أو مشركين حقا. وأما مذهب الصابئة، الذي روى مؤلفو العرب خبره، فمن الواضح أنه رتب نحو التوحيد، فآلهة السيارات تابعون لإله عال، يكونون بالنسبة إليه كأرواح الأدريين تقريبا، ومن الدعاء إلى برج الدب الأكبر استنجاد هذا البرج باسم القوة التي وضعها فيه خالق الجميع، ويتوسل إلى المشتري «بسيد البناء الرفيع وصاحب اللطف والخيرات والأول بين الجميع والأبدي الوحيد»، وتدعى الشمس بعلة العلل، وهذا لا يعني أنها الإله الأعلى.
وعند النديم أن أهل حران كانوا قد انتحلوا - حول الهيولي والعناصر والصورة والزمان والمكان والحركة - كثيرا من الآراء المشائية، فيقولون: إن الأجسام التابعة مركبة من العناصر الأربعة العادية على حين صنع الجسم السماوي من عنصر خامس، وعندهم أن الروح جوهر خال من عوارض الجسم، وأن الله ضرب من اللامعلوم غير الحائز لصفة، فلا يمكن أن ينطبق عليه أي حكم ولا برهان.
ويروي الشهرستاني أن النفس المشتركة بين الناس والملائكة لدى الحرانيين هي على خلاف النفس الحيوانية، فهي جوهر لا جسمي، متم للجسم ويتحرك بحرية،
अज्ञात पृष्ठ