ويترقى الإنسان إلى هذا العقل بالاستعداد له والمثابرة على الارتقاء في درجات المعرفة من الطبيعيات إلى الرياضيات إلى الإلهيات. وقد يصل العقل إلى هذه المرتبة بالوحي والإلهام كما يصل الأولياء والأنبياء . فالنبوة والحكمة طريقان إلى الله: هذه بالتعليم وتلك بالإلهام.
والنفوس لا تترك سدى في هذه العوالم السفلية؛ لأن الشوق يحفزها إلى طلب الكمال، واللطف من جانب الكائنات العليا يجذبها إليها فترتفع بدافع منها وبجاذب من العقول العليا. وإنما كان العقل الإنساني ميالا إلى جمع الصور لأنه يحب الارتقاء إلى مصدر الصور وهو العقل الفعال؛ ولأن العقل الفعال يحب أن يعيد الصور المفرقة في الأجسام إلى مصدرها منه وينبوعها فيه.
ومتى رجع العقل بالفعل إلى العقل الفعال فذلك هو النعيم المقيم والخلود الموعود، وتزداد لذة النفوس بالتجمع في مصدرها كما تزداد لذة النفس الواحدة بتجمع الصور وائتلاف المعاني في معقولاتها. أما النفس التي تنحط أبدا فلا ترتقي هذا المرتقى ... فهي في عذاب واصب وشعور دائم بالانفصال يؤلمها كما يتألم الإنسان للبتر والاعتلال. وقد ينحدر بها الإسفاف مع الأجساد فتهوي إلى الدرك الأسفل الذي ليس بعده نزول غير نزول العدم بالقوة أو الوجود بالقوة، وهما متساويان؛ لأن الوجود بالقوة هو الذي يمكن أن يوجد ويمكن ألا يوجد، فإن شئت قلت هو معدوم بالقوة وإن شئت قلت هو بالقوة موجود ويتساويان.
الخير والشر
وليس في العالم شر فيما تجاوز هذا الفلك الأدنى - فلك القمر - وهو فلك الممكنات.
فالموجودات الواجبة لا يصدر منها ضرورة غير الخير، والعقول العليا هي من الموجودات الوجوبية لأنها على اتصال متفاوت بواجب الوجود. فكل ما يصدر عنها خير محض لا يشوبه الشر ولا تخالطه الرذيلة. وبهذا ينكر الفارابي أقوال النجوميين في سعود الكواكب ونحوسها، ويبرئها من كل سوء.
أما السوء فإنما يكون في عالم الممكنات التي لا وجوب فيها، وهي هذه الموجودات السفلية التي تتلبس بالهيولى وتنغمس فيها، ويحد بعضها بعضا فلا تزال في نقص من هذه الحدود.
وقد نزع الفارابي منزعا عجيبا في تفسير العدل بين المخلوقات، فسبق القائلين بالتطور وحق الأصلح في البقاء بمئات السنين، فقال إن الناس إذا تمايزوا ... «فينبغي بعد ذلك أن يتغالبوا ويتهارجوا، والأشياء التي يكون عليها التغالب هي السلامة والكرامة واليسار واللذات، وكل ما يوصل به إلى هذه، وينبغي أن يروم كل طائفة أن تسلب جميع ما للأخرى من ذلك وتجعل ذلك لنفسها ويكون كل واحد من كل واحد بهذه الحال. فالقاهرة منها للأخرى على هذه هي الفائزة وهي المغبوطة وهي السعيدة، وهذه الأشياء هي التي في الطبع إما في طبع الإنسان أو في طبع كل طائفة، وهي تابعة لما عليه طبائع الموجودات الطبيعية. فما في الطبع هو العدل. فالعدل إذن التغالب. والعدل هو أن يقهر ما اتفق منها، والمقهور إما أن قهر على سلامة بدنه هلك أو تلف وانفرد القاهر بالوجود، أو قهر على كرامته وبقي ذليلا ومستعبدا تستعبده الطائفة القاهرة وينفع ما هو الأنفع للقاهر في أن ينال به الخير الذي عليه الغالب ويستديم به. فاستعباد القاهر للمقهور هو أيضا من العدل، وأن يفعل المقهور ما هو أنفع للقاهر هو أيضا عدل. فهذه كلها هي العدل الطبيعي وهي الفضيلة ...»
فالشر من عالم الإمكان لا من عالم الوجوب.
وهو كذلك لأن عالم الإمكان يكثر فيه النقص وتتزاحم فيه الحدود. ومع هذا يكون التزاحم أو التغالب سببا للعدل والصلاح، ويأتي منه الخير لمن هو أولى بالخير، إلى أن تخلص النفوس إلى عالم «الوجوب» أو عالم العقل المحض، فينتفي الشر العارض ويصمد الخير الأصيل.
अज्ञात पृष्ठ