وللأجسام - أيضا - هذه الميول الطبيعية التي تصدر عن قوى باطنية، والجواهر وحدها أبدية، والأعراض هي المتقلبة والمتحركة، وهي تعبر - بسبب القوة الملازمة للجواهر - عن ظهور حياة الأجسام والروح، فإذا ما أحسن إدراك هذا النظام جيدا وجد أنه يؤدي إلى ضرب من علم الذرات الحية.
وأظهر الجاحظ الرأي الغريب القائل: إن المحكوم عليهم بالعذاب لا يعذبون في النار إلى الأبد، وإنما يتحولون إلى طبيعة النار. وأما من حيث نظرية الوحي، فإنه يعزى إلى الجاحظ رأي غريب آخر قائل: إن القرآن جسد مخلوق يمكن أن يتحول إلى إنسان أو إلى حيوان.
أجل، إننا نصل بالجاحظ - المتوفى سنة 255 - إلى عصر الكندي، الذي هو أول عظماء الفلاسفة، ولكننا، لكيلا نعود إلى المعتزلة مؤخرا، نتتبع - مع الإيجاز - تاريخ هذه الفرقة الممتعة حتى زمن العالم اللاهوتي: الأشعري.
يمتاز الخياط - في هذا الدور - في مدرسة المعتزلة ببغداد؛ فقد أقام نظرية ذات مظهر نفساني على شيء من الابتكار، فهو يطلق اسم الشيء على ما هو معروف؛ أي ما يمكن أن يحدث عنه، وللشيء عنده حقيقة مستقلة عن وجوده، وليس الموجود سوى صفة تضاف إلى الشيء؛ فالسواد - مثلا - سواد حتى في العدم، وإن شئت فقل: إن الشيء حقيقي - قبلا - في المعقول البسيط مع ماهيته وصفاته، وإن إيجاد الشيء يحدد بإضافة صفة الموجود إلى هذه الماهية أو الصفات الحقيقية.
وفي مدرسة المعتزلة بالبصرة يتغلب اسمان، وهما: اسم الجبائي المتوفى سنة 303، واسم ابنه أبي هاشم. وينطوي اختلاف هذين العالمين في موضوع الصفات الإلهية على دقة متناهية. وقديما كان العالم الكبير أبو الهذيل قد أزال جميع الصفات حتى في معقول الوجود الإلهي، فيجد أبو هاشم أن هذا المعقول المحض على شيء من الفراغ، ويحاول أن يملأه، وأن يجعل منه صورة عن الله أكثر حيوية.
وعند أبي هاشم أن الصفات وجوه منفصلة عن الوجود، ولكن مع كونها غير موجودة ولا معروفة بنفسها، فلا يمكن أن تكون موجودة معروفة إلا بالماهية الإلهية؛ فالعقل يميز الشيء المعروف بذاته والشيء المعروف بإحدى صفاته. وهذه الأحكام التي يجمع العقل بها الصفات أو يفصلها لا تأتي لتوكيد الموجود وحده ولا لتوكيد الأعراض بجانب الموجود؛ ولذا، فإن الصفات أنواع وجوه ذات وجود نفساني لدى من يعرف الوجود الإلهي، حتى إن نفسانية هذه النظرية مما أنكر الجبائي، وقد لاح للجبائي أن هذه الوجوه ترد إلى أسماء لا تنطوي على معقول ولا على تصورات للنفس نسبية محضا، عاجزة عن المباهاة مثل صفات، وهو يكاد يلزم مذهب أبي الهذيل.
وكان العالم اللاهوتي المشهور، الأشعري (260-324) - الذي يأتي في الذروة من تاريخ اللاهوت الفلسفي لدى المسلمين - تلميذا للجبائي وابنه، ولكن بما أننا لا نريد الكلام عنه في هذا الكتاب فإن من الملائم أن نقف. •••
قلنا إن المعتزلة كانوا أكثر الفرق الإسلامية فلسفة، وإننا لا نتعرض لتاريخ الفرق الكلامية والفقهية والصوفية والسياسية، وتكفي أسطر قليلة عن الفرق المعارضة للمعتزلة للإشعار بأفضلية هؤلاء، ولتمثل الحركة الفكرية الواسعة التي تمت في الدور الذي نتفرغ له، والذي ذكرنا أنه أكثر ما تلتفت إليه الفلسفة الصرفة.
وقد رئي - في مقابل النظرية الاعتزالية القائلة بنفي الصفات الإلهية - قيام نظرية معاكسة توكد هذه الصفات إلى حد تقع به في مذهب المشبهة؛ فيطلق - على العموم - اسم «الصفاتية» على المسلمين الذين يوكدون حقيقة الصفات الإلهية وفق السنة. ولما ظهر النقد الاعتزالي لجأ بعض الصفاتية إلى نظرية حذرة عن الألوهية التي يتعذر إدراكها، فقالوا: لا ريب في أن الله ليس شبيها بالإنسان، وأنه لا مثيل له ولا شريك، وأنه يجهل - كما هو مجمل القول - المعنى الحقيقي لآي القرآن التي تشتمل على صور تشبيهية. ووجد صفاتية آخرون وقعوا - بالعكس - في إفراط عجيب، ومن بينهم نذكر محمد بن كرام، الذي هو مؤسس لفرقة مهمة في سورية على الخصوص، وأصل هذا الوجيه من سجستان، وتوفي سنة 256 بزغر ودفن في القدس.
11
अज्ञात पृष्ठ