وبقي علينا أن نشغل بالنا بصنف من العلماء لم ينتسبوا إلى النصرانية ولا إلى الإسلام، ولا إلى ديانتي فارس والهند أيضا، بل إلى ملة خاصة، تألق نجمها بعد عهد المأمون، وأقصد بذلك الصابئين.
ولا توجد في حقل العلم الشرقي معضلة أكثر بلبلة، وأشد إثارة للغيظ من معضلة أصل بعض الملل أو الديانات الصغيرة، التي بقيت حية بجانب الإسلام، جارة معها جميع أنقاض كل نوع من المذاهب والمعتقدات القديمة، كالمندائية والصابئية، وديانتي اليزيدية والنصيرية، وتعد الصابئية جديرة بالذكر بين جميع هذه الملل، بعلو مزية الرجال الذين ازدانت بهم، وبسبب ما أظهر هؤلاء الرجال من تمسك بها.
ويوجد في هذه الديانات الصغيرة عناصر كثيرة بعضها قديم إلى الغاية، وبقايا من الوثنية الكلدانية، وأفكار من الأفلاطونية الجديدة ومن الأدرية، وأساطير يهودية وطقوس ترجع إلى أصول النصرانية، ولكنه لم يوصل بعد إلى تقديم صيغ نهائية عن هذه المجموعات الغريبة، ولا إلى رد دقيق مقبول لمختلف الأطوار التاريخية، التي مرت بها هذه الملل، وأجدني محمولا - مع ذلك - على الاعتقاد بأن تأثير هذه الديانات الصغيرة - ولا سيما الصابئية - في الإسلام أعظم مما يفترض أول وهلة، وأبعد غورا في كل حال لا يوافق مؤلفو الإسلام على الاعتراف به.
ويفرق في الآداب العربية بين نوعين من الصابئة: الصابئين الذين ذكروا في القرآن، وصنفهم محمد بين «أهل الكتاب»؛ أي بين الأمم الحائزة كتابا منزلا؛ أي بجانب اليهود والنصارى، والصابئين الذين امتازوا في العلم بعد زمن المأمون، وكان محل إقامتهم الرئيس في حران من العراق، وقد انتهى كلسن، في كتابه الضخم عن الصابئين والصابئية،
44
إلى تطابق صابئة القرآن والحسيحية، التي لم تكن ملة ومطابقة للمندائية كما ذهب إليه، بل كانت كثيرة الشبه بهم .
وكانت الحسيحية قد أقيمت في أوائل القرن الثاني من تاريخنا بجنوب العراق في مكان واسط والبصرة، وذلك من قبل رجل يدعى الحسيح، جاء من شمال فارس الغربي، مشبعا من آراء زرادشت خاصة، وآمرا بشعائر فارسية، وكان العماد والتطهير بالماء شعاري الحسيحية والمندائية الجوهريين، ويشتق اسم الصابئي من كلمة «صابا» الآرامية، التي تجيء بمعنى الاغتسال، ويرى أن لهذا الاسم معنى العماد تقريبا، وكان يوجد للمندائية - الذين نعلمهم أكثر مما نعلم الحسيحية - كتب مقدسة.
وترجم براند إلى الألمانية قسما من هذه النصوص،
45
التي يجب وضع تاريخ كتابتها بين سنتي 650 و900 من الميلاد كما يرى نلدكه؛
अज्ञात पृष्ठ